كيف طوّع الأمير محمد بن سلمان النائب العام لتحقيق أهدافه السياسية

تُظهر حملة مكافحة الفساد في المملكة العربية السعودية كيف يُستخدَم الادعاء العام من أجل إضفاء واجهة من الشرعية على ملاحقة الأشخاص المُستهدَفين.

سعود المعجب: نائب عام مطواع

بقلم عبدالله العودة*

أعلن المسؤولون السعوديون، في كانون الثاني (يناير) الفائت، أنهم يسعون – في إطار حملة مكافحة الفساد – إلى إسترداد “أموال غير مشروعة” تبلغ أكثر من مئة مليار دولار. ولم يكن واضحاً كيف إعتمدت حملة يُفترَض أنها قانونية، هدفاً إقتصادياً مُحدّداً من هذا القبيل، ولم يكن واضحاً أيضاً ما إذا كانت الإجراءات القضائية قادرة على التعامل مع هذه الخطوات الحسّاسة والمهمة ضد شخصيات ذات شأن في البلاد. إن هذه الإجراءآت التي يشرف عليها ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان وليس الإدّعاء العام تُسلّط الضوء على سيطرة السلطة التنفيذية المُتنامية على القضاء.
في 17 حزيران (يونيو) 2017، صدر مرسوم ملكي نصّ على تغيير منصب المُدّعي العام إلى منصب النائب العام، والأهم من ذلك، إدّعى المرسوم منح النيابة العامة – المسؤولة عن التحقيقات والملاحقة القضائية في القضايا الجنائية – “إستقلالاً تاماً” عبر جعلها مرتبطة مباشرةً بالملك. لقد حلّت النيابة العامة الجديدة مكان هيئة التحقيق والإدعاء العام، التي كانت تخضع لإشراف وزارة الداخلية، وفق ما تنص عليه المادة الأولى من نظام هيئة التحقيق والإدعاء العام – مع الإشارة إلى أنه قبل شباط (فبراير) 2015، لم يكن موظّفو الهيئة يُعتبَرون حتى مسؤولين قضائيين. وقد أبدى عدد كبير من القضاة والمحامين ترحيبهم بالترتيب الجديد، ورأوا فيه خطوةً نحو إستقلال القضاء وتطبيق سيادة القانون. وقال لي قاضٍ سابق أصبح محامياً بأن جميع القضاة الذين إستطلع آراءهم، إعتبروا أن ربط النيابة العامة مباشرةً بالملك “تغييراً إيجابياً” يُمكن أن يحمي الإدّعاء العام من التدخل المباشر من السلطة التنفيذية، لا سيما من وزير الداخلية.
تزامناً مع المرسوم، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بتعيين سعود المعجب نائباً عاماً، قبل أربعة أيام فقط من التعديل الكبير الذي نُصِّب من خلاله الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد. وعلى الرغم من أن بعض القضاة أبدى سروره لأن النائب العام الجديد شخصية تقليدية محافظة ذات خلفية في الشريعة الإسلامية، فإن عدداً كبيراً من القضاة والمحامين أعرب عن خيبة أمله. ومع أن المعجب عمل في البداية قاضياً، ثم عضواً في المجلس الأعلى للقضاء، إلّا أن تجربته إقتصرت، بصورة شبه حصرية، على قضايا الأحوال الشخصية – ما يعني أن معرفته وخبرته أكثر محدودية في مجال القانون الجنائي الذي يجب أن يكون النائب العام ضليعاً فيه. وفقاً لأحد القضاة، فإن المعجب غير حائز على شهادة عُليا، ولم يؤلّف كتباً أو يُصدر أبحاثاً، ولم يشارك في نقاشات فقهية حول القانون الجنائي.
كذلك إنقسم القضاة والمحامون حول التوصية التي أصدرها المعجب بعد بضعة أيام من تعيينه، والتي قضت بالتعجيل في إجراءات محاكمة جميع المُعتقَلين المتّهمين في قضايا جنائية. كان عددٌ كبير من القضايا الجنائية قد شهِد تأخيراً، لأسباب بيروقراطية على الأرجح، غير أن النائب العام الجديد ألقى باللائمة على القضاة. في حين أن التوصية تطرّقت إلى أمرٍ إعتبره عدد كبير من القضاة مصدراً مشروعاً للقلق ، إلا أن التوصية – على أية حال – لم تُساهم في التعجيل في المحاكمات، ورأى بعض القضاة في الخطوة تعدّياً على إختصاصهم. وأفضى هذا التشنّج، في آب (أغسطس) 2017، إلى تسرّب أخبار عن وقوع خلاف بين النائب العام ووزير العدل وليد بن محمد الصمعاني على خلفية هذه المسألة.
في حين يرى البعض في المشاحنة مؤشّراً عن خلاف أعمق بين النائب العام المتقدّم في السن والتقليدي المحافظ من جهة، وبين وزير العدل الشاب والإصلاحي من جهة أخرى، إلّا أن المشكلة الحقيقية تكمن في السيطرة المتواصلة التي تمارسها السلطة التنفيذية على الشؤون القضائية، والتي فرضت تعيين شخصية طيّعة مثل المعجب. الواقع أنه لم يكن للمعجب، خلال عضويته في المجلس الأعلى للقضاء، تأثيرٌ يُذكَر، وكان يدعم كل القرارات الصادرة عن رئيس المجلس آنذاك. ويقول أحد القضاة إنه “من السهل جداً التحكّم” بالمعجب. وهكذا فإن التغيير الذي تأخّر كثيراً، أتاح للحكومة تعيين شخص يمكن التأثير فيه – شخص يستطيع تسهيل حملة التطهير التي كان محمد بن سلمان مزمعاً على شنّها خارج نطاق الإجراءات القضائية.
في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، بدأت الحملة ضد الأمراء والمسؤولين في الحقل العام بعد صدور مرسوم ملكي ينص على إنشاء لجنة لمكافحة الفساد برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. تمّ إختيار المعجب للإنضمام إلى اللجنة ليكون فيها بصفة عضو عادي فحسب – هذا مع العلم بأن اللجنة باعتبارها تمارس مهمة الإدعاء كان يجب أن تندرج ضمن صلاحيات المعجب كنائب عام وتكون برئاسته. وعلى الرغم من أن المرسوم الصادر في حزيران (يونيو) 2017 ينص على أن النائب العام مرتبط مباشرةً بالملك، إلا أنه، بصفته عضواً في لجنة مكافحة الفساد، مرتبطٌ بولي العهد. وهذا الإجراء ينطوي على تناقض قانوني كبير.فقد أصدر المعجب، في الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر)، بياناً خطياً عن قضايا مكافحة الفساد التي تنظر فيها اللجنة، غير أن بعض القضاة السعوديين لاحظ أن البيان يستخدم لغة تقنية وقانونية جداً غير معهودة من أشخاص ذوي خلفية خالصة في الشريعة الإسلامية مثل المعجب – في تلميح إلى أنه ربما قام شخصٌ آخر بصياغة نص البيان بدلاً منه، وقد يكون هذا الشخص هو ولي العهد الحائز على بكالوريس في الحقوق. وفي بيان المعجب لغة مريبة لأمثاله حين يقول: “تم الحصول على تفويض قانوني واضح للإنتقال إلى المرحلة التالية… وحماية الحقوق القانونية للمتّهمين”، فلم يتّضح لماذا إحتاج النائب العام إلى تفويض قانوني إضافي لملاحقة قضايا الفساد، ومَن هي الجهة المخوَّلة إعطاؤه هذا التفويض.
على الرغم من بيان المعجب، كان واضحاً أن حملة تطهير الفساد تلتفّ على الآلية القضائية المعهودة. وعلى الرغم من التغطية الواسعة للحملة، لم يؤتَ على ذكر صفقات أو معاملات مشبوهة محدّدة. وليس واضحاً حتى الآن ما هو المقصود بالأموال غير المشروعة التي تصل قيمتها إلى أكثر من مئة مليار دولار، أو كيف إحتُسِبت هذه الأموال. هذا الإلتباس أتاح هامشاً أمام اللجنة لإستهداف بعض الشخصيات بصورة عشوائية وغضّ النظر عن شخصيات أخرى متورّطة في الصفقات نفسها التي تجري حولها التحقيقات. فضلاً عن ذلك، وبعد بضعة أيام من إنطلاق حملة مكافحة الفساد، نَعَتَ مسؤول سعودي كبير المقاربة التي تعتمدها لجنة مكافحة الفساد بأنها “مساومة قضائية” (نظام صفقات الإدانة المعروفة عالمياً) يقودها النائب العام بدلاً من إحالة القضايا إلى المحكمة. وعلى الرغم من أن العملية تبقى مُبهمة وملتبسة، إلا أن المعجب أعلن أن معظم الأشخاص الذين إستهدفتهم حملة مكافحة الفساد تجنّبوا التبعات القانونية إما عبر التخلّي عن الجزء الأكبر من الحصص التي يملكونها في شركاتهم إلى الحكومة أو عبر تحويل الأموال مباشرةً إلى الحكومة. بيد أن المنظومة القانونية السعودية لم تشتمل قط على مفهومٍ ولو مشابه للمساومة القضائية – ما يجعل الأبواب مشرَّعة على الأرجح أمام تقديم طعون قانونية في المستقبل، في حال لم تحظَ هذه الممارسة بالإعتراف من أي دوائر رسمية أو قانونية، ناهيك عن وجودها في النظام القانوني للبلد. ويبدو أن هذا المفهوم طُرِح لاحقاً لتبرير إستخدام حملة مكافحة الفساد من أجل إبتزاز الأموال من الأمراء ورجال الأعمال الأثرياء، ولماذا لم يمثل أحد من الأشخاص المتّهمين بالفساد أمام المحكمة.
في نهاية المطاف، ساهم المرسوم الذي أحدث تحوّلاً في الإدعاء العام، وكذلك تعيين المعجب، في الدفع بإتجاه هدفَين مُتناقضين. فقد شكّل خطوة نحو إستقلال القضاء – وهو إجراء إصلاحي طال إنتظاره. وبالمقابل، إلتفّ أيضاً على هذا الإستقلال عبر تعيين نائب عام “يسهل التحكّم به”، ويُضفي دمغة قانونية على ممارسات السلطة التنفيذية غير الخاضعة لأي ضوابط. إن هذه السيطرة كانت مطلوبة من أجل النجاح المُعلَن للعملية الخارجة عن نطاق القضاء التي تدير حملةً قانونيةً حسّاسةً جداً ضد الفساد – وهي حملة يجب دعمها والإشادة بها، إنما يجب أن تخضع، في الوقت نفسه، لسيادة القانون.

• عبدالله العودة باحث سعودي وزميل ما بعد الدكتوراه في القانون والحضارة الإسلامية في كلية الحقوق في جامعة ييل الأميركية. لمتابعته عبر تويتر: aalodah@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى