باقٍ من الزمن

رشيد درباس*

أَفْضَلْ العُدَّة، الصَّبْرُ على الشِّدَّة
عبدالله بن العباس

كانت أوراقُ الروزنامة قديمًا تَحملُ على الوجه تاريخَ يومها وعلى الظهر أخبارًا وحِكَمًا وتأويلات مُنَجِّمين، واليوم يحاول اللبنانيون نَزْعَ  كل ورقَة من التسعين المُتَبَقِّية، بحذر شديد خيفة اشتعال أيٍّ منها بما يحترق معها صبر الانتظار الطويل؛ ولكن وجلنا يتفاقم بعد أن نقرأ ظَهرَ ورقة اليوم الآفل الذي يُنبِؤنا بهَولِ الذي يَليه، كأن ” الروزنامة” قد بُرْمِجَت منذ أعوام، على تراكم الأزمات، وخراب المؤسّسات، وتمزيق القانون، وتدنيس الدستور، وصولًا بنا إلى بئس المصير. علينا أن نُدرِكَ أن التسعين المُتبقّية، هي أحْرَجُ أيام الجمهورية بما  يقتضي ضبط الأعصاب، وتمالك الأنفس، وتحكيم العقل والبصيرة، والتمسّك بالحكمة، والاعتصام بالقواسم المُشتَرَكة بين الأكثرية، التي تجمعها المصلحة ببقاء الدولة، وتُفَرّقها رؤاها في كيفية إدارتها، إذ إن المطلوب، وأكثر من أيِّ مرة، أن تقومَ هذه الأكثرية غير المُتَّحدة، بِلَمِّ نوابها ورصِّ جمهورها ووضع برنامجها لإحباط ما كتب المُنَجِّمون الأشْرار على طوالعنا، وما سعوا به لتهديم الكيان اللبناني، فإن وصلنا إلى نهايةٍ آمنة، نظرَ اللبنانيون بعدها الى الأوراق التسعين المُتساقطة فوجدوها بعد أن فَرِغَت من شحناتها، أشبه بأوراق الخريف، تُصدِرُ خشخشة ولا تُورِث خَشْية. وتجدر الإشارة إلى أن الآمال التي عُقدت على التسوية الرئاسية، تبدّدت بفعل انفكاك مُربّع التحالف الانتخابي الذي أوصل الرئيس إلى السدّة، فذاك لم يكن تحالفًا قائمًا على رؤيةٍ بعيدة، بل على مصالح قريبة سرعان ما تصادمت بُعَيْد الانتخاب.

فإذا عُدنا إلى “يوم المطران”، لكان من جملة تلك الأيام المُفخَّخة التي استطاع البطريرك بشارة الراعي أن يَنزَعَ  فتيلَها بجرأة وحزم، ذلك أن الأمرَ الذي كان مُعَدَّا لتصنيفِ اللبنانيين بين مُمانعين ومُتعامِلين، انقلب سحره الفاشل على الساحر، وظهرَ للعيان أن التذرّع “بأحمال” المطران، أكبر من حشره في بعض مواد قانون العقوبات، فهذه مرّة من مرّاتٍ مُتعاقِبة على مدى السنين، يجري التغاضي عنها بتوافقٍ غير مكتوب، وبمعرفةٍ من الأجهزة والسلطات؛ وهنا يردّني تحرّك الحقّ العام العسكري، إلى تحرّكه يوم “عين الرمانة” بما يُذكّرُ بطُرفةٍ من أعوام الحرب، حيث قامت سيارة “لاندروفر” مُسلّحة  تابعة لحركة “فتح” بإطلاق النار على ثكنة هنري شهاب العسكرية،  فثارت حفيظة الناس، واحتجّت القوى السياسية على اختلافها فبحث “أبو عمار” عن مَخرَجٍ يتنصّل فيه من الحادث، فاقترح عليه الصديق توفيق سلطان مُمازحًا إصدار بيانٍ يقول:” إن ثكنة هنري شهاب هي التي أطلقت النار أثناء مرورها، على موقع ثابت للَّاندروفر المٌسلّح الفلسطيني”. فهل يا تُرى كان حيّ ” عين الرمانة” يقوم بجولةٍ فمرَّ بمظاهرة ثابتة فأطلق عليها النار بما حدا بالحقّ العام العسكري للادعاء فقط على أهالي الحيِّ ومن يمتّون إليه بصلة؟! إن التعامل الخاطىء مع “يوم المطران”، إذا تمادى وأخذته الغفلة أسقط النصوص القانونية عن مرتبة الاحترام وحوّلها إلى أوراقِ “كوتشينة” يستعملها المُستترون خلف القضاء في مقامراتهم اللعينة، وإلّا، فإن القاضي الذي أعلن أنه  “يُطبّق القانون ولا يَسُنَّه”، عليه القيام بتطبيقه في قضايا أخرى لا تقلّ خطرًا وهي من صميم صلاحياته.

أقولُ إن أعيننا ثابتة على العدَّاد وذلك ترقّبًا لنتيجةٍ مزدوجة، الأولى ان يصل إلى صِفْره بسلام، والثانية تحرير دورة التنفّس الوطنية من الاحتباس الذي كان يُعطّلُ كلّ شيء مُحتَجًّا بحق الرئاسة بممارسة ما تَبَقَّى لها من سلطات، علمًا أن الرئاسة تستطيع بما تبقّى لها من وقتٍ قليل أن تُبادِرَ إلى فكِّ ذلك الاحتباس والدعوة إلى تسويةٍ مُنتِجة.

بعد 31 تشرين الأول/أكتوبر أظنّ أن بابًا للبحثِ عن حلولٍ سوف يُفتَح من غير توهّم بقدرة مجلس النواب على انتخابٍ سَلِسٍ للرئيس الجديد وضمن المهلة الدستورية لأن تصارعَ القوى أفضى إلى ارتهانِ مصيرنا  بتسوياتِ أو نزاعاتِ الدول. غير أن مؤتمر جدّة الذي أعلن أنه يُؤثِر مدّ اليد لإيران قبل الاصطدام، قد يؤشِّر إلى قربِ مناخٍ مؤات، يُسَهِّلُ إنجازَ الاستحقاق الدستوري، فخلط الأوراق مُجَدَّدًا، قد يدعو القوى السياسية اللبنانية إلى إعادة نظر بمناهجها، فالعبرة بصحة المسيرة تكمن في نتائجها، فإذا كانت وخيمة، اقتضى التصحيح أو التعديل بما يتلاءم مع الظروف المحلية والاعتبارات الإقليمية والدولية، وبمدى قدرة الشعب على الاحتمال فيما لو قُدِّمَت له رؤية واقعية تُعينه على التعافي. وهذا ما يردّني إلى اتفاق السادس من شباط/فبراير، الذي رُغمَ بنوده الوطنية المقبولة على وجهٍ عام تحوّلَ إلى اتفاقٍ محوري استفاد من موازين القوى، وفرض إيقاعه على الحياة السياسية سحابة سنين بما حدا بالمحاور الأخرى إلى الاشتباك معه تارة أو التفاهم الالتحاقي به تارة أخرى، دون أن يؤدّي ذاك أو هذا لأية إيجابيات، فسقطت طاولات الحوار، واضمحلت مساحة التفاهمات، فيئس الشعب وحاول أن يستردَّ حقوقه مباشرة بالتظاهر، ومداورة بالانتخاب، ولكن الانسدادَ بقي قائمًا على أمل أن تكون هناك شجاعة في فحص النتائج التي أشرت إليها، من أجل إعادة تقويم التجربة السابقة.

فإذا عاينَّا الوضعَ الإقليمي وجدنا القضية الفلسطينية، بعدما كانت قضية العرب المركزية، تراجعت إلى الدفاع عمّا تبقّى من أرض في وجه الاستيطان الصهيوني المُتمادي. ولقد عبّرتُ عن رأيي في الموضوع للأستاذ ابراهيم بيرم، فصاغه على غير ما قصدت، وحقيقة الأمر، أنني كُنتُ في نقاشٍ مع صديقٍ لي، هو سياسي فعّال يؤثر الظل، إذ لحظ كيف فقدت تلك القضية مؤازرة الكثافة السكانية العربية، بخروج مصر والسودان من الصراع، كما انفتح بعض الخليج بأسواقه وأمواله على علاقات مباشرة مع اسرائيل التي تغلغلت في المغرب أيضًا، وباتت حتى الآن آمنة الظهر من الدول الوطنية المحيطة بها، حيث فقد الجيش السوري القدرة على التصدّي، ونيطت به حماية النظام، دون أن يفلح ببسط سيطرته على الاراضي التي يتقاسمها الروس والإيرانيون والأميركيون والأتراك، وهذا يردّنا إلى الانقلاب العسكري الأول الذي قوّض الدولة السورية الدستورية، كما يردّنا إلى  قرار أميركا بحلِّ الجيش العراقي الذي له شرف وقف الهجوم المضاد على الجولان في حرب تموز/يوليو 1973، ولكن أهل الانقلاب سخّروه لغير وظيفته، فخاضوا به حربًا باهظة التكاليف مع إيران، وذهبوا به إلى الكويت فعاد منها مُثخَنًا. أما لبنان الذي له أن يفخر بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي والتحرير، فلم يستثمر ذلك الإنجاز، بل رضخت قواه، بعد مُعاناةٍ طويلة من ازدواجية السلطة مع المنظمات الفلسطينية، لتسليم تنفيذ الطائف إلى الوصاية السورية، فَنُخِرَتْ بُنَى الدولة الدستورية والإدارية والقضائية والمالية والمصرفية فكيف لهم أن يُعِّيرُوها بعد هذا بالقول “أين الدولة لا تأخذ قرارها” أفتغلّونها، وتعرَّونها، وتجيعونها ثم تشيرون عليها  أن تصمت صونًا للعرض… هل تسكت مُغْتَصَبَة؟!!!

خلاصة القول، إن الشعب اللبناني يملك من الخبرة والمرونة والوعي والإدارة والتراث العلمي والفني والاقتصادي، ما يؤهّله لاسترداد جمهورية المئة عام، لأنه بالإضافة إلى كلِّ ما تقدّم، مُتمرّسٌ بمقاومة العدو، مُسلّح بجيشٍ وطني بريء من الانقسامات، وبتقاليده في الديموقراطية وبمبادىء الحرية التي هي  نقيض الاستبداد، وبالتعدّدية التي تكشف عنصرية  دولة اسرائيل.

باقٍ من الزمن ثلاثة هي كالأشهر الحُرُم المتواليات، لا يحلُّ فيها سفك دم، ولا شماتة بأخ، ولا الغرام بالانتقام، بل هي أيام لمِّ الشمل والخروج من العناد والمُكابرة، ومضاعفة الحسنة، والذهاب إلى “دولةٍ سواء” بما يعني أن الدولة إذا تصدّعت كان ترميمها فرض عين على المواطنين كلّهم، أما الإمعان بالاستخفاف بها، وتسخيف هيبتها، وشلّ قدرتها، والتذرُّع بأنها فاقدة  الرجاء، فهذا من قبيل وضع اليد النهائي العلني عليها، بالإرادة المنفردة دون أن يُؤخذ بالاعتبار فشل المحاولات المماثلة كلّها على مدى أكثر من خمسين عامًا.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى