لبنان… السِلاحُ والبَرلَمانُ المُتَشَظِّي

محمّد قوّاص*

باتَ على “حزب الله” أن يَبذُلَ جهودًا إضافية كي يستطيع أن يُلفّقَ الحدَّ المقبول لإمساكه باللعبة السياسية في لبنان. خسر الحزب في الانتخابات النيابية الأخيرة الأكثرية المُريحة الراجحة التي كان يمتلكها قبل ذلك.

ومَن راقبَ وتأمّلَ مؤشّرات جلسة إعادة انتخاب نبيه بِرِّي رئيسًا لمجلس النواب، سهل عليه التقاط الأعراض الأولى لما أخرجته صناديق الاقتراع في 15 أيار (مايو) الماضي.

بالكاد فاز برّي، مرشح الثنائي الشيعي. وبالكاد فاز الياس بوصعب، مرشح “التيار الوطني الحر”، حليف “حزب الله”، بمَنصِبِ نائب رئيس مجلس النواب. احتاج أمرُ الفوز بالمَنصبَين إلى مُداولاتٍ ومُقايضاتٍ وتبادل أصوات لكي يتمكّن برّي ونائبه من الحصول على صوت واحد مُرجّح للفوز. لكن بالمحصلة تمَّ للمُرَشَّحين القوز.

عدد مقاعد مجلس النواب اللبناني يبلغ 128 مقعدًا. نال الفائزان 65 صوتًا لكلٍّ منهما، أي النصف زائد 1 فقط لا غير. أيّ أن نصف برلمان لبنان عارض أو لم يُصوّت لمُرَشحَي تحالف الثنائي الشيعي والتيار العوني. وإذا ما كان انتخاب رئاسة المجلس، وهو استحقاق يُفتَرَضُ ألّا يَحمُل مفاجآت، استدعى تدخّلاتٍ حثيثة من قبل “حزب الله”، فإن ما ينتظر البلد لتشكيل حكومة أو لانتخاب رئيس جديد للبلاد يحتاج إلى شبهِ مُعجزات.

لا يملك “حزب الله” وحلفاؤه الأغلبية العددية في مجلس النواب الجديد. والعملية حسابية بسيطة تُظهر بدون اجتهادات أن “الكتلة السيادية” أكبر من “كتلة الممانعة”. ومع ذلك فإن ائتلاف “حزب الله” وحلفائه هو أكثر تعاضُدًا وانسجامًا ولُحمةً من الفريق المقابل المُوزَّع داخل أجسامٍ سياسية تقليدية ومستقلة وتغييرية.. إلخ والتسميات كثيرة. وعلى هذا فإن الأكثرية العددية تصبح بلا جدوى بما يمكن أن يَسمَحَ بتكرار سيناريو جلسة البرلمان الأولى.

والحال أن برلمان لبنان الجديد وما لوحظ في أدائه في تلك الجلسة يشبه، لحسن الحظ، ما خرجت به صناديق الانتخابات. والأمل في ألّا تشهد جلساتٍ لاحقة أو استحقاقاتٍ مُقبلة ما كان يُدبَّر في البرلمانات “المُعلّبة” من صفقاتٍ وتسوياتٍ بمسوغ مُقدّس “الديموقراطية التوافقية”. والرائع في ما شهدته الجلسة الأولى هو بالتحديد سقوط تلك “التوافقية”.

لا يملك “حزب الله” الأكثرية لكنه، وفق التجارب السابقة، يملك، إذا أراد، القدرة على التعطيل والترهيب. ولن يُغادِرَ الحزب اللعبة البرلمانية باتجاه عدّة شغلٍ أخرى طالما أنه قادرٌ على اللعب بأوراقٍ تعدّد وتُشظّي الفريق الخصم.

فرض نواب الجلسة الأولى على برّي قراءة مضمون كل ورقة اقتراع مُلغاة بعد جدل حول دستورية هذا الأمر من عدمه. وفي تلاوة تلك المضامين من قضايا “لقمان سليم، ضحايا مرفإِ بيروت، حقوق المودعين، مركب الموت… إلخ”، ما أغضب نواب الحزب ودفعهم لانتقاد حليفهم، بري، على إدارته للجلسة. هنا يشعر الحزب بالألغام التي يحملها البرلمان الجديد.

خسر “حزب الله” حلفاءً كثرًا في مجلس النواب الجديد. الدائرتان، الإقليمية والدولية، أخذتا علمًا بذلك. توسّعت كثيرا رقعة الاعتراض البرلماني ضد سلاح “حزب الله”، وإن كان الاختلاف حول مُقاربة هذا السلاح داخل تلك الرقعة يمنح الحزب رشاقة المناورة، خصوصًا حين يُروِّجُ للحوار الوطني وبحث “الاستراتيجية الدفاعية”.

وقد تُتيحُ تلك الورش البالية إيجاد زبائن لها داخل صفوف “السياديين” من وجوه قديمة أو جديدة.

بُعَيدَ اندلاع “17 تشرين” عبّرت الطبقة السياسية عن مواقفها من هذه “الثورة” الطارئة على التقاليد السياسية اللبنانية. ذهب بعض تلك الطبقة إلى الاستقالة والانفصال عن السلطة ومؤسستها التشريعية. بعضٌ آخر ذهب إلى ضربِ المُتظاهرين وشتمهم واتهامهم بالعمالة للسفارات. وبعضٌ ثالث خرج من رحم ذلك الحراك وحُمل مُنتَخَبًا إلى مجلس النواب. وما سُجِّلَ من مواقف خرجت عن السياديين والمستقلين والتغييريين لا يحمل بشائر للحزب وحلفائه بإعادة رسم المشهد وفق آليات التدبير الشغل القديمة.

يستطيع “حزب الله” تحريك أدواتٍ سياسية كثيرة يرفدها بخطبٍ تهويلية حول الحروب المقبلة والتحذير من جحافل الإرهابيين المتقدمة. بالمقابل لا يملك خصوم الحزب كثيرا من الأدوات غير تلك التقليدية المستخدمة في دوائر التشريع والإعلام والشارع. وإذا ما أُقفل مجلس النواب وحُوصِرَ السراي الحكومي وتحرك أصحاب القمصان السود حين أراد الحزب ذلك، فما الذي يملكه السياديون من أدوات مضادة إذا ما بات تكليف رئيس للحكومة وتشكيل تلك الحكومة وصولًا يومًا ما إلى انتخاب رئيس للجمهورية رهن ما يصبّ فقط بمصالح الحزب وأجندات راعيه في طهران.

موازين القوى لا تتعلّق بالمشهد العددي البرلماني. أمر البلد تُقرّره حساباتٌ أخرى كثيرًا ما تَستغني عن خدمات مجلس النواب ومواهب أعضائه. وفيما صدر عن رئيس كتلة الحزب البرلمانية محمد رعد من “الارتضاء” بالخصوم وعدم القبول بهم “دروعًا لإسرائيل” ما يكشف بدقّةٍ السيناريو الصادق لكيفية التعامل مع البرلمان الجديد، خصوصًا أن لهجةَ التهديد كانت ضرورة أتت قبل لهجة الهدوء التي أطلّ بها أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله.

يأخذ “حزب الله” علمًا، ويعترفُ ضمنًا، بتعقّد المشهد البرلماني داخل مجلس النواب. اللعبة الديموقراطية لا تسمح بالثلث المعطل الذي أقره اتفاق الدوحة في العام 2008 وبات عرفًا فرضه السلاح. بالمقابل فإن الحزب يمتلك أن يتجاوز اللعبة الديموقراطية ويحنّ إلى ذلك في تذكير أمين عام الحزب ونائبه، نعيم قاسم، بمحاذير وضع حكومي يشبه “5 أيار” الذي تحرك الحزب للإطاحة به بعد يومين.

وعلى أساس واقع البرلمان وواقع القدرة على التلويح بـ “أيام مجيدة” يُطلق الحزب خطاب الودّ والتعاون مع الجميع إلى درجة نفي العداء مع السعودية.

وإذا ما تقل الثقة بهذا التموضع الطارئ، فإن على الغالبية البرلمانية المفترضة إعادة التموضع بدورها وفق قواعد أكثر فطنة وأقل سذاجة وتصديق إمكانات قوتها لفرض إرادة يستمر الحزب بأخذها بعين الاعتبار. وإذا ما كانت قوة الحزب الوحيدة هي قوة السلاح فحريٌّ بالتوازنات الجديدة التي أفرجت عنها الانتخابات النيابية أن تلاقي توازنات خارجية تجعل من السلاح أداة متقادمة في لعبة إدارة البلد وورشة انتشاله من أزمته.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى