إرتِفاعُ أسعارِ النفط يَمنَحُ النظامَ الجزائري مُتَنَفَّسًا

فيما كان النظام الجزائري مُحتارًا كيف يواجه أزمته المالية المُعقّدة، جاءه حبل النجاة من ارتفاع أسعار النفط والغاز نتيجةً لحرب روسيا على أوكرانيا.

الحراك الشعبي في الجزائر: قمع النظام أضعفه والحياة المعيشية أثّرت فيه كثيرًا

فرانسيسكو سيرانو*

حتى وقتٍ قريب، بدا الأمر كما لو أن خيارات الجنرالات الجزائريين تَنفُد. بعد انهيار أسعار النفط في العام 2014، شهدت البلاد سنواتٍ من تقييد الموازنة وانهيار العملة، تلاها اندلاع حركةٍ احتجاجية وطنية، تُعرف ب”الحراك”، في العام 2019 أدّت إلى إطاحة الجيش بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة في نيسان (إبريل) من ذلك العام.

بعد تنصيبِ الرئيس الجديد، عبد المجيد تبون، استغلّ النظام جائحة كوفيد-19 لزيادةِ قمعه للمُحتَجّين وأصوات المعارضة. لكن احتمال العودة إلى الاحتجاجات الواسعة النطاق، التي يُغذّيها التدنّي الحاد في مستويات المعيشة، لا يزال يُمثّل تهديدًا مُستمرًّا.

اليوم، يبدو هذا الاحتمال أقل ترجيحًا. وهذا ليس لأن الحياة أصبحت أسهل بالنسبة إلى الجزائريين العاديين. فقيمة الدينار الجزائري مقابل الدولار تتراجع بشكلٍ مستمر منذ العام 2014. والجفاف ونقص الاستثمار في البنية التحتية مرارًا وتكرارًا قد أدّى إلى تقنين مياه الصنبور في المدن الكبرى، خصوصًا في صيف العام 2021. ومعدلات البطالة ارتفعت بدورها مع الأزمة الاقتصادية التي غذّاها الوباء. كما استمرّ الاعتماد على الغذاء المستورد في تآكل القوة الشرائية للجزائريين في سياق ارتفاع التضخّم العالمي.

ومع ذلك، وسط كل الصعوبات، فإن هيكل السلطة في الجزائر –المُكَوَّن من مجموعةٍ مُتنوّعة من الأفراد العسكريين ونشطاء الأجهزة السرية والسياسيين المُسنّين– يستفيد الآن من أفضلِ الظروفِ منذ سنواتٍ لضمان قبضته على السلطة. في الوقت الذي تُبقي الحرب الروسية على أوكرانيا أسعار النفط والغاز مُرتفعة، يعمل النظام الجزائري الاستبدادي على تجديد احتياطاته المالية بعد سنواتٍ من استنزافها. هذا الفضاء المُتجَدِّد في الموازنة سيجعل من السهل على الحكومة التعامل مع أيِّ تلميحٍ للاستياء الشعبي.

ولكن بدلًا من العودة إلى التباهي بزياداتٍ جديدة في الرواتب أو أشكالٍ أخرى من توزيع الريع المُتسارِع كما فعل في الماضي، يبدو أن النظام يتبنّى نهجًا أكثر حذرًا هذه المرة. ويظهر أنه يُعدّلُ استجابته المالية بناءً على احتياجات اللحظة مع مراقبة أيّ موجاتٍ من الصراع الاجتماعي والاقتصادي. على الرغم من أن النظام لديه موارد أكبر تحت تصرّفه الآن، إلّا أنه من المرجح فقط أن يُخفّفَ قيوده المالية إذا استمرت الأسعار في الارتفاع بشكلٍ حاد، وأدّى الأمر إلى تجدّد الاضطرابات. في غضون ذلك، من المرجح أن يَنظُرَ إلى الوضع الحالي على أنه فرصةٌ لزيادة الاحتياطات المالية للدولة وتعزيز وضعها للتعامل مع أيِّ أزماتٍ مُستقبلية.

التَبَعِيّة الرَيعية

تعتَمِدُ الجزائر بشكلٍ كبير على صادرات الهيدروكربونات. خلال الفترة 2015-2020، مثّلت 19٪ من الناتج المحلي الإجمالي، و94٪ من المُنتَجات المُصَدَّرة، و40٪ من إيرادات الموازنة، وفقًا لأرقام البنك الدولي. بعد انهيار أسعار النفط في 2014، عانت الجزائر من عجزٍ مالي وعجزٍ في الحساب الجاري لسنوات. ولدعم نفسها، حرقت الاحتياطات المالية التي تراكمت لديها خلال دورة النفط الفائقة 2008-2014. بعد سنواتٍ من السخط الشعبي المُتأجّج، مهّد انخفاض عائدات الطاقة الطريق لظهور حركة احتجاج الحراك في العام 2019. من 121.9 مليار دولار في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، انخفض احتياطي النقد الأجنبي الجزائري إلى 42 مليار دولار بحلول آذار (مارس) 2021. ومع عدم وجود تخطيط أو استراتيجية واضحة، فقد واجهت البلاد حاجة لا مفر منها لإنقاذٍ مالي – إما من المؤسسات مُتَعَدِّدة الأطراف، أو من خلال اتفاقيةٍ ثُنائية مع دولةٍ صديقة. مع وقوعهم أمام حائط مسدود، بدا حكام الجزائر وكأنهم بلا خيارات باستثناء انتظار معجزة.

لكن في أواخر العام 2021، بدأت عائدات الجزائر من الهيدروكربونات ومعها الثروة الاقتصادية للبلاد تتحسّن. أدّى التسارع الاقتصادي بعد كوفيد والقيود اللوجيستية إلى ارتفاع أسعار النفط خلال الربع الأخير من العام 2021. وبعدما كان متوسط أسعار نفط خام برنت في  بداية العام عند حوالي 50 دولارًا للبرميل، بلغ 71 دولارًا طوال العام 2021 ووصل إلى 86 دولارًا.

مُتشَجِّعةً بارتفاع الطلب العالمي والأسعار، زادت الجزائر إنتاجها من 175.9 مليون طن من المكافئ النفطي في العام 2020 إلى 185.2 مليون طن مكافئ نفطي في العام 2021. وخلال الفترة عينها، ارتفعت عائدات تصدير الهيدروكربونات من 20 مليار دولار إلى 34.5 مليار دولار. أخيرًا، حصل النظام الحاكم في الجزائر على ما كان يتمنّاه: بعض مساحة للتنفس.

الحرب المُنقِذة

حتى قبل بدء الصراع في أوكرانيا، بدا أن السلطات الجزائرية قلقة من أن ارتفاع التضخّم العالمي، وخصوصًا في أسعار السلع الغذائية، قد يطلق العنان لموجةٍ جديدة من الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد. في منتصف شباط (فبراير)، أصدر الرئيس تبون إعلانًا مفاجئًا: سيتم تجميد الزيادات الضريبية على بعض المنتجات الغذائية التي كانت مُدرَجة في موازنة 2022.

بعد ذلك، أدّى قرار فلاديمير بوتين في أواخر شباط (فبراير) بغزو أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار النفط أكثر. حتى مع تجاوز أسعار خام برنت مؤقتًا 123 دولارًا للبرميل في بداية الحرب، بدت السلطات الجزائرية حذرة في البداية بشأن زيادة الإنفاق العام على خلفية ارتفاع عائدات التصدير. يبدو أن الحكومة ما زالت مُلتزمة بتوقعات موازنة العام 2022 التي تمّ تقديمها قبل بدء الصراع.

لكن في الآونة الأخيرة، خصّصت الحكومة 35 مليار دينار جزائري (240 مليون دولار) لتحقيق الاستقرار في أسعار السكر وزيت الطهي، وهما سلعتان أساسيتان شهدتا زيادات هائلة في الأسعار. علاوة على ذلك، تم توجيه 80 مليار دينار جزائري (550 مليون دولار) لتمويل دعم البطالة. يحصل المستفيدون على 13,000 دينار جزائري (89 دولارًا) شهريًا. إعتبارًا من منتصف نيسان (إبريل)، تم قبول أكثر من 900,000 جزائري تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عامًا في البرنامج. سيكون تمويل هذا النوع من الدعم أكثر صعوبة لو كانت أسعار النفط لا تزال في نطاق 70 دولارًا، على عكس 113 دولارًا للبرنت الذي تم تداوله في أواخر أيار (مايو).

هذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها النظام التحويلات المالية للحفاظ على السلام الاجتماعي. في العام 2011، وسط احتجاجات “الربيع العربي” الإقليمية، وافقت السلطات على زياداتٍ بأثرٍ رجعي في رواتب ضباط الشرطة وزادت الإعانات على الحبوب وزيت الطهي والسكر والحليب. في وقت لاحق من ذلك العام، في أعقاب الإضرابات العمالية، رفعت الحكومة المعاشات التقاعدية من 20٪ إلى 30٪. هذه المرة، من المرجح أن تفاقم الاضطرابات العامة بشكل كبير فقط سيكون سببًا في دفع الحكومة إلى توجيه دعم مالي متزايد إلى فئات مُعَيَّنة، بدلاً من الحفاظ على مسارها في محاولة تقليل الضغط العام للتضخّم على الأُسر الجزائرية من خلال الإعانات.

ترقية ديبلوماسية

إلى جانبِ ضخِّ السيولة التي تشتد الحاجة إليها في خزائن الجزائر المالية، عزّزت الحرب في أوكرانيا أيضًا المكانة الديبلوماسية للبلاد. عزز أسلوب الجنرالات المُسِنّين الغامض في التعامل مع القوى الأجنبية وعدم قدرتهم على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية من سمعة الجزائر كنوعٍ من الدولة المنبوذة المعتدلة، على الرغم من أهميتها كمُنتِجٍ للطاقة وأهميتها الاستراتيجية في التعامل مع عدم الاستقرار في منطقة الساحل. وقد تسارع هذا التدهور في المكانة في السنوات الأخيرة، حيث أصبح الخلاف الجزائري مع جارتها المملكة المغربية حول الصحراء الغربية مُتقلِّبًا بشكلٍ متزايد.

لكن الآن، تَجِدُ الجزائر نفسها في وَضعٍ تُحسَد عليه كمُصدّرٍ للطاقة. بعد أن انحازت إسبانيا إلى المغرب في قضية الصحراء الغربية، رفضت الجزائر زيادة مبيعات الغاز إلى مدريد، بل وهدّدت بقطع صادرات الغاز تمامًا إذا أعادت إسبانيا بيع أيّ غاز جزائري إلى المغرب.

يحاول المسؤولون الأميركيون إصلاح العلاقات المُتَوَتِّرة مع دولٍ مثل فنزويلا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لجَلبِ المزيد من كميات النفط والغاز إلى الأسواق العالمية. بالمقارنة مع هذه البلدان، فإن دور الجزائر كمورّدٍ للطاقة هو أكثر محدودية. لكن حقيقة أن معظم الاقتصادات الغربية تهدف إلى تقليل اعتمادها على هيدروكربونات موسكو هي أخبارٌ جيدة أخرى لحكام الجزائر وسعيهم للحفاظ على الوضع الراهن.

تنتجُ البلاد ما يقرب من مليون برميل يوميًا من النفط، وقد أكّد اجتماع “أوبك +” الأخير الذي اتفق على حصص جديدة ل”اتحاد الإنتاج” أن إنتاج الجزائر اليومي سيرتفع بمقدار 11 ألف برميل يوميًا بحلول حزيران (يونيو) الجاري. وسيؤدي هذا الارتفاعُ إلى رفع إنتاج النفط من 1,013,000 برميل يوميًا في أيار (مايو) إلى حوالي 1,024,000 برميل يوميًا في حزيران (يونيو). عند مستويات الأسعار الحالية، تعد هذه زيادة تدريجية كبيرة في الإيرادات اليومية للجزائر.

إحتياجات الغاز

لكن إنتاج الجزائر من الغاز الطبيعي يحظى باهتمامٍ خاص من الدول الغربية في الوقت الحاضر. تُنتِجُ الجزائر حوالي 130 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، وتحتل المرتبة العاشرة بين أكبر منتجي الغاز في العالم وواحدة من أكبر خمسة مُصدّرين للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. في الوقت الحالي، تستورد أوروبا 11٪ من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من الجزائر، لكن قطاع الطاقة في البلاد لا يمكنه زيادة الإنتاج بشكل كبير في المدى القصير أو زيادة حصته في سوق الغاز الأوروبية.

زاد استهلاكُ الغاز المنزلي بشكلٍ كبير على مرّ السنين، مدفوعًا بتزايد الاستخدام السكني والمحطات التي تعمل بالغاز والتي تنتج كل الكهرباء في الجزائر. تستهلك الدولة الآن ما يقرب من 60 ٪ من إنتاجها من الغاز.

علاوة على ذلك، تتطلّب حقول الهيدروكربونات المُتقادِمة في الجزائر مبالغ هائلة من الاستثمار الخاص والعام لعكس سنوات من نقص الاستثمار المستمر. يتطلّب جلب الاكتشافات الجديدة إلى شبكة الإنتاج والتصدير وجود شركاء أجانب على استعداد للتعامل مع النظام التنظيمي الغامض في الجزائر وبيئة الأعمال التي يصعب التعامل معها.

ولكن مع سعي الدول الأوروبية إلى تخزين موارد الطاقة قبل الشتاء المقبل، فإن أي إمدادات إضافية ستساعد. وقد وقّعت الجزائر بالفعل اتفاقًا لزيادة مبيعات الغاز لإيطاليا في المدى المتوسط. مع وجود خَطَّي أنابيب للغاز الطبيعي يربطانها بإسبانيا وإيطاليا، ستظل البلاد مصدرًا صغيرًا ولكن مهمًا للغاز بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي.

حتى لو لم تتمكّن البلاد في المدى القصير من توفير أكثر من بضعة مليارات متر مكعب إضافية من الغاز سنويًا، فإن الأزمة الحالية تزيد من القيمة الاستراتيجية للجزائر بالنسبة إلى أوروبا. من المحتمل أن يجعل هذا الوضع كلًا من بروكسل وواشنطن تُفكّران مرتين قبل أن تنتقدا بشكلٍ مفرط القمع المستمر للنظام العسكري للحريات المدنية والسياسية.

لمزيدٍ من اختبار حياد الجزائر في ما يتعلق بالنزاع في أوكرانيا، قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارة مفاجئة إلى الجزائر في 10 أيار (مايو). وقد وجه دعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرئيس تبون لزيارة موسكو. كانت روسيا شريكًا تاريخيًا للجزائر ومُوَرِّدًا رئيسًا للأسلحة. بين العامين 2016 و2020، باعت موسكو أسلحة بقيمة 4.2 مليارات دولار للجزائر، أي ما يعادل 15٪ من إجمالي صادرات الأسلحة الروسية لتلك الفترة. وتأتي زيارة لافروف بعد أقل من شهرين من زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلِنكين للعاصمة الجزائرية. طالما استمر الصراع، فمن المرجح أن تكون الجزائر قادرة على اللعب بلطف مع كلا الجانبين والعثور على مُشتَرين راغبين لأيِّ مواد هيدروكربونية يمكنها توفيرها.

عودة تشغيل القمع

على الرغم من قدرة الحكومة الأكبر على إنفاق الأموال على المشكلات الاجتماعية، فإن معظم الظروف الأساسية التي أدت إلى احتجاجات الحراك لعام 2019 لم تتغيّر بشكلٍ كبير. تواجه غالبية الجزائريين ضغوطًا متزايدة من ارتفاع الأسعار، وانخفاض الحقوق المدنية والسياسية، ونقص الفرص الاقتصادية.

منذ شباط (فبراير) 2021، عندما استُؤنفت احتجاجات الحراك، تم اعتقال آلاف الجزائريين أو احتجازهم مؤقتًا لمشاركتهم في مظاهرات أو مشاركة آراء مُعارِضة عبر الإنترنت. في بداية العام 2022، كانت السجون الجزائرية لا تزال تستضيف مئات السجناء السياسيين. وأعلنت الرئاسة الجزائرية، في نيسان (إبريل)، عفواً عن 70 منهم بمناسبة حلول شهر رمضان. وبحسب الرئيس تبون، الذي نفى مرارًا وتكرارًا وجود أي سجناء سياسيين في الجزائر، فقد اتُهموا بـ”الإخلال بالنظام العام”.

لم تُؤَشِّر هذه البادرة إلى تغييرٍ في استراتيجية النظام. ستستمر القيادة الغامضة في البلاد في كبح الحريات المدنية واستخدام موارد الطاقة كوسيلة للحفاظ على الأوليغارشية السياسية والعسكرية التي حكمت منذ الاستقلال. ومع تدفّقِ أموال النفط والغاز، يُمكنها بسهولة زيادة رواتب أفراد الأمن الذين يتم إرسالهم لتفريق الاحتجاجات، أو خفض أسعار الخبز والسلع الأخرى لمنع الناس من الخروج إلى الشوارع في المقام الأول. طالما أن الصراع في أوكرانيا يحافظ على أسعار النفط والغاز مُرتفعة، فإن النظام الجزائري الاستبدادي سيستمر في استخدام معظم الأدوات التي يحتاجها لضمان بقائه.

  • فرانسيسكو سيرانو هو صحافي وكاتب ومُحلّل سياسي. يُركز أبحاثه على شمال إفريقيا والشرق الأوسط الكبير وأميركا اللاتينية. الآراء الواردة في هذا المقال هي آراؤه الخاصة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى