هل يُعرقل الجيش الجزائري الإنتقال السياسي إلى الديموقراطية؟

على الرغم من تأكيد رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، أن الجيش مُتمسّك دائماً بالمسار الدستوري، ويحرص على الإحترام الكامل والوافي لقوانين الجمهورية، فإن الأولوية، كما يبدو، بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية الجزائرية هي الدفاع عن النظام السياسي وصلاحياتها ومصالحها فيه.

الفريق أحمد قايد صالح: هل يُقال من أجل المصلحة العليا للجيش؟

 

بقلم دالية غانم*

بعد سبعة أشهر من الإحتجاجات في الجزائر، يبدو أن القيادة العسكرية للبلاد تسيطر على الإنتقال السياسي الذي بدأ في شباط (فبراير) 2019، عندما أجبرت المظاهرات الواسعة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على التنحي. ويدافع الجيش الوطني الشعبي عن النظام السياسي الذي أنشئ في العام 1962، حيث يستفيد من الوضع الحالي لتكوين السلطة الجديدة لاستعادة الدور الذي فقده في عهد الرئيس السابق.

من المرجح أن يواصل الجيش العمل خلف واجهة دستورية وتعددية مع الحفاظ على سيطرته على السلطة. لقد حدث ذلك سابقاً في الجزائر من خلال السماح بتغييرٍ مُدارٍ ومُراقَب الذي يضمن حدوث تغييرات قليلة جداً. ومما يساعد أفعاله حقيقة أن الدستور يمنحه مكانة خاصة. فمن خلال كونه مسؤولاً عن “حماية الإستقلال الوطني” وعن “الدفاع عن السيادة الوطنية والوحدة والسلامة الإقليمية”، يمتلك الجيش فعلياً صكّاً على بياض للتدخّل في السياسة.

لقد وضعت الإحتجاجات ضد بوتفليقة الجيش في قلب السياسة الجزائرية مرة أخرى، ولكن في وقت لم يكن راغباً المبالغة في طموحاته السياسية. لهذا السبب، يُمكن عدم إستبعاد إقالة رئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، ووضعه جانباً من قبل الجيش، ذلك أنه كان في دائرة الضوء منذ شباط (فبراير) الماضي عندما بدأت الإحتجاجات ضد بوتفليقة، وانقلب استياء الرأي العام ضده. قد تشعر المؤسسة العسكرية أنه من الأفضل في هذه المرحلة إزاحة صالح وبهذه الطريقة ضمان عدم دفع الجيش ثمن عدم شعبيته.

كذلك، يتعيّن على الجيش أن يستجيب لمطالبة العديد من الجزائريين بوضع دستور جديد. ومن غير المُحتمَل أن يقبل بمثل هذا الشيء، لكنه قد يوافق على تعديل الدستور الحالي. أياً كان الخيار الذي يختاره ويدعمه، فإن الجيش سيضمن إحتفاظه بالسلطة الدستورية الكافية حتى لا تُمثّل الرئاسة والبرلمان خطراً على سلطته، ويُمكنه بالتالي الإستمرار في الإستفادة من الصلاحيات التي إحتفظ بها حتى الآن.

في نهاية المطاف، إن أكثر ما يهمّ الجيش هو الحفاظ على مصالحه المادية، بمعنى مخصصات موازنته، واستقلالية الأكاديميات العسكرية، والعقيدة، والإصلاحات، والتحديث. علاوة على ذلك، تُتَرجَم إستقلالية الجيش بتأكيد حقه الحصري في موازنة الدفاع مع الحفاظ على دوره السياسي في الإشراف على الشؤون الاستراتيجية وضمان الحصانة القانونية عن أي أعمال سابقة أو مستقبلية.

ومع ذلك، فإن الأزمة الإقتصادية التي تلوح في الأفق في الجزائر، والإستياء الإجتماعي والإقتصادي الواسع النطاق هما كعب أخيل العسكري. تعتمد البلاد على العائدات النفطية، وكان على السلطات مواجهة إنخفاض أسعار النفط منذ العام 2014، مما أجبرها على خفض الإنفاق. حتى ولو إرتفعت أسعار النفط منذ ذلك الحين، فقد قدّرت الحكومة أنها تحتاج إلى سعر نفط يبلغ 116 دولاراً للبرميل لكي تستطيع موازنة موازنتها العامة. إن التحدّيات المالية التي تواجهها الجزائر كبيرة، وأكثرها إثارة للقلق التي واجهتها البلاد هو انخفاض إحتياطات النقد الأجنبي من 193.6 مليار دولار في العام 2014 إلى 72 مليار دولار في العام 2019. وفي بلد يستورد 70 في المئة مما يستهلكه، تُغطّي الإحتياطات الحالية ثلاثة عشر شهراً فقط من الواردات. وإذا لم تعد الدولة قادرة على تقديم السلع والخدمات، فإن السخط الإجتماعي والإقتصادي سيرتفع أكثر.

هذا ما حدث في نهاية ثمانينات القرن الفائت. في ذلك الوقت تفاقم الوضع الإقتصادي فحلّ عدم الإستقرار السياسي. ومن أجل تجنّب مثل هذا الوضع اليوم، سيتعيَّن على الدولة ومواطنيها إعادة التفاوض بشأن علاقتهما. في الماضي كانت الدولة توفّر والجزائريون يلتزمون. لم يعد هذا الأمر مُمكناً إقتصادياً اليوم، ولا يبدو أن الجزائريين يريدونه لأنهم يسعون إلى مزيد من الشفافية، وتقليل الفساد، وحكم أفضل لموارد الجزائر.

الواقع أن المؤسسة العسكرية غير شغوفة بملكية الصعوبات الإقتصادية في الجزائر. وهذا هو السبب الذي من المحتمل أن يدفعها في الفترة المقبلة أن تضع إدارة الشؤون الإقتصادية في أيدي مدنيين، مع الإحتفاظ بدورها الرقابي. ستسمح حكومة تكنوقراط للمدنيين بإدارة الشؤون اليومية بينما يُمكن للجيش التركيز على المزيد من القضايا الإستراتيجية، بما في ذلك صياغة سياسة الأمن القومي والإحتفاظ بحق النقض (الفيتو) على القرارات التي لا يرضى بها.

يحتاج الجيش أيضاً إلى الحفاظ على صلته بالسكان الذين طالبوا بدولة مدنية، وليس بدولة عسكرية، والإحتفاظ بشرعيته داخلياً وخارجياً. وهذا الأمر قد يُلزِمه راهناً بالسماح بمرحلة إنتقالية، يتمتع خلالها بسيطرة أقل، في الأشهر المقبلة. كما من الممكن أن يقرر الجيش العودة إلى ثكناته والسماح لحكومة مُنتَخَبة مواجهة مطالب الديموقراطية والإصلاح، مع ممارسة الضغط للدفع باتجاه سياسات مُحدَّدة إذا لزم الأمر.

هذا ما فعله الجيش من قبل خلال منتصف ثمانينات القرن الفائت. في ذلك الوقت، قامت حكومة “جبهة التحرير الوطني” بتحرير الإقتصاد بطريقة إنتقائية وخاضعة للسيطرة تحت وصاية الجيش. كانت للمؤسسة العسكرية تحفّظات على بعض الإصلاحات الإقتصادية التي اعتبرتها ليبرالية للغاية والتي كانت ستُهدّد مصالحها الخاصة ومصالح المُقَرَّبين منها. لهذا السبب وافق الجيش على دعم ولاية ثالثة للرئيس آنذاك الشاذلي بن جديد، شريطة أن يُعيّن قاصدي مرباح رئيساً للوزراء. كان مرباح قريباً من المؤسسة العسكرية، التي كانت في ذلك الوقت تدعم السياسات “الدولانية” (statist) للرئيس الراحل هواري بومدين. من خلال القيام بذلك، أظهر الجيش قدرته على تشكيل ممثلين سياسيين لتعزيز مصالحه الخاصة. ومن المرجح أن يُكرّر الجيش هذا النهج اليوم، حيث يُشكّل الإتجاه الإقتصادي للبلد من دون أن يتحمّل المسؤولية المباشرة عن الإستياء الذي قد ينشأ.

في الوقت الحاضر، يقود الجزائر رئيس مؤقت ليست له شرعية، والبرلمان ضعيف، والأحزاب السياسية غير موثوقة ومشكوك فيها. لذلك، يكاد يكون من المستحيل منع المؤسسة العسكرية من تأكيد دورها كوصي وطني. وهذا هو السبب في أنه من غير المُحتَمل في الأشهر المقبلة أن تكون أي مؤسسة وطنية أخرى في وضع يُمكنها تحدّي سلطة الجيش. ومع ذلك، حتى لو كان هذا صحيحاً، فإن غريزة الجيش، في ضوء خطورة الأزمة اليوم، تتمثل في العودة إلى النهج الذي تم اختباره سابقاً والمُتمثِّل في البقاء مُؤثّراً سياسياً، ولكن من وراء الكواليس.

بينما قد تكون هناك فصائل مختلفة داخل الجيش، فإن المؤسسة العسكرية لن تسمح لمثل هذه الإنقسامات بتهديد مصالحها والتمسك بالسلطة. في الوقت الحالي، الجيش غير مستعد لقبول مبدأ الرقابة المدنية على القوات المسلحة. وهذا، مع ذلك، سيمثّل مصدراً مُستمرّاً للتوتّر لأنه سيفشل في إرضاء عدد كبير من الجزائريين الذين يرغبون في رؤية تغيير حقيقي في نظامهم.

  • دالية غانم باحثة مقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. تتمَحوَر أبحاثها حول العنف والتطرّف السياسيين، والتعصّب، والإسلاموية، والجهادية، مع تركيز خاص على الجزائر وعلى انخراط النساء في التنظيمات الجهادية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى