إسرائيل والمجلس الإنتقالي في جنوب اليمن: واقِعُ العلاقة وآفاقُها

يُروّج المجلس الإنتقالي الجنوبي نفسه للحصول على اعتراف الشرعية الدولية من بوابة إسرائيل، لكنه ولاعتبارات عدة، لن يكون أكثر من حليف غير مباشر لإسرائيل.

الرئيس جو بايدن: آخر اهتماماته تصريحات الزبيدي

بقلم عمّار الأشول*

في 2 شباط (فبراير) 2021، أعلن رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، مباركته التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، وأبدى رغبته في التطبيع في حال حصول جنوب اليمن على الاستقلال وتم الاعتراف به دولة مستقلّة. هذا الموقف لا يُهدّد الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب فحسب، إنما يُهدّد أيضاً بتقسيم جنوب اليمن إلى دويلات وسلطنات، وذلك لأنه لم يصدر من نظام سياسي مُعتَرَف به، بل على العكس من ذلك فقد صدر في وقت يكثر الفاعلون وتتعدّد مراكز القوى، وتشهد فيه الجغرافيا الجنوبية حالة ماثلة من الانقسام وعدم الاستقرار وتعدد الولاءات، حيث لا يوجد قائدٌ واحد أو كيان سياسي مُعيّن يُمثّل أكثرية أبناء الجنوب أو يمتلك زمام الأمور في المحافظات الجنوبية. في حال تبع هذا التصريح خطوات أكثر جرأة، فإنه سيضرب، بالدرجة الأولى، ما يُعرف بالقضية الجنوبية، التي تتلخّص في فكرة انفصال جنوب اليمن عن شماله وإقامة دولة مستقلة، كما أنه سيُعمّق الانقسامات المناطقية وتَمَترُس القوى الفاعلة في مناطق نفوذها وسيطرتها، ما يُفاقم، مع جملة من التحديات المحلية والتدخلات الخارجية، من خطر التقسيم، سيّما وأن لخريطة جنوب اليمن تجربة طويلة في نظام السلطنات ولا تزال له جذور وآثار حتى اليوم.

هذا التصريح، لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلى اليمنيين، وذلك بسبب تلميحات وتلويحات سابقة صدرت من قيادات في المجلس الانتقالي، منها ما جاء على لسان نائب رئيس المجلس الانتقالي، هاني بن بريك، في مناسبات عدة. كما أن المجلس الانتقالي، وفقاً لظروف نشأته وبصمات تأسيسه، يُعتَبر الابن غير الشرعي لدولة الإمارات، وليس مُستغرباً أن تتحرك بوصلته بحسب سياسات وتوجّهات أبوظبي حتى في مسألة التطبيع. فضلاً عن ذلك، فقد لعب الإسرائيليون دوراً غيرَ مباشرٍ في تشكيل وتنظيم الأحزمة الأمنية التابعة للمجلس الانتقالي عند تأسيسها في 2016، من خلال استئجار الإمارات لضباط إسرائيليين متقاعدين من شركات أمنية أجنبية، لتدريب قيادات من الأحزمة الأمنية في أبوظبي. كما أن عشرات الإغتيالات التي استهدفت مُناوئين للإمارات والمجلس الانتقالي في محافظة عدن، تمت عبر تعاقد الإمارات مع إسرائيليين يعملون في شركات أجنبية، مثل شركة “سباير أوبريشن” الأمنية الأميركية، ومن بينهم القائد السابق لبرنامج الاغتيالات في فرقة المرتزقة، أبراهام غولان. ومع ذلك فقد قوبل تصريح الزبيدي برفضٍ شبه جماعي من أغلب القوى الجنوبية الفاعلة والمؤثرة، بما فيها المكوّنات المتفقة معه في مسألة الانفصال، أبرزها مجلس الحراك الثوري الجنوبي، الذي يتزعمه حسن باعوم، والمكوّنات غير الانفصالية مثل مجلس الإنقاذ الوطني اليمني الجنوبي، فضلاً عن المظاهرات التي خرجت في أغلب المحافظات الجنوبية، للتنديد بهذه التصريحات ورفضها.

تأسّس المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن جنوبي اليمن، في أيار (مايو) 2017 من قبل مسؤولين سياسيين وعسكريين وقبليين، برئاسة عيدروس الزبيدي، وبدعم مباشر من دولة الإمارات. ويُطالب الانتقالي بانفصال جنوب اليمن والرجوع إلى ما قبل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب في العام 1990. وفي طريقه نحو الانفصال، أعلن نيسان (إبريل) 2020 الحكم الذاتي في المحافظات الجنوبية، لكنه قَبِل بتنفيذ اتفاق الرياض بآليته الأخيرة في 26 كانون الأول (ديسمبر) الفائت، والذي نصّ في أبرز بنوده على التنازل عن الإدارة الذاتية، ومناصفة الحكومة التي تضم 24 وزيراً بين الشمال والجنوب، ومشاركة الانتقالي في وفد الحكومة لمشاورات الحل السياسي اليمني. ومع ذلك لا يزال المجلس الانتقالي يناور بما يخالف تعهداته باتفاق الرياض، ويلوّح بالانفصال في أكثر من مناسبة.

يتعاطى بعض الأطراف الإقليمية والدولية مع المجلس الانتقالي على أنه يتحرك تحت المظلّة الإماراتية، ويُسيطر، بدعم إماراتي مباشر، على بعض المناطق الحيوية في جنوب اليمن، أبرزها العاصمة المؤقتة عدن وجزيرة سقطرى، لكن هذا التعاطي لا يعدو كونه استغلالاً للوضع اليمني الهشّ والاستفادة منه، وليس بهدف إقامة علاقات ديبلوماسية أو بناء مصالح إستراتيجية، وذلك لأسباب عدة: منها عدم تمثيل المجلس الانتقالي لكل المكوّنات الجنوبية، حتى تلك التي تتفق معه  في فكرة الانفصال، كذلك، وجوده المتواضع على الأرض الذي لا يتعدى 10 في المئة من مساحة جنوب اليمن، ومثل هذه التعقيدات لا تؤهله لأن يقدّم نفسه مُمثلاً شرعياً أو وحيداً للجنوب اليمني، ومن ثم يستحيل أو على الأقل يصعب، أن يتم الاعتراف به وبدولته المأمولة في جنوب اليمن.

وبالعودة إلى مغازلة المجلس الانتقالي لإسرائيل وعرضه التطبيع معها، فقد لوحظ عدم الترحيب أو الاحتفاء أو حتى التعليق من الجانب الإسرائيلي، لإدراكه بأن وضع اليمن الآن كله هشّ ومؤقّت. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فليس من المرجّح، في الوقت الحالي أو القريب، أن ترعى مشروعاً تطبيعياً بين إسرائيل والمجلس الانتقالي الجنوبي، سيّما أن هذا التطبيع لن يكون مع دولة مستقلّة ولا مع حكومة ذات شرعية. كما أن موضوع التطبيع لا يبدو بأهمية النزاع الإقليمي بالنسبة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، وهو ما ظهر في أولوياتها من خلال خطواتها الأولى، مثل التهدئة مع إيران، وإرسالها مبعوثاً خاصاً إلى اليمن، وشطب جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) من قائمة الإرهاب، إذ أن ما يهمّها هو إيجاد وصفة سياسية مناسبة لإنهاء هذا الصراع الإقليمي أو على الأقل فرملته حتى تتفرّغ لمواجهة تحديات دولية ترى أنها أكبر وأهم. ويمنياً، يبدو من خلال العديد من المؤشرات، أن أكثر ما يعني إدارة بايدن، هو إنهاء الحرب ذات الكلفة الإنسانية العالية، ولعب دور رئيس في صناعة السلام في هذا البلد. فالوضع اليمني مع استمرار الحرب قد يُنتج تداعيات لما هو أبعد من اليمن نفسه، ما يؤثر في أمن واستقرار محيطه المُكتظ بالمصالح الأميركية.

لقد ذهب المجلس الانتقالي إلى الاعتقاد بأن ترحيبه بالتطبيع مع إسرائيل، سيمنحه دولة مستقلّة في جنوب اليمن والاعتراف به ممثلاً شرعياً لها، أسوةً بما حدث، على سبيل المثال، في المغرب والاعتراف بسيادته على الصحراء الغربية، وحذف السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مُتجاهلاً العديد من العوامل الجيوسياسية والديموغرافية المختلفة، فما يمثله المجلس الانتقالي سياسياً وجغرافياً وديموغرافياً لا يُقارن بما تمثله دولة مثل المغرب أو السودان، فالأولى تربطها علاقات متينة مع إسرائيل، وفيها جالية يهودية كبيرة وفاعلة وحاضرة، كما أنها إحدى أهم دول المغرب العربي، والثانية دولة محورية مهمة وكبيرة، وبوابة من بوابات أفريقيا، ولها تأثير كبير في محيطها الإقليمي.

هذه المفارقات الواضحة لا تعني التقليل مما هو تحت يد المجلس الانتقالي، سيّما سيطرته على مناطق حيوية يسيل لأجلها لعاب إسرائيل، مثل جزيرة سقطرى التي أصبح فيها وجوداً فعليا لإسرائيل برعاية إماراتية وبغطاء من الانتقالي، لكن هذا لا يعني أن موضوع التطبيع مطروح على الطاولة الإسرائيلية–الأمريكية، خصوصاً أن غالبية الشعب اليمني، سواءً في الشمال أو في الجنوب، لا تتقبّل فكرة التطبيع، وليست مُهَيَّأة حتى للتعاطي معها، وذلك للعديد من العوامل والخصائص في المجتمع اليمني.

وليس من المبالغة القول إن تصريحات الفنان السوري دريد لحام، المعروف بـ”غوّار”، حول تأييده لفكرة تطبيع بلاده مع اسرائيل، قد انطلقت من واقعية سياسية بغض النظر عن إرادة أو عدم إرادة قادة البلدين في سوريا وإسرائيل بتطبيع العلاقات، بعكس تصريحات الزبيدي التي صدرت بلا أرضية، والتي هي بعيدة من الواقع والمُمكن. لكن في المقابل، هذا لا يعني أن إسرائيل لا تسعى إلى أن يكون لديها طرف قوي في اليمن، كما أنه لا يهمها إن كان هذا الطرف ميليشيا أو جهازاً أمنياً أو دولة، المهم أن يخدم مصالحها ويُنفّذ أجندتها. ومن خلال عدد من المعطيات فإن المجلس الانتقالي جدير بذلك.

وتتمثّل نقاط القوة التي يُسوّق من خلالها المجلس الانتقالي نفسه لإسرائيل، سيطرته على العاصمة المؤقتة عدن وجزيرة سقطرى، ووجوده غير المباشر في باب المندب وجزيرة ميون عبر قوات عسكرية جنوبية موالية له، كذلك محاربته لحركات الإسلام السياسي بشقّيه السني والشيعي، وقطع الطريق أمام عودة جنوب اليمن إلى الحاضنة الإيرانية، خصوصاً أن غالبية قوى الحراك الجنوبي المُتمَثّلة في 25 مُكوّناً قبل انطلاق عملية عاصفة الحزم في 2015 بقيادة السعودية، كانت تتلقّى الدعم من طهران، وعُرِفَ عنها البراغماتية والخفّة في تبديل التحالفات والولاءات، لذلك تبقى مصلحة إسرائيل في التعاون غير الرسمي مع المجلس الانتقالي. كما يسوّق الانتقالي نفسه على أمل الحصول على الشرعية الدولية من بوابة إسرائيل، فإن الحكومة الإسرائيلية تضيف اختراقها لجنوب اليمن عبر الانتقالي إلى قائمة إنجازاتها، لتوظيفها في أي انتخابات مقبلة، وبالتالي ليس مُستغرباً أن نسمع تصريحات وتقارير إسرائيلية غير رسمية تصفه بالحليف السري أو الصديق الجديد، وتعمل على تمنيته بدولة مستقلّة في جنوب اليمن، مثلما جاء في تقرير لصحيفة “إسرائيل اليوم” المعروفة بقربها من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

لا شكّ أن التطبيع منذ عقود كان قائماً في المنطقة إما بشكل علني أو من خلف الستار، وغالبية دول الخليج طبعت، في السابق، سرّاً، كما أن هناك كثيراً من الأحداث في المنطقة العربية مثل هزيمة 1967، وزيارة السادات للقدس في 1977، وكامب ديفيد 1978 وما تلاها من اتفاقات، وحروب الخليج الأولى والثانية وغزو العراق في 2003، كلها مهّدت أو كانت مُقدّمات لتمرير التطبيع وعبور قطار صفقة القرن، وقد استغلّت إسرائيل هذا الوضع في عهد دونالد ترامب بالدفع نحو التطبيع، غير أن الكثير من المعطيات، التي يأتي من بينها حساب الربح والخسارة، والحاجة والترف، تؤكد بأن تطبيع إسرائيل مع مكوّن يمني مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، بوضعه القائم وظروف اليمن الحالية، مسألة غير واقعية، ولكن هذا لا يعني أنه لن يكون حليفاً غيرَ مباشر لإسرائيل أو بمعنى أدق ذراعاً لها في المناطق الخاضعة لسيطرته في جنوب اليمن.

  • عمّار الأشول هو صحافي وكاتب يمني، يكتب في عدد من الصحف العربية والدولية، حاصل على الماجستير في علوم الإعلام والاتصال من الجامعة اللبنانية في بيروت، يمكن متابعته عبر تويتر على: @lshwal
  • الآراء الواردة في هذا المقال تُمثّل الكاتب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى