عن الإنتخابات البلدية وتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في تونس
بقلم عبد اللطيف الفراتي*
شهدت تونس في الفترة الأخيرة حَدَثَين في غاية الأهمية، هما الإنتخابات البلدية، وذيولها المتمثلة في (ما أسمي بدورة ثانية متمثلة في انتخاب رؤساء البلديات)، وصدور تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، أو ما سمي بتقرير لجنة بشرى بن الحاج حميدة، الذي أسال وما يزال يسيل الكثير من الحبر.
ومن موقعي إمتنعت عن الكتابة أخيراً في الأمرين، بل أجّلت الكتابة في أشياء أخرى تجميعاً للمعطيات والمعلومات بشأنهما، والتركيز للخروج باستنتاجات بعيداً من العاطفة أو التوجّهات الشخصية. فالتقرير مثلاً قرأته قراءة سريعة إستغرقت مني جانباً من ليلة كاملة، ثم قرأته قراءة متأنية مع وضع ملاحظاتي، أما الانتخابات البلدية فقد تابعتها في مستوى نتائجها الأولية ثم بتفصيل ممل ـ، في مآلاتها كمجالس وتركيبتها وإستنتاجاتي. وإن كان تقرير اللجنة يحتاج مني إلى مقال خاص مستقل، فإني ما زلت بين تناقضات الدستور، الذي يبقى بالنسبة إلي المرجع الوحيد المُعتمَد رغم ما فيه من تناقض أحياناً صارخ.
وقد إنتهيت إلى ثلاثة عناصر أعتقد أنها تُلخّص ما بدا لي بارزاً من الحدثين:
أولها أن المسار الديموقراطي في أحد أسسه المهمة، أي الإنتخابات، سائرٌ على طريق صحيح حتى الآن، والمرجو أن لا يُدير الإنتصار رؤوس المنتصرين، فيتواضعوا لانتصارهم ولا يحاولوا سحق منافسيهم المنهزمين. ولا بدّ من الإستنتاج أن هناك وبوضوح منتصراً ومنهزماً، وأنه مطلوب من كل منهما أن يعتبر ويستفيد من الدرس، باتخاذ القرارات التي قد تكون، بل لا بدّ، أن تكون موجعة،على الأقل على المستوى الفردي.
ثانيهما ما يلاحظ من أن المجتمع التونسي يمرّ بفترة فصام أو “سكيزوفرينيا” سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وأنه ممزق داخل الكثير من الأفراد في أنفسهم وداخل أنفسهم، وكذلك مجتمعياً بما يتنازعه من مواقف أحيانا متناقضة.
ولعلّ المرجع الوحيد الذي ينبغي إعتماده من وجهة نظري لا يوفر الوقف الحاسم.
ثالثها عدم القدرة على التواضع من جهة، وعدم القدرة على تمثل النتائج والتعامل بالانطلاق منها، في تحليل موضوعي والوصول إلى الاستنتاجات الواجبة من قبل الذين يقفون في مواقع الصدارة.
***
هل يمكن القول اليوم أن بلادنا مُحصّنة من ردة على الديموقراطية؟
بعد رابع إنتخابات جرت عموماً وفقاً للمعايير الدولية للإنتخابات منذ “ثورة” 2011؟
الواضح أن المسار الديموقراطي قد ترسخ في تونس وامتدت جذوره عميقة، لكن بسبب قصر عمره، إذ لم يبلغ بعد حتى العقد من الزمن، فاحتمالات الإنحراف تبقى واردة، ونتائج الانتخابات البلدية لا تُسهّل قراءة المستقبل، فهل يؤدي الصندوق اليوم إلى الصندوق بعد 5 سنوات؟.
لا بد من القول أن صحافة غير مسؤولة، وانتصار انتخابي عريض يدفع للزهو بالنفس، وطبقة سياسية غير منغرسة فيها مبادئ الصالح العام، بل المصالح الضيقة سياسية وغير سياسية تتهدد المسار.
والانتخابات الشفافة النزيهة هي جزء مهم من الممارسة الديموقراطية، ولكنها غير كافية وحدها، إذ لا بدّ لها من روافد تتمثل في مناخٍ سياسي سليم، وحجمٍ من الرضا الشعبي معقول، وصحافة تشعر بمسؤوليتها وتكون مستقلة عن نفوذ المال والتسلط، فالانتخابات الأخيرة في تركيا التي يُشيد بها البعض منا كمظهر من مظاهر الديموقراطية، تبقى من وجهة نظري أبعد ما تكون من إنتخابات نزيهة وشفافة، ما دام 50 ألفاً من المواطنين في السجون (بتهمة المشاركة في مؤامرة ضد الحكم، فمن سمع بمؤامرة في التاريخ شارك فيها بصورة أو بأخرى 50 ألفاً) و150 ألفاً طردوا من الوظيفة العمومية تقول جهات حقوقية دولية لأن لهم شبهة علمانية في دولة تقول عن نفسها أنها “لائكية”، وحوالي 2000 صحافي في السجون، عدا تعطيل مئة صحيفة وعدد كبير من القنوات التلفزيونية والإذاعات ووكالات الأنبا ، وما هو البلد الديموقراطي الذي يأتي ترتيباً في الموقع 160 من 180 دولة، مُصنّفة في الترتيب الدولي لاحترام الحريات الصحافية غير تركيا، إذن وعموماً فإن تونس تعتبر ذات مناخ ديموقراطي، يجعل إنتخاباتها لا غبار عليها من حيث المحيط السياسي.
ولعل الوضع في تركيا اليوم أشبه في انتخاباتها، بالوضع كما كان عليه قبل “الثورة”، من حيث عدم توفر مناخ سليم إضافة على ما كان عليه الأمر من تزييف الانتخابات في تونس بشكل فاضح، ومتسم بغباء شديد، بنتائج تقارب المئة في المئة، وهو ما تجنبه الرئيس المجدد له رجب طيب إردوغان.
***
الانتخابات البلدية الأخيرة أظهرت أن هناك منتصراً بشكل واضح، ومنهزماً بشكل لا غبار عليه.
المنتصر هو حزب “حركة النهضة”، والمنهزم هو حزب “نداء تونس”، وإذا كان بين الاثنين مستقلين وأحزاب صغيرة حصلت على الفتات، فإنه لا يفوت المرء، أن هزيمة ثقيلة حاقت بحزب “نداء تونس”، أولاً على صعيد التصويت العام وثانياً على حيازة رئاسة البلديات، فقد إنحسر تأثير هذا الحزب الذي يعلن عن نفسه أنه حداثي، وبات في القاع، وقد خسر مواقع مهمة لم يكن يتوقع له خسارتها وبهذا الحجم، وأصاب انصاره بخيبة أمل مرة لهذا الانهيار المدوي.
ولعل خسارة “نداء تونس” لم تتمثل فقط في نسبة التصويت بعد أن جاءت الثالثة ترتيباً، بل في خروجه من جملة بلديات كبيرة، تمثل في الذهن العام الأكثر حضوراً في العقلية، فمن تونس العاصمة إلى صفاقس والقيروان، خسر نداء تونس رمزية الإمساك بالمدن الأكبر والأكثر تأثيراً لأسباب مختلفة، ويسود الاعتقاد جازما بأن المدن الثلاث وربما غيرها، أفلتت للنهضة لا فقط من جهة عدد المقاعد العائدة للحزب ذي المرجعية الاسلامية في كل منها، ولكن بالخصوص بسبب المراهقة السياسية لحزب بات شبحا لنفسه، بسبب قيادة فاشلة غير ديموقراطية عاجزة ليس فقط عن الربح في المطلق، بل عاجزة حتى عن المناورة السياسية وكسب الأنصار بين المنتخبين من المستشارين، ومعرفة من أين تؤكل الكتف، وليس غريباً باعتبار طبيعة القيادة الفاشلة لنداء تونس، أن يصوت مستشارون حداثيون لفائدة مرشحي النهضة أو يمتنعون عن التصويت، الموازي للتصويت على مرشحي النهضة ـ وهذا يطرح سؤالاً أين ذهبت القيادات المقتدرة التي قادت الحزب إلى انتصار 2014 ، ولماذا غادرته وتركت حزب الباجي قائد السبسي يتيماً على مائدة اللئام .
***
فشل يلاحقه فشل، بسبب إرادة التوريث، ووضع قوى تتسم بقلة الدراية السياسية في قمة الحزب، لا تتمتع بأي مصداقية، زيادة على إنعدام الكاريزما عند قيادتها الأعلى والتخبط وغياب البصر والبصيرة، فضلاً عن أن قدرتها على القيادة في حكم المنعدمة تماماً، إضافة إلى أنها موجودة في قمة الحزب بصورة انقلابية بقوة الدولة لا بقوة إقناعها الذاتية.
وإذ لا بدّ من سوق هذه الملاحظات عن طبيعة الانتخابات الأخيرة، سواء في دورتها الأولى المتمثلة في الاقتراع العام، أو دورتها الثانية المتمثلة في إنتخاب رؤساء البلديات، وهو ما حقق إكتساحاً للنهضة أفقد كل التوازنات معناها، في بلد ما زالت ممارسته الديموقراطية هشة، فإن تلك النتائج أولاً وثانياً، تطرح تساؤلاً عما إذا لم يكن هذا الانتصار المدوي للنهضة مدعاة بل ومبرراً بالخصوص لنوع من الغرور في أدنى الحالات، فهو مُسكّر حلال لأي طرف يحقق مثل هذا النجاح ويسحق بفضله منافسه، الذي كان يتساوى معه في القوة.
***
لعل الرهان المطروح على النهضة اليوم، هو أن تتسم بشيء من التواضع لعله ليس غائباً اليوم عن ذهن قائدها الداهية راشد الغنوشي، وذلك هو الدرس الأول المطروح على النهضة، هي انتصرت فعلاً وبصورة عريضة، ولكن الانتصار لا ينبغي أن يقودها إلى غرور قاتل، قد يعيد البلاد إلى جو صائفة 2013. أما الدرس الثاني فهو مطروح هذه المرة على نداء تونس، وهو الاتعاظ من هذا الفشل الذريع، ومعرفة قراءة واقع الحال، والقيام بالاستنتاجات اللازمة، وتتمثل في انصراف القيادة الحالية كما يحدث في المجتمعات الديموقراطية، لنتساءل مع المتسائلين أين هي قيادة الحزب الاشتراكي الفرنسي؟ وأين هي قيادة الحزب الديغولي؟ وأين هي قيادة حزب الجبهة الوطنية اليمينية بعد انتخابات فرنسا قبل عام وسقوط الأحزاب التقليدية؟ الفاشل ينبغي له أن يعي الدرس ويقدم إستقالته معتذراً.
***
على أن للمرء والمقال طال عن اللزوم ، أن لا يخرج من الكتابة إلا وهو يلاحظ أننا وإلى حد كبير، مصابون بقدر غير محدود مجتمعياً وفردياً ب”سكيزوفرينيا” متأصلة أبرزتها في الوقت نفسه إنتخابات بلدية منتهية ـ وتقارير لجنة للحريات الفردية والمساواة ، استبدل النقاش الهادئ بشأنها بحملة شعواء متبادلة الاتهامات، أحيانا كثيرة من دون سند، فكم أطلق من أكاذيب لمحتويات منسوبة للتقرير لا وجود لها بين دفتيه. وقد ظهر لي أن بلادنا لا تعرف معنى لآداب الحوار، وتأثرتُ كثيراً للتمزق الذي يشعر به الصديق صلاح الدين الجورشي، لا بين قناعاته الشخصية وما يعتمل داخل المحيط الذي ينحدر منه، بل لظلم ذوي القربى، وإن كان إعتقادي الشخصي، أنه ليس في تونس اليوم من قطع طريقاً مليئاً بالأشواك مثل صلاح الجورشي، فمن الجماعة الإسلامية في سبعينات القرن الفائت، بكل الفكر الذي تبنته وقتها، وأستطيع أن أقول بلا تردد، أنه كان ظلامياً، للوصول للفكر ذي المرجعية الكونية بمقتضياتها وبكل مكوناتها، قطع الجورشي طريقاً طويلاً لم يكن من السهل أن يقطعه غيره، جله داخل هياكل رابطة حقوق الانسان المدرسة الفريدة من نوعها، لينخرط في منظومة توجه يؤمن بالكونية، من دون أن يتنكر لإسلامه في صيغته التقدمية المتلائمة مع العصر، إسلام مقاصدي، كما انتهى إليه المصلحون خصوصاً في تونس ومصر منذ القرن التاسع عشر، ولعل التونسي البسيط الذي ليست له تجربة في خوض مسار المجتمع المدني معذور لعدم تفهم صلاح الجورشي، أما من تمتعوا بالتجربة فهم يعرفون معنى الحلول الوسطى، ومعنى التضامن بشأن ما يذهب إليه الوفاق، ومعنى أن تكون أو لا تكون متفق تماماً وحتى بتاتاً، ولكن تبقى ضمن الفريق، تلك تجربة ثرية خاضها من يعرف معنى العمل داخل فريق، فقط أقول كان الله في عون الرجل، داخل “بعض طبقة مثقفة” لا تدرك معنى العمل الجماعي، وما يفرضه من ضرورات، وأحيانا تنازلات لعل أهمها ضرورة التضامن، وعدم ترك السفينة، هرباً بمناسبة أول عاصفة.
• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: fouratiab@gmail.com