هل بقي في تونس شعب؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

قبل سنوات قليلة وفي ربيع 2012 حَبَّرَ مصطفى الفيلالي مقالاً كتبه بماء الذهب، عنونه “هل بقيت في تونس دولة؟”، وجاء الوقت اليوم ، لنكتب من جهتنا مقالاً بعنوان: “هل بقي في تونس شعب؟”.
لقد حملت إلينا الأخبار ما مفاده أن المجمع الكيميائي بمصانعه الضخمة التي كانت تدر على البلاد “الخير والبركة”، سيضطر إلى عدم دفع أجور عماله، المنتشرين في صفاقس والصخيرة وقابس والمتلوي، ويعمّ خيرها كل أنحاء البلاد، وما يستتبع ذلك من عدم دفع أجور عمال الحوض المنجمي في قفصة، أي حرمان حوالي 30 ألفاً من المواطنين، من مرتباتهم بما يستتبعهم، مباشرة وبصورة غير مباشرة، حرمان حوالي 300 ألف مواطن من مصدر الرزق.
في الأثناء وعلى مدى السنوات السبع الأخيرة، إنحدر دخل البلاد بصورة خطيرة، ليس فقط بسبب إنهيار إنتاج الفوسفات، بل كذلك البترول، وإنتاج الصناعات المعملية، وغيرها من القطاعات التي باتت تشهد إضرابات متواليـــة وطويلة الأمد، بل وصدّاً عن العمل أو ما يُعبَّر عنه قانونياً بمنع حرية العمل، والذي يدخل تحت طائلة القانون الجزائي، ويستوجب في البلدان المتقدمة، وحتى الدول الأقل تقدما مثلما كانت تونس ـ عندما كانت فيها دولة – عقوبات نص عليها القانون.
وفيما عدا سنة واحدة في العام 2012 عرفت فيها البلاد نسبة نمو (إصطناعية وغير حقيقية) بحوالي 3 في المئة، نتيجة إرتفاع إنفجاري (exponentiel) في الأجور، بعد قبول عشرات الألوف من الموظفين الجدد ورفع الأجور بصورة لا طبيعية، وغير مستجيبة لزيادة لا في الإنتاج ولا الإنتاجية، بل لإستخدام الألوف من الموظفين وشبه الموظفين الجدد، الوافدين أساساً من حزب حركة “النهضة” الحاكمة، بما يرفع إصطناعياً في نسبة النمو المتأتية من الإدارة، التي تحسب الأجور فيها دون غيرها ثروة جديدة لا أثر حقيقياً لها في رفع نسبة النمو بصورة صحيحة، في ما عدا تلك النسبة المُصطنعة، فإن البلاد لم تعرف نسبة نمو تُساير وتُتسّق مع ما كانت عليه البلاد قبل الثورة، بقطع النظر عن المكسب الكبير والذي لا يمكن نكرانه، من إنتشار الممارسة الديموقراطية بكل أشكالها.
وبإستثناء أقلية من المحظوظين ممن إرتفعت مداخيلهم سواء في القطاع الخاص أو قطاع الموظفين نتيجة زيادات غير منضبطة ولا منطقية في الموارد، فإن غالبية الشعب تشهد من عام إلى آخر تراجعاً كبيراً في القدرة الشرائية، ما أدى إلى سحق طبقة وسطى كانت تُعتبر محرك التنمية، سواء بإنتاجها وإنتاجيتها المتصاعدة، أو بسبب قدراتها الإستهلاكية التي إستُنفِدت اليوم وأصبحت في خبر كان.
وإستتباعا لذلك أخذ الإنهيار يُصيب إقتصاداً فَقَدَ بوصلته، فغابت التوازنات جميعها، وتدهور وضع المواطنين، وإذ تدنى الدخل الحقيقي للفرد، فقد تعاظم عبء الضرائب، والإقتطاعات الإجتماعية والتضخم المُنفلت. وإذ إرتفع الدخل الفردي من 5 آلاف إلى 7 آلاف دينار (نظرياً)، فقد تدهور في قيمته نتيجة تدهور الدينار بالقيمة الثابتة، وبات الدخل الفردي الذي كان يصل إلى ما يقارب 5 آلاف دولار، قبل 7 سنوات إلى مستوى ما يقل عن 4 آلاف دينار، وذلك هو المقياس الصحيح.
وإذ كان لإضطراب العوامل الإقتصادية، ومنها إنهيار السياحة، والجفاف، وتأخر إتخاذ قرارات إدخال الإصلاحات الضرورية منذ 2012 ما أدى بوزير إصلاحي مثل حسين الديماسي للاستقالة، تأثيرات لا يُمكن لأحد إنكارها نتيجة ظروف قاهرة مثل إستشراء الإرهاب، وهو نتـــاج تسيّب ملحوظ خلال مدة حكم الترويكا، فلعلّ للإضرابات المتوالية والطويلة الأمد، وشل حركة الإنتاج الأثر الأكبر في إنهيار اقتصادي، سيصعب تجاوزه في زمن منظور، بعد إنفجار المديونية، وتحوّل العوامل الإقتصادية السلبية، من حالة الوقتية إلى الهيكلية.
وإذ للمرء أن يتوقف عند أثر الإضرابات غير الشرعية ولا القانونية، ومنع حرية العمل، والصد عنه، وعجز الحكومات المتعاقبة، منذ 2012 عن وقف هذا الحال، فإنه للمرء أيضا بالعودة إلى إنفجار حجم المديونية الجديدة وطبيعتها، وإتجاهها لا لإنجاز مشروعات جديدة تنتج ثروة، وتوفر فرص العمل بالحجم الكافي، أن يلاحظ أن جزء مهماً من تلك المديونية، نتج من تقهقر إنتاج الفوسفات بخاصة والبترول بصورة أقل، بعد أن أصبحت الإضرابات غير الشرعية وغير القانونية موضة يومية، يتآكل أمامها إقتصاد يترنّح، ولا أفق أمامه مهما قيل، كل ذلك نتيجة غياب الدولة، أو ما وصفه حكيم تونس مــــصطفى الفيلالي في مقاله “هل بقيت في تونس دولة؟”.
وإذ اتفقنا على أنه لم يبقَ في تونس إلا شبح دولة “لا تبل ولا تعل”، فللمرء أن يتساءل أين هو هذا الشعب الذي كان ينبغي أن يدافع عن نفسه، وعن مصيره ومصير أبنائه وأحفاده.
هل أصبح جثة هامدة، وهو يرى أقلية، تعبث بقوته، وهو يرى الذين يمنعون حرية العمل يتبجحون على شاشات التلفزيون، وأثيــر الإذاعات، وأعمدة الصحف، من دون حساب ولا عقاب، بأعمالهم وتحركاتهم اللاقانونية والتي ترتهن قوت الشعب ومستقبله، وتمنع إقلاعه الاقتصادي، وتدفعه دفعاً إلى إفلاس مُحقَّق مثلما هو المصير المُنتظَر للمجمع الكيميائي؟ وأين هي طلائعه؟ وأين هو مجتمعه المدني، وهو يرى البلاد رهينة بين أيدي من يمنعون عنه رغيفه، ومن يمنعون عن أبنائه من التلاميذ رؤية نتيجة جهدهم، في مدرسة عمومية أصبحت بفضلهم شبحاً لما كانت عليه، وهم الذين تدهورت ساعات عملهم حتى إلى الثلثين تحت ضغط مطلبية قصوى لا مثيل لها في أي بلد في العالم.
هل إن الشعب التونسي بات شعباً بلا حراك، مثل دولته، أم “هل بقي في تونس شعب؟”.

• كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى