الطريق إلى فرساي

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

كان الملك لويس السادس عشر (23 آب/ أغسطس 1754 – 21 كانون الثاني/ يناير 1793) يظن أن الأقدام التي تدبّ في الميادين بعيداً من فرساي لن تستطيع التقدّم نحو بلاطه المُقدَّس، وحين همس أحدهم في أذنه بما يدور حوله، سأل مُستَنكِراً: “هو التمرد إذن؟” فرد حواريه: “بل هي الثورة سيدي”. ولم يُدرك الحاكم بأمر السماء خطورة الموقف إلا عندما وقفت ستة آلاف إمرأة بين يديه ليطالبنه بحق أبنائهن في الطعام. يومها خرج خليفة الرب من قصر فرساي ليعود صاغراً إلى باريس تمهيداً لمحاكمة شعبية وشيكة.
حكم لويس الفرنسيين بإسم الرب، وزَيَّنت له حفنة من الكهنة المنتفعين سوء عمله، ففرض على البائسين مزيداً من البؤس، وحاول أن يملأ خزانته الخاوية بضرائب أثقلت كاهل المُستَضعَفين. وحين إستبدّ الرجل وكهنته وثلّة من النبلاء الفاسدين بخيرات فرنسا، مادت الأرض التي ظن أنه ظل الرب فوقها من تحت قدميه وتحوّلت بين عشية وضحاها إلى لعنة تطارده حتى المقصلة.
يوماً تقدّم أحد وزراء الرجل بإستقالة مُسَبَّبة إليه، ولما إنصرف من قصره، نظر لويس في عيني زوجته مُتحَسِّراً، وقال: “ليتني أستطيع أن أفعل مثل ما فعل”. لكن البطانة الفاسدة حتماً كانت تُصَوِّر للرجل أنه سرّ بقاء فرنسا على الخارطة، وأن الله يُبارك الوطن لأجل ذاته المُقدَّسة. لم يكن الرجل يظلم الناس بإسمه، لكنه كان يمهر كل مظلمة وكل مفسدة بإسم الرب، وبمباركة واسعة وتأييد مُطلَق من كهنة المعبد الذين نسوا الله وعبدوا الطاغوت فأنساهم أنفسهم.
ولما هَمَّ الفرعون السادس عشر بالتجرد من زينته، خرج من التاريخ وحده، وبقيت فرنسا أقوى وأعظم وأمجد. وتحوّلت بعده المملكة الفقيرة إلى إمبراطورية عُظمى حكمت الشرق والغرب، وحاكمت زُمرَة الشر والفساد وأسّست لدولة مدنية لا يستطيل فيها حاكم برأسه، ولا كاهن بزيه، ولا يتميز فيها نبيل عن فقير إلا بالدستور والعمل الصالح.
كان ثوار فرنسا يعرفون وجهتهم، ويحملون في إيمانهم دستوراً يحفظ آدميتهم ويضمن حقوقهم، ويحملون في قلوبهم عزيمة لا يغيّرها كرسي ولا زيّ ولا وعد مكذوب. ولهذا نجح الفرنسيون حيث فشلنا، وعادوا إلى بيوتهم مطمئنين إلى عيش كريم، وحرية مقيمة، وعدالة دائمة، بينما عاد المصريون من ميادينهم بخفي وعد لن يتحقق حتى يلج الجمل في سم الخياط.
ظل الفرنسيون يتابعون مسار ثورتهم أكثر من عشر سنين، وحين رأوها تنحرف عن مسارها، خرجوا عن مسارهم السلمي ليعيدوها إلى سيرتها الأولى. ونجح الفرنسيون في التخلص من حكم ملكي جائر ظل يظلم الناس بإسم الرب ويتحكّم في رقاب العباد وأرزاقهم من دون وازع من دين أو خلق. ومع رحيل الملك، رحل الطبّالون والكهنة المُزَيَّفون من معابد التاريخ، وعادت فرنسا للكادحين من أبنائها ليقطفوا ثمار الثورة اليانعة.
لا أريد هنا بالطبع أن أُقلل من شأن ثورتنا التي حرّكت كل ذي كبد رطب من أطراف الأرض إلى أطرافها. فقط أردتُ أن أذكر أن التاريخ لا يُجامل، وأن سنن الله في الكون باقية ما بقي الليل والنهار، وأن التكتل وراء الأشخاص يضلّ ويعمي، وأن التكتل خلف الأهداف العليا والغايات السامية هو الضمانة الأكيدة لنجاح أي ثورة وكل ثورة.

• أديب، كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى