عودة الأضواء على أول مخرج سينمائي طليعي كبير في لبنان

لزم الأمر ما يزيد عن نصف قرنٍ ليرى جورج نصر (1927) نفسه مُكرَّماً في المهرجانات الدولية مُجدداً وفي لبنان خصوصاً. هو الذي إعتبر 2017 سنة التكريمات التي بدأت في “مهرجان كان السينمائي الدولي” وإستُكمِلت بصدور فيلم وثائقي (“نصر” – 65 دقيقة ـــ للمُخرجَين بديع مسعد وأنطوان واكد)، وكتاب حول مسيرته بعنوان “جورج نصر: السينما الداخلية” (إشراف غسان قطيط ـــ منشورات جامعة الـ”البا”. علماً أنّ نصر تولى تعليم مادة الإخراج هناك على مدى سنوات).

فيلم “إلى أين”: عرضه مهرجان “كان” مُرَمَّماً

بقلم جوزيف فهيم*

حتى لو كنت من عشاق السينما المتابعين، فربما لم تسمع بإسم جورج نصر. في الواقع، هناك عددٌ قليل من الناس، من خارج المتخصصين والناقدين في مجال الفن السابع داخل لبنان، قد سمع عن هذا المخرج اللبناني الرائد.
على مدى أكثر من نصف قرن، دُفع نصر إلى دور هامشي في تاريخ السينما العربية. على الصعيد الدولي، تمّ نبذ إرثه وتنحيته إلى حاشية في “قاموس السينما” (Dictionnaire Des Films)، وهو كتاب للمؤرخ الفرنسي المُؤثّر جورج سادول.
بعد سنوات من التعتيم الكامل، عاد نصر أخيراً إلى دائرة الضوء بفضل الفيلم الوثائقي الجديد “نصر” وعرض أول فيلم له “إلى أين” (1957) بعد ترميمه في مهرجان “كان” السينمائي الدولي في العام 2017
إن قصة نصر ليست مجرد حكاية صعود وسقوط لمخرج سينمائي موهوب ينشأ في المكان الخطأ والوقت الخطأ. إن قصة نصر هي قصة لبنان: هوية متضاربة، وفقدان ذاكرة جماعي، وخرافات سرد وطني مُفكَّك.
ولد نصر في طرابلس في العام 1927، وكان من أوائل المخرجين العرب الذين درسوا السينما في الولايات المتحدة، وحصل على شهادة من جامعة كاليفورنيا قبل عودته إلى لبنان في منتصف خمسينات القرن الفائت لإخراج أول أفلامه، “إلى أين”.

متطور وثوري

على عكس المخرجين اللبنانيين القليلين الذين سبقوه، وكان أسلوبهم إستمرارية للتقاليد المسرحية إلى حد كبير، كانت سينما نصر أكثر تطوراً. كان موضوعياً ووحيداً. وسرعان ما دخل “إلى أين” التاريخ، ليصبح أول فيلم لبناني يتم إختياره لمهرجان “كان” السينمائي في العام 1957.
في ميلودراما تتركز حول رأس العائلة الذي قرر الهجرة إلى البرازيل بحثاً عن مستقبل أفضل، كان “إلى أين” أول فيلم لبناني يستغل بشكل كامل إمكانات التصوير السينمائي المثير ويستفيد منها. وإستخدم نصر أداءً مُقيَّداً إلى حد كبير، وتحوّلات متقدِّمة، ورمزية بصرية ذكية، ومواضيع وجودية منتشرة، الأمر الذي أكّد السرد.
بالإضافة إلى ذلك، كان عرض نصر للمرأة ثورياً: في “إلى أين” وأفلامه اللاحقة على السواء، كانت شخصياته النسائية متحررات جنسياً وقويات الإرادة، حيث يعلنّ من دون خجل عن رغباتهن كما هو الحال مع نظرائهن من الرجال.
وقد حدث هذا المسعى الهائل في وقت لم تكن فيه أدوات السينما الأساسية موجودة. “لم يكن لدينا ممثلون يومها؛ ولم يكن لدينا أيضاً تقنيون وفنيون في ذلك الوقت”، قال نصر في مقابلة مع قناة “أم تي في” اللبنانية في الصيف الماضي.
“لقد صنعتُ الفيلم من خلال إعطاء مجموعة من الشباب بعض المهام، وتوضيح ماهية هذه المهام. لقد تطلّب ذلك جهداً هائلاً، لكنه يستحق ذلك، لأن الفيلم وضع لبنان على خريطة الأفلام الدولية”، على حد قوله.
ومع ذلك، لم يكن “إلى أين” ناجحاً في شباك التذاكر. كان مزيجه من الميلودراما والواقعية الجديدة الإيطالية متطرفاً جداً وغير مألوف بالنسبة إلى جمهور السينما في ذلك الوقت.
فيلمه التالي، “الغريب الصغير” (Le Petit Étranger )، عُرِض في العام 1962، مُقتحماً مهرجان “كان” مرة أخرى. من خلال قصة ناجحة باللغة الفرنسية عن فتى أفسدته حياة المدينة التي لا ترحم، كان فيلم نصر الثاني فوضى ساخنة: مُؤطَّر بشكل جميل بالسوريالية والجموح.
إن قرار المنتج بتقطيع الفيلم بنفسه وإضافة مشاهد إباحية زاد من جودة تصوّره وحلمه حيث كانت جمالياته سابقة جداً زمانها.

هوية متضاربة

الواقع أن كل فصل في مهنة نصر يُمكن إعتباره إنعكاساً لهوية منكوبة.
يُبرز “إلى أبن” رغبة جوهرية في ترك الوطن وعدم الرضا عن حياة لبنانية خانقة ومحدودة. وبعرضه الكثيف للعادات اللبنانية المختلفة، يُحاول نصر أيضاً تعزيز هوية وطنية مُوحَّدة متميزة عن النفوذ العثماني أو العربي.
وبإستخدامه الحوار الفرنسي، فقد ربط “الغريب الصغير” الهوية اللبنانية بفرنسا، وهي إيديولوجية مرتبطة ببعض الأجيال الأكبر سناً من اللبنانيين المسيحيين.

سنوات النسيان

“الغريب الصغير” كان على حد سواء فشلاً عملياً وتجارياً، حيث أنهى حياة نصر في لبنان ورمى إرثه في غياهب النسيان.
في إحدى حكاياته الطويلة العديدة، وضع نصر اللوم على الموزعين المصريين بالنسبة إلى الفشل التجاري للفيلم. وقال إنهم هددوا أصحاب الصالات السينمائية اللبنانيين بسحب الأفلام المصرية إذا عرضوا فيلمه، خوفاً من التبشير ببداية موجة سينمائية لبنانية جديدة التي كان من شأنها أن تسرق عرش السينما المصرية.
وكان على نصر أن يمضي 12 عاماً قبل تصوير فيلم آخر. كان عمل نصر الأخير، “المطلوب رجل واحد” (1973)، من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا، وهو يروي حكاية فلسطينية مجازية عن وريث لأسرة مُسالِمة يخطط للإنتقام من الحاكم الفاسد في قريته. وعلى الرغم من أن العمل كان إنتاجاً سورياً، فإن السرد العربي له يُمكن أن يدل على إعتبار نصر في حينه أن لبنان جزء من العالم العربي.
بوفرة الأداء العالي والرمزية الصارخة التي تنحرف نحو محاكاة ساخرة للذات، وربما عن غير قصد، كان هذا الفيلم قطعة سامية من الفن الهابط؛ زاخراً بالمواجهة على الطريقة الغربية ولكن المتدنية، وبالعري النسائي، وبإستخدام صارخ للألوان الأساسية.
وبعد عام، إندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، وبالتالي حوّل نصر جهوده إلى إنشاء نقابة لبنانية للسينما – التي لم تتحقق أبداً – قبل أن يتولى وظيفة التدريس في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة.
وخلافاً للعديد من المخرجين اللبنانيين الذين تلقوا إشادة دولية بقصصهم عن الحرب الأهلية، فإن نصر لم يقترب من هذا الموضوع أبداً، الأمر الذي خسّره في هذا الإبتعاد التأثير الذي كان يمكن أن يكون له في الأجيال اللاحقة.
منذ ذلك الحين، ظل نصر شخصية غير معروفة إلى حد كبير بالنسبة إلى مجتمع السينما والجمهور العام على حد سواء. وذلك حتى قرر إثنان من تلاميذه السابقين بديع مسعد من “أم سي ديسترِبيوشن” و أنطوان واكد من شركة الإنتاج الفني الرائدة “أبّوت” عرض أعماله وقصته للأجيال الشابة عبر المنطقة في العام الماضي.

تكريمٌ لمعلم

“نصر شخصية خاصة. عندما تقابله، لا يمكن أن تنساه أبداً”، قال لي واكد. “عندما إلتقيته بالمصادفة في أحد الأيام وأخبرته عن مكان عملي، سألني إذا كان بإمكاني أن أحدد إجتماعاً معنا. بعد لقائه، إقترح [الرئيس التنفيذي لشركة “أبوت”] جورج شقير، الذي لم يكن على دراية بأعماله، على الفور تصوير فيلم عنه. معظم العاملين في السينما اللبنانية يعرفون من هو جورج نصر، لكن نصفهم فقط شاهد أفلامه أو يعرفون ما هي قيمته”، متابعاً.
لم يقصد فيلم “نصر” أن يكون تحقيقاً أو بحثاً عن الهوية اللبنانية، كما أنه لم يكن مغامرة لإستخلاص الحقيقة من أسطورة نصر. ببساطة، سعى واكد ومسعد إلى توجيه إشادة ودية لمعلمهم القديم.
“أردنا أخذ ما نحبه عن نصر، وشخصيته الرائعة، وتعريف الناس الذين لم يلتقوه به. لقد أجرينا مقابلة واسعة معه، وبدأ تدريجاً الإنفتاح علينا”، قال واكد. “نصر شخصية خاصة. إنه مخرج يوجّه نفسه – الطريقة التي يمشي بها، الملابس، التدخين. انه بصري جداً”، مؤكداً.
وقال مسعد: “الخرافات التي نشرها هي جزء لا يتجزأ من شخصيته. على الرغم من أنه طوال الفيلم، تظهر الحقيقة التي تقف خلف الرجل، ووراء هذه الخرافات، تدريجاً على السطح”.
قصة جورج نصر تشكّل أيضاً صورة مصغرة لصناعة السينما اللبنانية بأكملها.
“إن نصر يُمثّل أي فنان يعمل في لبنان”، قال واكد.. “كان لديك حلم، وتعمل بجد لتحقيقه، ولكن تواجه بإستمرار العقبات التي في نهاية المطاف تُخرج أفضل ما لديك”، متابعاً.
أخذ نصر ما تعلمه من هوليوود ووضعه في سياق لبناني فريد، ولكن أفلامه ووجهت بالرفض. ثم قاتل لإنشاء إتحاد؛ وللحصول على دعم الدولة لتمويل وتصدير الأفلام اللبنانية دولياً، لكنه فشل.
“إن قصة نصر مع الأحلام التي لم تتحقق، ربما كانت أيضاً قصة السينما اللبنانية كلها: تولد مواهب عظيمة، ثم لا تلبث أن تموت، ثم تعود إلى الحياة مثل طائر الفينيق، ثم تموت مرة أخرى، وهي دائرة لا تنتهي. إن السينما اللبنانية محددة كلياً بمجموعة من المحاولات المُحبَطة”، على حد قول واكد.

إغلاق دائرة

بالنسبة إلى إبن ال91 عاماً، فإن العودة إلى مهرجان “كان” مع العرض الأول في العالم للنسخة المُرَمَّمة من “إلى أين” في العام الماضي يُغلق الدائرة التي بدأت منذ أكثر من نصف قرن.
وقد لقيت عروض أخرى للنسخة المرممة في مهرجانات “لوميير”، و”سينما مديترانيان دي مونبلييه”، ودبي إستقبالاً حاراً.
“شعرتُ وكأن الجمهور يكتشف مخرجاً جديداً”، قال مسعد. “مواضيع الهجرة، والشعور بالانتماء والهوية، لا تزال تلقى صدى مع جماهير اليوم. كل من “إلى أين” “والغريب الصغير” إجتاز إختبار الزمن”، على حد تعبيره.
كان لبنان دائماً يتمتع بذاكرة قصيرة المدى – ربما كان ذلك آلية البقاء التي تنقلب وتتحوّل إلى كل جانب آخر من جوانب الحياة المعاصرة. إن “السينما هي مرآة بلادها الأصلية”، قال نصر في الفيلم الوثائقي.
إن غالبية طلاب السينما لم ترَ أبدا أفلام نصر، ناهيك عن أولئك المخرجين البارزين والشعبيين مثل مارون بغدادي وبرهان علويه أو رندة الشهال صباغ. وقد تكون الإنعكاسات الذاتية الأولية متطلبة جداً بالنسبة إلى بلد لا يزال يعاني من صراعات داخلية لا تُعَدّ ولا تُحصى.
في الأشهر القليلة الماضية، أصبح نصر، مرة أخرى، إسماً مألوفاً. إن الأساطير والخرافات التي أحاطت بصناعته للأفلام، والثغرات الصارخة في أفلامه، وعدم إكتمال حكايته تجعل منه قصة لبنانية شاملة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى