هل هناك قرارٌ بالحدّ من حرية التعبير في لبنان؟
بعدما كان لبنان يُعتبَر بلد الحريات، وبخاصة حرية التعبير، يبدو أن هناك موجة تعمل على كم الأفواه وقمع حرية الرأي والتعبير والطبقة السياسية في البلاد غائبة عن عواقب هذا المدّ المتصاعد.
بيروت – رئيف عمرو
في الأسبوع الفائت، أصدرت المحكمة العسكرية في لبنان حُكماً غيابياً على حنين غدّار، الصحافية اللبنانية التي تعمل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى، بالسجن ستة أشهر. وقد أعلنت غدّار في منشور “فايسبوكي”، بأن الحكم يَتعلَّق بمشاركتها في العام 2014 في ندوة في واشنطن، قالت خلالها أنّ “الجيش اللبناني يُميّز بين إرهابٍ سنّي وإرهابٍ شيعي، ويتسامح مع الأخير”.
وكان القرار لافتاً وغير عادي لسببين. أولاً، إن قرار المحكمة العسكرية بإدانة غدّار عن تصريحات أدلت بها في الخارج يبعث برسالة مُثيرة للقلق مفادها بأنه يُمكن ملاحقة المواطنين اللبنانيين قانونياً أينما كانوا إذا قالوا كلاماً تستاء منه الدولة أو لا يعجبها. ونادراً ما سعى الجيش في السابق إلى الدخول والإنخراط في مثل هذا التفسير الواسع لسلطته الرقابية.
وثانياُ، إنه يُمثّل توسّعاً آخر في سلطة هذه المحكمة في المسائل التي ليست من إختصاصها. إن المحكمة العسكرية ينبغي أن تتعامل فقط مع الشؤون العسكرية.
من ناحية أخرى، إن قرار المحكمة لم يكن عنيفاً فحسب، بل كان أيضاً متهوّراً، لأنه بعث رسالة سيئة جداً إلى الولايات المتحدة عن شريك متميِّز، أي الجيش اللبناني. وهذا أمرٌ متناقض، لأن الإجراءات القانونية ضد غدّار قد تكون قد إتُّخذت لأن تعليقاتها إنتقدت الجيش في مكانٍ يُحسَب له حسابٌ أكثر من غيره. إن لبنان يعتمد إعتماداً كبيراً على المساعدات العسكرية الأميركية، وآخر ما تريده القيادة العسكرية هو رؤية المواطنين اللبنانيين يُدينون سلوك الجيش في دوائر السياسة الأميركية.
وإذا كان هناك أي شك حول الرسالة التي وصلت إلى واشنطن، فقد تمّ تعيين أحد زملاء غدّار في معهد واشنطن، ديفيد شينكر، أخيراً مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى. وقد دافع شينكر طويلاً عن المساعدات الأميركية للجيش اللبناني. ومع ذلك، فإن ما حدث لغدّار ليس من المرجح أن يجعل مهمته أسهل.
كما أن غدّار، وهي شيعية من جنوب لبنان، كانت منذ وقت طويل تنتقد “حزب الله”، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان الحزب متورّطاً مباشرة في الدفع إلى سجنها. ومع ذلك، غالباً ما يكون المجهول وراء قرارٍ مُعيَّن هو التأثير لتجميد حرية التعبير أكثر من أي شيء آخر. وقد تم منع غدّار، وهي أمٌّ لطفل صغير، من رؤية عائلتها في لبنان، وهي عقوبة شديدة على بضع كلمات غير مُرضِيَة.
وقضية غدّار ليست سوى الأحدث في سلسلة من الحالات المماثلة في لبنان. قبل أسابيع عدة، إستُدعي مارسيل غانم، احد كبار مضيفي البرامج التلفزيونية الحوارية، الى المحكمة بسبب تعليقات إثنين من ضيوفه العرب في برنامجه الأسبوعي “كلام الناس”. وقد أثارت قضيته سخطاً كبيراً جداً، مما يشير إلى أن شخصاً ما يُمكن أن يكون مسؤولاً قانونياً عن تصريحاتٍ غير صادرة عنه. وكان الإستنتاج المنطقي هو أن غانم قد إستُخدم لتخويف جميع مضيفي البرامج التلفزيونية الحوارية والتأكد من أنهم سيدعون فقط الضيوف الذين تعتبرهم الدولة مقبولين.
في الآونة الأخيرة، قامت إدارة الأمن العام في لبنان بفرض رقابةٍ على الفيلم الجديد الذي أخرجه ستيفن سبيلبرغ والمرشح للفوز بجائزة الأوسكار، “ذي بوست” (The Post)، لأن المخرج مؤيِّدٌ لإسرائيل. ولأن كل أفلام سبيلبرغ قد عُرِضت في لبنان سابقاً، لذلك إعتُبِرَ هذا الأمر محاولة أخرى لتضييق معايير حرية التعبير. وقد لقي القرار إزدراءً شعبياً في بيروت، الأمر الذي دفع برئيس الوزراء سعد الحريري إلى إلغاء الحظر. ورغم ذلك، فقد عمد الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، إلى الإعراب علناً عن معارضته لإلغاء الحظر. وفي حين بدأ عرض الفيلم، فإن تعليقات نصر الله سوف تُخيف بعض الناس وتُبعدهم عن صالات السينما التي تعرضه من دون شك.
في الواقع، تؤدي هذه الجهود المضطربة للحدّ من حرية التعبير إلى ردِّ فعلٍ غاضب في المجتمع. إن اللبنانيين لا يُحبّون أن يتصرف بلدهم كجمهورية موز. بيد أن مجرد تنفيذ هذه التدابير أمرٌ يبعث على القلق. إذا كانت الحالات الأخيرة تُشير إلى عدوانية جديدة من جانب الدولة، فإن الوضع لا يُمكن أن يُبشّر بالخير.
ومع ذلك، فإن لبنان ليس مكاناً سهلاً للرقابة. إن النظام الطائفي المُجَزَّأ يجعل من المرجّح جداً أن يؤدي تجاوز الحكومة وخرقها لكل الأعراف بالنسبة إلى حرية التعبير إلى مجموعة واسعة من ردود الفعل السلبية من القوى السياسية التي لا تتماشى مع أهل السلطة ولا تؤيدهم، كما كان الحال مع قضية غدّار، التي أدان الحكم عليها رئيس وزراء سابق، وكذلك وزير عدل سابق. إن القمع أصعب بكثير في المجتمعات المُنقسمة مثل لبنان منه في الولايات الأكثر مركزية.
ومما يثير القلق أيضاً أن الطبقة السياسية في لبنان تبدو غائبة جداً عن عواقب هذه الرقابة المتزايدة. إن الحكومة لا تستطيع تحمّل دفع إدارة ترامب إلى قطع المساعدات العسكرية عن الجيش اللبناني. إن قضية غدار لن تفعل ذلك بمفردها، ولكن في الوقت الذي ينظر فيه كثير من المسؤولين في واشنطن إلى لبنان بأنه يخضع لسيطرة “حزب الله”، فإن قضيتها لا يُمكن إلّا أن ُتضيف إلى الدعوات التي تقضي بإنهاء هذه المساعدات.
وقد أبدى أحد البرلمانيين ملاحظة وثيقة الصلة في حديثه عن المخاطر التي تتعرض لها القوات المسلحة اللبنانية. “لقد قطع الأميركيون المساعدات العسكرية عن باكستان، هل تعتقد حقا أنهم قد لا يختارون أن يفعلوا ذلك مع لبنان؟”
لا شك أن لديه نقطة مهمة. ليس هناك شيء مُقدَّس أو أبدي بالنسبة إلى المساعدات العسكرية الأميركية للبنان، كما أن الولايات المتحدة لا تزال صامتة عن المحاولات اللبنانية لمنع حرية التعبير. لذا ينبغي إلغاء قرار الحكم عن غدار مثلما حصل مع قرار حظر فيلم “ذي بوست” قبل فوات الأوان. لقد خُرِّب البلد بما فيه الكفاية على أيدي الغرباء فليس من الضروري أن تُساهم الدولة بنفسها بحماقة في هذا المسعى عينه.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.