في لبنان، صِحَّةُ الحكومةِ هي العَجَبُ

بقلم سجعان قزي*

كان لا بدَّ لهذه الحكومةِ في لبنان من أن تبلُغَ المأزِق، لا بل تأخَّرت. فأَوَّلُ عوارضِ “التعايشِ” في الحكوماتِ الجامعةِ يَبرز عادةً لدى إجتماعِ لَجنةِ صياغةِ البَيانِ الوزاريّ. لكنَّ أسيادَها ناموا يومَها على الضَيمِ حتى بلَغوا مَطَبَّ عِرسال. ما كان أهالي عِرسال يَظـنّـون أنَّ بلدتَهم ستُصبح “مِحوراً دولــيًّـا”، هُمُ الّذين عاشوا من نَحتِ الحجَر وقَطفِ الكَرز. بين أحياء بلدتِهم وتلالِها ووِديانِها تجمَّعت الأمم. كلُّ دولةٍ إتّخذت تلّــةً تنادي منها مَن لها عليهِم. منهم من إكتفى بالسمعِ فخجِلَ وصَوّب إنحرافَه، ومنهم من إشترطَ البَدَل ليعودَ عن زَلّتِه.
في زمنٍ سابقٍ، كانت ملابساتُ معاركِ عِرسال تؤدّي إلى إستقالةِ رئيسِ الحكومة. لكنَّ الرجالَ تغـيَّروا. منهم من يُـفضِّل أنْ يَحمِلَ صليبَه ولو لَم يَتبعْه أحد، ومنهم مَن يَحلو له أن يَشهَر سيفَه ولو كان من خشَب.
والعجبُ أنَّ قِوىً لبنانيّةً معهودةٌ سياديّـةً تقِف حائرةً حِيالَ ما آلت إليه رهاناتُها. تَستغرب المشاركةَ الثلاثيّةَ (لبنان وسوريا و”حزب الله”) في معاركِ عِرسال وتَستهجِنُ ذَهابَ وزراءَ إلى دمشق، كأنّما لا تُدرك أنّـها إشتركت في حكومةٍ يَطغى عليها المحورُ السوريّ ــ الإيرانيّ، وفي قراراتها تَفصِلُ قِوى 08 آذار. حين إنتقَت قِوى من 14 أذار ـــ مُختارةً لا مُجبَرة ـــ هذا المسارَ الرئاسيَّ والحكوميّ سنةَ 2016، كان يُفترض أن تعرِفَ ــــ وكانت تَعرفُ جيّداً ــــ تداعياتِ خِيارِها ونقطةَ الوصول. فمن يأخُذْ وُجهةَ الشَمال يصل إلى طرابلس وليس إلى صور.
الذين يُعارِضون الحوارَ مع النظامِ السوريِّ فاتَهم أنّهم جالسون في حكومةٍ يَتمثّــلُ فيها النظامُ السوريُّ والنظامُ الإيرانيّ. وفاتَهم أنَّ هذه الحكومةَ هي حكومةُ الأنظمةِ العربيّةِ والإقليميّةِ لا حكومةَ المكوّناتِ اللبنانيّة فقط. وفاتَهم أنَّ ميزانَ القِوى في لبنانَ والمِنطقةِ سيبقى حتّى صيفِ 2018 لصالحِ المِحورِ الروسيّ ـــ الإيرانيّ ـــ السوريّ. وفاتَهم أنَّ المُحرِجَ ليس ذَهابَ وزيرٍ إلى سوريا بل قتالُ حزبٍ حكوميٍّ، هو سيّدُ هذه الحكومة، في سوريا منذ أربعِ سنوات. وفاتَهم أنّـهم إشتركوا في الحكومةِ من دونِ أن يُضمِّنوا البيانَ الوزاريَّ طلبَ إنسحابِه من سوريا.
ليست المسألةُ وزيراً يذهب إلى سوريا وثانياً إلى إيران وثالثًا إلى السعودية، ولا قتالَ “حزبِ الله” في سوريا، ولا التنسيقَ الثلاثيَّ في عرسال، ولا النأيَ بالنفسِ عن حروبِ الآخرين. هذه عوارِض. الجوهرُ هو الخلافُ العميقُ والتاريخيُّ بين اللبنانيّين على وجودِ لبنانَ وهويّتِه وعلى مفهومِ السيادةِ والاستقلالِ والولاء. وهو خلافٌ سبقَ بروزَ المحاورِ العربيّةِ والإقليميّةِ الحاليّة، وإن كانت هذه المحاورُ تَستغلّ خلافاتِنا وتُسعِّــرُها (بالمعنَيين). بالنسبةِ إلى جماعةٍ، لبنانُ هو المُنتهى، وبالنسبةِ إلى جماعةٍ أخرى هو المُبتَدأ. بالنسبةِ إلى جماعةٍ، لبنانُ هو كلٌّ من كلٍّ، وبالنسبةِ إلى جماعةٍ أخرى هو جُزءٌ من كلّ. بالنسبةِ إلى جماعةٍ، لبنان هو كِيانٌ لدولةٍ واحدةٍ وبالنسبة إلى جماعةٍ أخرى هو كِيانٌ لدول. وكلّما حاول اللبنانيّون، بإسمِ التفاؤلِ والأملِ والرِهانِ على المستقبل، تَخطّي هذه الوقائعِ صُدِموا بأنَّ الخِلافَ التاريخيَّ أقوى من الوِفاقِ اليوميّ، وأنَّ الولاءَ الخارجيَّ يَـعلو على الميثاقِ الوطنيّ.
وعِوضَ أن تُضيِّقَ الحكوماتُ الجامعةُ هذا الفالِقَ الوطنيَّ، إِذا بها توسِّعه. وفي ظلِّ هذه الحقيقةِ المؤلِمةِ، يستحيلُ منطقـيّـاً أن تنجحَ حكومةُ الوِحدةِ الوطنـيّـةِ في غيابِ الوِحدةِ الوطنـيّـة. ويستحيل سياسيّاً أن تنجحَ حكومةٌ جامعةٌ في غيابِ برنامجٍ وطنيٍّ جامع. ويستحيل ميثاقـيًـاً أن يستقيلَ مكوّنٌ من حكومةِ وِحدةٍ وطنيّـةٍ ما لم يتأكد أنَّ الحكومةَ ستسقُط معه، لأن الإستقالةَ الإحاديّـةَ تُفقِد الحكومةَ صفتَها الميثاقيّة.
ورغمَ ذلك، أصبحت الحكوماتُ الجامعةُ في لبنانَ هي القاعدةَ فيما هي الإستثناءُ في الأنظمةِ الديموقراطية. إن الاستعانةَ بحكومةِ وِحدةٍ وطنيّـةٍ يتِمُّ لإستباقِ شغورٍ رئاسيّ أو بعدَ حربٍ أو إثرَ أزمةٍ كبرى (أحداثُ 1958، حربُ السنتين، حربُ الجبل، إتفاقُ الطائف، إلخ.). وإذا صَدَفَ أن تألّفت حكومةٌ جامعةٌ في ظرفٍ عاديٍّ، يفُترض أن تُبرِّر وجودَها بمشروعٍ وطنيٍّ جامع. فأين الحكومةُ الحاليّةُ من ذلك؟
الإستثناءُ أصبح قاعدةً في لبنان، لأسبابٍ عدّةٍ منها: 1) حصريّةُ السلطة التنفيذية، بعد الطائف، بمجلس الوزراء. 2) تداخُلُ التمثيلِ الميثاقيِّ مع التمثيلِ الدستوريّ. 3) إحاديّـةُ التمثيلِ الشيعيّ بحركةِ أمل و”حزبِ الله”. 4) الخَشيةُ من تفاقمِ الصِراعِ السُنيِّ ـــ الشيعيّ. 5) الالتباسُ الحاصلُ بين الموالاةِ والمعارضةِ إثرَ تَبعثرِ قوى 14 أذار. 6) كونُ لبنانَ يعيش أزمةً دائمةً.
لكن هذه “القاعدةَ الإستثنائـيّـةَ” تخضَع لواقعٍ إستثنائيّ هو سيطرةُ “حزبِ الله”. فعدا أنّـه، بحكمِ تمثيلِه الشيعيِّ، فرضَ قيامَ حكوماتٍ جامعةٍ، تَمكّن، بحكمِ قوتّـه العسكريّـةِ، من فرض سياستِه أيضاً على هذه الحكومات. وما يجري حالياً دليلٌ ساطع على ذلك.
بإنتظارِ الحلِّ الكبيرِ المَبنيِّ على هندسةٍ دستوريّـةٍ جديدةٍ للبنان، الخروجُ من المأزِقِ الدستوريّ/الميثاقيّ الحاليّ، يُحتمُّ القيامَ بما يلي:
1) تكوينُ أكثريةٍ سياسيةٍ متعدّدةِ الطوائف تعمَل على أساسِ مشروعٍ وطنيٍّ شامل، وتكون مستعدّةً للحوارِ الجِدّي، وللمواجهةِ إذا لزِمَ الأمر.
2) إيجادُ آليّةِ عملٍ وتقريرٍ جديدةٍ لمجلسِ الوزراء لأن الآليّةَ الحاليّة شبهُ معطلّةٍ بحكم “حريّةِ التصرّف” التي يمارسها “حزبُ الله”، وبحكمِ ضَياعِ الفاصلِ بين الموالين والمعارضين داخلَ الحكومة.
خلافُ ذلك، يُبقي البلادَ في أزَماتٍ متتاليةٍ يُخشى إنتقالُ بعضِها إلى الشارع، فتَتعثّر مسيرةُ العهدِ أكثرَ فأكثر، ويَفقِد التيّارُ السياديُّ التاريخيّ في لبنان روحَه وقضيَّته وصدقـيَّته.

• وزير لبناني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى