مَن يَضمَن عدم مُعاقبة العائدين من السوريين النازحين إلى ديارهم؟

يبدو أن قواعد ما يُعتبر سلوكاً سياسياً مقبولاً في سوريا يتغيّر باستمرار، ولكن مع عواقب وخيمة.

الرئيس بشار الأسد: مَن وكيف يضمن عودة النازحين؟

بقلم أرميناك توكماجيان*

في تلك الأجزاء من سوريا التي يُسيطر عليها نظام الأسد اليوم، يختلف ما يُعتَبَر سلوكاً مسموحاً به سياسياً عمّا كان عليه الأمر قبل العام 2011. ما تغيَّر أيضاً خلال الصراع السوري هو مكانة وتأثير الوسطاء بين النظام والمجتمع الذين غالباً ما لعبوا دوراً حاسماً في التوسط نيابة عن أولئك الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء للنظام.

لقد فقد العديد من السوريين، وخصوصاً أولئك الذين يعيشون خارج المناطق التي يُسيطر عليها النظام خلال الحرب، إحساسهم الرائع السابق بالعمل ضمن هذه الخطوط الحمراء الغادرة. في الوقت عينه، فَقَدَ الأشخاص المُؤثِّرون سابقاً قدرتهم على إجراء المصالحة بين الدولة وأفراد مجتمعاتهم.

لعقود خلت، عبر السوريون واجتازوا بمهارة الحدود غير المرئية للمقبول سياسياً. كانت الشكوى من الفساد والمحسوبية مسموحاً بها؛ لكن انتقاد الرئيس لم يكن كذلك. كان من الجائز مواجهة موظف حكومي لا يُمكنه معالجة الطلبات من دون رشوة؛ وكان القيام بذلك لمسؤول أمني أكثر خطورة. لقد طوّر السوريون، الذين قضى الكثير منهم حياتهم في دولة بوليسية، إحساساً قوياً بهذه التفاصيل الدقيقة، ما سمح لهم بمواصلة حياتهم من دون تجاوز الحدود غير المرئية.

ومع ذلك، تمّ أحياناً اختراق هذه الخطوط، وبشكلٍ مُتعَمَّد في بعض الأحيان لتحدّي ما قرّر النظام أنه شيء أو عمل غير مسموح به. على الرغم من سجل النظام في عدم التسامح مع التهديدات المُتصَوَّرة، فإن هذه الإنتهاكات لم تنتهِ دائماً بالعنف. وذلك لأن الوسطاء الذين تربطهم صلات جيدة بالنظام تدخّلوا نيابةً عن أولئك الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء وساعدوا على حل المشكلة بأقل الأضرار. وقد وفّرت بدايات الحربين الأهليتين في سوريا – الأولى مع جماعة “الإخوان المسلمين” والتي بلغت ذروتها في مذبحة حماه في العام 1982 والإنتفاضة التي بدأت في العام 2011 – العديد من الأمثلة المُماثلة.

اليوم، تبدو الحدود في مناطق النظام أكثر غموضاً وتتغيّر باستمرار، في حين أن دور الوسطاء القدامى قد تغيّر وانخفض. هناك قصتان من دير حافر بالقرب من حلب – إحداهما لراعي غنم والأخرى لشخصية قبلية بارزة – تُوضّحان هذا التحوّل في العلاقات بين الدولة والمجتمع.

القصة الأولى التي تخص رجلاً عاد للأسف أخيراً من مناطق سيطرة المعارضة إلى دير حافر، تُوضّح كيف أصبحت الخطوط الحمراء للنظام غامضة ولا مركزية. إنه رجل خمسيني مهنته الرعي وهوايته الغناء، لم يشارك في أي نشاط سياسي. واثقاً من “سجلّه النظيف”، قرّر العودة إلى منزله بعدما كان نزح داخلياً. نجح الرجل في العبور إلى مناطق سيطرة النظام قرب الباب، ما يشير إلى أنه ليس على قائمة المطلوبين لدى النظام، وعاد إلى مسقط رأسه. لكن بعد أيام قليلة استدعته قوات الأمن المحلية ولم يُسمَع عنه أي أخبار منذ ذلك الحين.

لم يُعرَف بعد سبب استهدافه. هل تخطّى خطاً أحمر؟ هل تصرّف وكيل الأمن المحلي من تلقاء نفسه؟ هل قام أحدٌ بالإبلاغ عنه لتصفية حساب شخصي؟ هذا النوع من عدم اليقين هو بالضبط ما يجعل الحدود التي رسمها النظام والفروع المحلية التابعة له غير قابلة للتحديد. وهذا ينطبق بشكل خاص على أولئك الذين غادروا مناطق النظام في أثناء النزاع، وبالتالي لم يتكيّفوا باستمرار مع القيود الجديدة على ما يمكن قوله وفعله.

هل يُمكن للوسيط الذي لديه اتصالات جيدة بالسلطات المحلية ومعرفة الراعي أن ينقذه؟ ربما. لا تزال سياسات الوساطة غير الرسمية سمة مميزة في سوريا، على الرغم من أن العديد من هؤلاء الوسطاء لديهم الآن وجوه جديدة. الشخص الذي شعر بهذا التغيير شخصياً هو شخصية بارزة من المدينة نفسها. إنه زعيم عشيرته، أو شيخها، الذي له تاريخ طويل من النشاط الموالي للنظام، وكان شخصية مهمة في دير حافر قبل العام 2011. لكن اليوم، لم يعد يبدو كذلك.

بعدما استعاد النظام دير حافر من المعارضة في العام 2017، توسّط الشيخ مع السلطات من أجل عودة شقيقه من مناطق المعارضة. كانت الخطة أن يعود شقيقه، ويحل مشاكله الأمنية مع السلطات الأمنية المحلية، ويعود إلى حياته الطبيعية. كانت هذه العملية مُمكنة إلى حد كبير في سوريا قبل العام 2011، خصوصاً بعد تدخّل وسيط مؤثر. لكن الخطة اتّخذت منعطفاً مُروّعاً. تم اعتقال شقيق الشيخ البارز لدى عودته، وتعرّض لتعذيبٍ شديد، وسرعان ما توفي مُتأثّراً بجراحه في مستشفى محلي.

القليل جداً يُمكن أن يؤخذ كأمرٍ مُسَلَّمٍ به في سوريا اليوم. كان عنف الدولة في سوريا قبل العام 2011 ظاهرة قبيحة وشكّلت سلوك كل مواطن بطريقة أو بأخرى. ولكن كان لها أيضاً منطق مُعيّن، وقد فهم معظم الناس العاديين الحدود. أصبح عنف الدولة اليوم أقبح ومُتعدّد الأوجه. غالباً ما يكون لامركزياً وغير خاضعٍ للرقابة ويتم تطبيقه أحياناً من دون أي منطق يُمكن أن يساعد السوريين على تكييف سلوكهم وفقاً لذلك.

  • أرميناك توكماجيان هو باحث غير مقيم في مركز “مالكولم إتش كير” في كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. يُركّز بحثه على الحدود والنزاع واللاجئين السوريين والوسطاء المحليين في سوريا. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @TokmajyanA
  • تم إنتاج هذا المقال بدعمٍ من شبكة البحوث المحلية “إكس بوردر” “X-Border، وهو برنامج مُمَوَّل من المملكة المتحدة. الآراء المُعبَّر عنها في هذا المقال لا تعكس بالضرورة السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى