اليوم يستطيع نيرون أن يرفع رأسه عالياً

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

لم يذهب بان كي مون إلى الجحيم بعد، لكنه يستطيع بكل ثقة أن يؤكد أن حلب هي الجحيم. ولأن أهل النار لا يستطيعون الفرار منها، يبقى الفارون من الشهباء رهائن أقدارهم المأسوية حتى وإن ركبوا حافلات ترفرف عليها أعلام المنظمات والهيئات الدولية. فعلى بُعد خطوات من الحدود غير الآمنة، ينتظرهم الموت في كل مكان، وكأنهم لم ينالوا منه ما يكفي طيلة سنوات ثلاث عجاف.
للجحيم سبعة أبواب، لكن عاصمة الحضارة ليس لها اليوم إلا باب واحد لا يؤدي إلى أي وطن. والخروج من حلب كما البقاء فيها، غير آمن لمن يحمل في قلبه مثقال ذرة من كراهية للنظام، أو رغبة في إصلاح ما فسد في وطن شمله الحزن من أقصاه إلى أقصاه.
“أين المفر؟” تسأل الوجوه الروسية الكالحة عند الحدود اللزجة، فكل الوطن هلام، وكل ساكنيه ذر، والفراغ خارج مجرّة الحزن برمودي بإمتياز. لا أحد يضمن البقاء لأحد، ولا أحد يتدخل لحماية أحد. فقط، يمكنك أن تنتظر الموت الذي قد يأتيك من أي مكان قبل أن يرتد إليك طرفك. لن تستطيع حماية طفلك وإن ضممت رأسه المضمّخة بالدماء إلى صدرك العاري، ولن تضمن لإبنتك البكر المرور بغشائها من بين ميليشيات الموت.
لا تنشغل بلملمة بقايا من رحل دون وداع، فسوف تتكفل البراميل المتفجرة بدفن ما تبقى منهم تحت أنقاض الوطن. فقط عجّل بالخروج بمن تبقى من ذويك، وودِّعهم عند كل نقطة تفتيش دون أن تنظر إلى عيونهم الباكية. “اليوم يوم الملحمة،” يقول بشار، و”اليوم لا رحمة ولا تراحم” تردد أطلال المدينة الخربة.
بضعة آلاف فقط إستطاعوا الخروج من معسكر الموت، لكنهم رغم ذلك لم يصلوا إلى أي حدود. أما الباقون، وهم عشرات الآلاف من البائسين فلا ينتظرون الحافلات الموجهة بقدر ما ينتظرون الموت. تشغلهم فقط الطريقة التي بها سيُذبَحون عند أول شعاع. أما بعض الحرائر، فقد فضلن الإنتحار على الموت بين أفخاذ الملالي وأشياعهم، دون أن ينتظرن فتوى تجيز ذلك من ذوي العمائم الخاوية.
اليوم يستطيع نيرون أن يرفع رأسه عالياً حتى يرى الدب الروسي بياض ترقوته، وهو يمر بين مدنه المُهدَّمة وشوارعها الخاوية بين صفّين من أشاوس حرسه الثوري، ليعلن سيطرته على الخراب وإنتصاره على شعب فرّ نصف سكانه خارج الحدود، وبقي أربعة ملايين من تعسائه في حاجة إلى إيواء عاجل.
يستطيع بشار اليوم أن يركل جماجم أطفال حلب بقدميه وهو يلوّح بيديه، لكن أحداً من أهالي أقدم عاصمة للتاريخ لن يرد عليه اليوم التحية لأن أحداً لم يبقَ في شرفته ليشرب قهوة الصباح أو ليسمع أغنية فيروزية عذبة، كما إعتادوا منذ عقود. اليوم يقف أربعة عشر مليون سوري، ستة ملايين منهم لم يبلغوا الحلم، عند عرش المنتصر، وهم يمدّون أياديهم في انتظار صدقة من هنا أو فضل نعمة من هناك. اليوم يحاصر الزعيم خمسة ملايين من شعبه، ويلقي عليه من البارود وسلوى البراميل المتفجرة دون تمييز.
ينتصر بشار اليوم على ستة مليون مُشرَّد من شعبه الذي لم يحلم سوى بالعيش والحرية والكرامة شأنه شأن كل الشعوب الحية. وشأنه شأن كل الطغاة، لا يسمع الرجل إلا دبيب قدميه فوق صفحات التاريخ السوداء. اليوم ينتصر الطاغية على الوطن، ويجد رغم كل ما خلّف من حزن مَن يصفِّق عند أذنيه، ومن يتمسّح بعتباته المقدسة. لكن المؤلم جداً، أن يرد العالم على ما يقترف الرجل وأعوانه من جرائم بحق الإنسان والإنسانية بصمت أشد صخباً من براميله المتفجرة في هزيع الليل الأخير.

• أديب وكاتب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى