الحَربُ في غزّة اختبارٌ رئيس لديبلوماسِيَّةِ السلامِ الصينية في الشرق الأوسط

بعدما نجحت الصين في وساطتها بين المملكة العربية السعودية وإيران، تُشكّلُ الحربُ الدائرة بين إسرائيل وحركة “حماس ” إختبارًا جديدًا ورئيسًا لديبلوماسية السلام التي تنتهجها.

وزير الخارجية الصيني وانغ يي: سببَ الصراع بين إسرائيل و”حماس” هو “الظلم التاريخي” ضد الفلسطينيين.

جون كالابريس*

سَعَت الصين منذ فترة طويلة إلى جعل نفسها لاعبًا “مُحايدًا” وقوةً للسلام في الشرق الأوسط وأماكن أخرى، وراغبةً وقادرةً على التحدّثِ مع “جميع الأطراف”. وقد ظهر طموح بكين الناشئ للعب دور صانع السلام وقدرتها على تشكيل الأحداث الإقليمية عندما نجحت في آذار (مارس) الفائت في التوسط في الانفراج بين الرياض وطهران. إن الحربَ بين إسرائيل وحركة “حماس” لا تُقَدِّم مثل هذه الثمار الدانية أو الناضجة للقطف. بل على العكس، فهي تشكّل اختبارًا رئيسًا لديبلوماسية السلام التي تنتهجها الصين في الشرق الأوسط ــ وفرصةً لفحص بعض افتراضاتنا، التي ربما تكون خاطئة.

كشفَ الإنخراطُ الديبلوماسي الصيني في القضية السعودية-الإيرانية عن رغبةِ بكين في الاضطلاع بدورٍ سياسي أكبر وقدرةٍ على الاستفادة من علاقاتها مع كلا الجانبين في صراعٍ إقليمي، مع الكشف في الوقت نفسه عن حدود القوة المُهَيمنة للولايات المتحدة في المنطقة نظرًا إلى علاقة الأخيرة السَّامَة والسيِّئة مع إيران. ويبدو أيضًا أنه يبشّرُ بتحوّلٍ ملحوظ من جانب بكين بعيدًا من كونها شريكًا اقتصاديًا في المقام الأول إلى شريكٍ يمكن أن يساعد على حلِّ المشكلات الأمنية – وهو التحوّل الذي كان موضع ترحيب ومن المرجح أن يثير التوقعات الإقليمية، ولكن تم تفسيره على نطاق واسع في دوائر السياسة في واشنطن على أنه تحدٍّ للنفوذ الأميركي  المهيمن في الشرق الأوسط.

إنَّ الانطباعات الأولى عن ردود أفعال الصين الأوّلية إزاء اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس” تَحمُلُ خطرَ التحوّل إلى رواياتٍ وأحكامٍ كُبرى جاهزة تُثيرُ الشكوك، وتبدو في أفضل تقدير سابقة لأوانها. هل اختارت الصين أحد الجانبين في الصراع بين إسرائيل و”حماس”؟ هل تؤدّي الحربُ إلى “إمالة ميزان القوى العالمي لصالح روسيا والصين؟” أو، على الأقل في هذه المرحلة المبكرة من الصراع، هل عادت الصين إلى قواعد اللعبة المعتادة -مع تحوّلها إلى الجانب الفلسطيني الأقل وضوحًا، وتصميمها وقدرتها على استغلال الحرب “لإمالة” ميزان القوى العالمي ضد الغرب الأضعف مما قد يتصوره البعض؟

“عباءة الحياد”

عقب اجتماعه يوم الجمعة الماضي في بكين مع الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، صرّحَ وزير الخارجية الصيني وانغ يي أنَّ سببَ الصراع بين إسرائيل و”حماس” هو “الظلم التاريخي” ضد الفلسطينيين، مؤكّدًا على “جذور الصراع بين إسرائيل و”حماس””. إن المشكلة تكمن في التأخّر الطويل في تحقيق تطلّعات الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وأنَّ الظُلمَ التاريخي الذي تعرّضَ له الشعب الفلسطيني لم يتم تصحيحه بعد. هذا التشخيص، الذي يتجنّب بدقة إلقاء اللوم على أيٍّ من الجانبين مع التعبير عن التعاطف والدعم للقضية الفلسطينية، لا يتوافق فقط مع تصريحات مسؤولين صينيين كبار آخرين على مرِّ السنين في ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولكنه يُردّدُ صدى تصريحات العديد من نظرائه الغربيين. إنَّ ارتداء “عباءة الحياد” كان بمثابة الممارسة المعتادة في الصين ــ ولا يشكل في هذه الحالة انحرافًا حادًا عنها.

وذهبت بكين إلى حدِّ القول إنها “تشعرُ بحزنٍ عميقٍ إزاء الضحايا المدنيين” وإنها “تدين الأعمال التي تلحق الضرر بالمدنيين” بينما تدعو فلسطين وإسرائيل إلى تبنّي حلّ الدولتين “في وقت مبكر”. وقد أجرى المبعوث الصيني الخاص لشؤون الشرق الأوسط، تشاي جون، اتصالاتٍ هاتفية مع نظرائه الفلسطينيين والإسرائيليين والمصريين، والذي كرر إلى حد كبير موقف بكين الرسمي. إنَّ امتناعَ الصين عن إدانة الهجمات ضد إسرائيل بشكلٍ لا لبس فيه أو إدانة “حماس” باعتبارها جماعة إرهابية -على الرُغم من كونها مرفوضة أخلاقيًا- ليس أكثر إثارةً للدهشة من “خيبة أمل إسرائيل العميقة” لأنَّ بكين فشلت في القيام بذلك. إن دعوة المسؤولين الصينيين إلى “وقفٍ فوري لإطلاق النار” أمرٌ مألوف، وكذلك تعهّدهم “ببذل جهود متواصلة من أجل السلام والاستقرار في الشرق الأوسط”.

القيادة ديبلوماسيًا من الخلف

في مقابلةٍ أجرتها معه قناة تلفزيون الصين المركزي في 15 تشرين الأول (أكتوبر)، قال تشاي: “لدى الأمم المتحدة دورٌ مهمٌّ لا يمكن الاستغناء عنه” في ما يتعلق بمسألة الفلسطينيين؛ لكن المبعوث الصيني الخاص أضاف أنَّ بكين “ستدعم الأمم المتحدة في أخذ زمام المبادرة”. وقد نقلت قراءة اليوم التالي لتبادل وجهات النظر حول الصراع بين وزير الخارجية الصيني وانغ ونظيره الروسي سيرغي لافروف، عن كبير الديبلوماسيين الصينيين قوله: “من الضروري أن يتخذ مجلس الأمن الدولي إجراءاتٍ وأن تلعب الدول الكبرى دورًا نشطًأ”. وتتلخّص المهمّة الملحة في وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، وإعادة الجانبين إلى المفاوضات، وإنشاء ممرات للمساعدات الإنسانية الطارئة لمنع المزيد من الكوارث الإنسانية الخطيرة. والقرار الأساسي هو تفعيل حلّ الدولتين في أسرع وقت ممكن للوصول إلى توافق أوسع ووضع الجدول الزمني وخارطة الطريق لاستعادة الحقوق المشروعة للأمة الفلسطينية.

في اليوم نفسه، صوّتت الصين لصالحِ قرارٍ مُقتَرَحٍ لمجلس الأمن الدولي صاغته موسكو. وكان نص القرار، الذي فشل تمريره، يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة بينما حذفَ أيّ ذكر ل”حماس”. وكما فعلت خلال الحرب الأهلية السورية، فقد قامت الصين بمواءمة موقفها مع موقف روسيا ولكنها لم تأخذ زمام المبادرة الديبلوماسية. وفي الوقت عينه، أثناء زيارته لبكين بمناسبة منتدى الحزام والطريق الثالث، ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باللوم على الولايات المتحدة في زيادة التوترات في الشرق الأوسط من خلال إرسال سفن حربية إلى المنطقة. ومع ذلك، امتنع الرئيس الصيني شي جين بينغ عن الإدلاء بتصريحاتٍ علنية مُماثلة. في السنوات الأخيرة، استغلّت القيادة الصينية بشكلٍ روتيني كل فرصة لتصوير الولايات المتحدة باعتبارها قوة مُهَيمنة متحيِّزة أدّت سياساتها إلى زرع بذور الفوضى في الشرق الأوسط. ولكن ليس هذه المرة.

تكامل المصالح الأميركية والصينية – في الوقت الحالي

تخوضُ واشنطن وبكين منافسة شديدة حول التجارة والتكنولوجيا ووضع تايوان. وعلى الرُغم من وجود أدلة متزايدة على أنَّ المنافسة بين الولايات المتحدة والصين قد انتقلت إلى الشرق الأوسط، فإنَّ البلدين لديهما مصلحة مشتركة في الاستقرار الإقليمي – وفي الوقت الحاضر، يُعَدُّ تجنّب حرب إقليمية أوسع هدفًا مشتركًا مُلحًّا. أثناء وجوده في المملكة العربية السعودية، أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكِن مكالمة هاتفية لمدة ساعة مع وزير الخارجية وانغ، حيث أفادت مصادره أنه دعا الصين إلى استخدام نفوذها لثني “الأطراف الأخرى” عن الدخول في الصراع.

وتستورد الصين نصف وارداتها الهيدروكربونية من الشرق الأوسط. وتبدو أسواق النفط على حافة الهاوية.  لقد دفعت التوترات أسعار النفط إلى أكثر من 90 دولارًا للبرميل. ومن المرجح أن يدفعها الغزو البري الإسرائيلي المتوقع إلى الارتفاع – كما إنَّ اتساعَ نطاق الصراع سيجبرها على الارتفاع أكثر. إن الإضافات الكبيرة التي زادتها الصين إلى مخزونها من النفط الخام منذ أشهر عدة قد تحميها من مستوى معين من مخاطر العرض والأسعار، ولكن ليس لفترة طويلة جدًا. ربما كان انخراط الصين العميق في الشرق الأوسط قد أدّى إلى توسيع نفوذها في المنطقة، لكنه لم يُقلّل بشكلٍ كبير من نقاط ضعف أمن الطاقة لديها. وبعيدًا من النفط، فمع تزايد أسهم الصين في الشرق الأوسط، فقد زاد أيضًا تعرّضها للمخاطر الناجمة عن الصراعات الإقليمية.

حدود طموحات بكين الديبلوماسية

في حزيران (يونيو)، التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس شي في بكين. وتعهّدَ بيانٌ صدرَ بعد ذلك بأن الصين “ستواصل دعم الاتجاه الصحيح لمحادثات السلام والمساهمة بالحكمة والقوة الصينية في حل القضية الفلسطينية”. وعرض وزير الخارجية آنذاك تشين غانغ المساهمة “بالحكمة الصينية”. لكن محادثات السلام توقّفت – وتبدو أكثر مراوغة وصعوبة الآن. علاوة على ذلك، فإن العصرَ يتطلب أكثر بكثير من مجرد الحكمة. إن الديبلوماسية المكوكية التي يقوم بها الوزير بلينكن بدون توقف ورحلة الرئيس جو بايدن إلى إسرائيل هي دليلٌ واضحٌ على تصميم واشنطن على مواجهة هذه اللحظة –ما يدلُّ على دعمها الثابت لإسرائيل بينما تحثّ على ضبط النفس، وتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة لتجنّب كارثة إنسانية، ومنع حدوث حرب على نطاق أوسع– على الرغم من أن تدخّلها الديبلوماسي قد يفشل.

في حفل التوقيع بمناسبة استعادة العلاقات الديبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران بوساطة صينية في آذار (مارس)، أكد وانغ أنَّ “الصين ستواصل لعب دورٍ بنّاء في التعامل مع القضايا الساخنة في العالم وإظهار مسؤوليتها كدولة كبرى”. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت بكين ستتخذ خطوات ملموسة لتسهيل وقف إطلاق النار المُحتَمل، واستخدام نفوذها لثني “الأطراف الأخرى” عن دخول الصراع، والمساعدة على ضمان وصول المساعدات الإنسانية وتوفير الإغاثة، والانضمام في نهاية المطاف إلى اللاعبين الرئيسيين الآخرين، بما في ذلك الأمم المتحدة، في إعادة بناء وإدارة غزة بعد الحرب. قد تكون الحرب بين إسرائيل و”حماس” نقطة ساخنة للغاية وأكبر من أن تستطيع بكين التعامل معها.

  • الدكتور جون كالابريس هو أستاذ يُحاضر في السياسة الخارجية الأميركية في الجامعة الأميركية في واشنطن. وهو زميل كبير في معهد دراسات الشرق الأوسط، ومحرر مراجعة الكتب في مجلة الشرق الأوسط، وعمل سابقًا مديرًا لمشروع الشرق الأوسط وآسيا التابع لمعهد الشرق الأوسط.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى