هل يُمكِنُ التَوافُقُ وتَوحيدُ التَقويمَين الميلادي والهجري؟
الدكتور داوود البلوشي*
منذُ القِدَمِ سعى الإنسان إلى تتبّع الزمن عبر تطوير أنظمةِ تقويمٍ تعتمدُ على الظواهر الفلكية والظواهر الطبيعية مثل حركة الشمس، والقمر، والنجوم وذلك لتنظيم حياته وخصوصًا في ما يتعلق بالزراعة، والصيد، والمواسم الطبيعية ولتنظيم الطقوس الدينية وإدارة الحكم وإدارة الحياة اليومية بشكلٍ أكثر دقة وفعالية. وقد سعت الحضارات المختلفة إلى تطويرِ أنواعٍ مختلفة من التقاويم. استخدمَ السومريون والبابليون التقويم القمري والذي يعتبر من أقدم أشكال التقويم التي استخدمها الإنسان قبل 10,000 سنة تقريبًاً، اعتمادًا على دورة القمر حول الأرض، ولا يزال مستخدمًا في التقويم الهجري. وكما استخدمَ المصريون القدماء التقويم الشمسي منذ حوالي 4,000 سنة قبل الميلاد حيث يعتمد على دورة الأرض حول الشمس. والبابليون قبل 2000 سنة قبل الميلاد استخدموا التقويم البابلي، ويعتبر تقويمًا قمريًا، متوافقًا مع السنة الشمسية لمواءمة التقويم مع الفصول. والإمبراطورية الرومانية في عهد يوليوس استخدمت التقويم اليولياني (التقويم الشمسي) قبل 45 سنة قبل الميلاد. أما التقويم الميلادي فقد تمَّ بأمرٍ من البابا غريغوريوس الثالث عشر لتحسين دقّة التقويم اليولياني سنة 1582 ميلادية. والتقويم الهجري يستخدم التقويم القمري، وقد تمَّ العمل فيه في السنة 17 من هحرة النبي محمد والتي توافق 622 ميلادية. ويثيرُ اختلافُ هذين النظامَين تساؤلاتٍ حول دقتهما وإمكانية التوافق بينهما في ظلِّ الإشارات القرآنية إلى أهمية الشمس والقمر في حساب الزمن.
ومن المعروف بأنَّ هناكَ اختلافاتٌ بين التقويم الميلادي والتقويم الهجري من الناحية الفلكية وخصوصًا في موضوع الدقة. والدقة في التقويم تعني القدرة على قياس الزمن بأقلِّ نسبةٍ من الخطَإِ، وبناءً على الحسابات الفلكية. التقويم الميلادي أكثر استقرارًا لأنه يعتمدُ على الدورة الشمسية، وهي أكثر انتظامًا ولذلك فهو أدقُّ في قياس الزمن من حيث الفصول والمواسم. التقويم الهجري يعتمد على رؤية الهلال، الأمر الذي يؤدّي إلى اختلافاتٍ بسبب الظروف المناخية والجغرافية، ولكنه يعكسُ بشكلٍ دقيق المراحل القمرية التي يعتمد عليها في تحديد أوقات العبادات الإسلامية. وكما إنَّ هناك الفرق الزمني والتراكم بين التقويمَين وتُحسَبُ بحوالي 10 إلى 11 يومًا، وهذا الفرق يؤدي إلى نزوح الأشهر بالنسبة إلى الفصول المناخية وتغيُّر تواريخ المناسبات الإسلامية كل عام بالنسبة إلى التقويم الميلادي، حيث تدور السنة الهجرية خلال جميع فصول السنة على مدى 33 عامًا.
وبالنسبة إلى المرجعية الفلكية لاستخدام الشمس أو القمر، يشير القرآن الكريم إلى أهمّية كلٍّ من الشمس والقمر في حساب الزمن بالآية “الشمس والقمر بحسبان” (الرحمن: 5). وكما “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ” (التوبة: 36) يدل على أنَّ السنة مُكَوَّنة من 12 شهرًا ومنها أربعة أشهرحرم متتالية كونية وجودية قبل وجود الإنسان بدون تحديد ما إذا كانت شمسية أو قمرية، ولم يتم تسمية هذه الأشهر فقط وردَ اسم واحد منها وهو شهر رمضان، ولم تحدد موقعه بين الأشهر. كما إنَّ الشمال والجنوب لم يتم ذكرهما في القرآن الكريم. وهذا استدلالٌ بناءً على هذه الآيات، يمكن القول إن الحساب الفلكي الدقيق يجب أن يشملَ دراسةَ كلٍّ من الشمس والقمر معًا.
استخدم العرب في الجاهلية نظام النسيء قبل الإسلام، وكان يهدف إلى مطابقة السنة القمرية مع السنة الشمسية. نظرًا لأن السنة القمرية أقصر من السنة الشمسية بحوالي 10 أيام، لجأ العرب إلى إضافةِ شهرٍ إضافي كل بضع سنوات لموازنة التقويم القمري مع المواسم والفصول مُشابهًا بما كان مطبّقًا بالتقويم اليهودي الذي يستخدم تقويمًا قمريًا مع إدخال أشهر إضافية لضبط المواسم. وفي الجزيرة العربية كانت قبيلة تُدعى بنو كنانة مسؤولة عن تحديد “النسيء”. حيث كانت تُضيفُ شهرًا كل ثلاث سنوات تقريبًا، بحيث تدور الأشهر القمرية ضمن التقويم الشمسي، مما يثبت توقيت بعض المواسم الدينية والتجارية. والمشكلة الرئيسة في هذا النظام هو أنه أدّى إلى اختلاط الأشهر الحرم بالأشهر العادية والتي مُنِعَ فيها الصيد البرّي. والآية تثبت ذلك في قوله تعالى “أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” تؤكد على عدم الصيد في هذه الأشهر الحرم وهذا موضوع بيئي.
أصبح التقويم الهجري بعد إلغاء “النسيء” تقويمًا قمريًا خالصًا، ما يعني أنَّ المناسبات الإسلامية (مثل رمضان والحج) تدور عبر الفصول المختلفة كل 33 سنة تقريبًا ونظام زمني لا يتأثر بالعوامل الخارجية.
وعليه ولعدم ارتباط التقويم القمري مع الفصول الطبيعية وبالمواسم الطبيعية، فقد أثّر ذلك في كل الكائنات الحية في الوطن العربي، من الحيوانات البرية إلى الأشجار والنباتات، والتي تعتمد على تقويمٍ كوني طبيعي غير مُقيَّد بتقويمٍ بشري. وكلُّ الإنسانية على علمٍ بأنَّ الحيوانات تتكاثر غالبًا في الربيع، والأشجار تُزهِرُ في مواسم مُعَيَّنة مرتبطة بحركة الشمس والفصول. كما إنَّ الأرض نفسها تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض في نظامٍ متكامل، مما يشير إلى وجودِ تقويمٍ طبيعي دقيق يُحدّدُ إيقاع الحياة على هذا الكوكب. وهذه الظواهر تؤكد أنَّ أيَّ تقويمٍ يجب أن يكونَ مُتَّسقًا مع النظام الكوني لضمان توافقه مع الحياة الطبيعية.
والسؤال الذي يُطرَح هنا: هل التقويم الكوني يعتمدُ على الشمس أم القمر؟
والردُّ غير واضح حيث يرى بعض العلماء أنَّ التقويمَ الشمسي هو الأقرب إلى النظام الكوني، وآخرون يرون أنَّ التقويمَ القمري يعكُسُ دورةً طبيعية للكواكب، وهناك رأي ثالث يدعو إلى دمج التقويمين للخروج بنظامٍ زمني أكثر دقة واتساقًا مع الطبيعة والكون. وللتغلُّب على مشكلة اختلاف التقاويم، هنالك اقترحات وحلول. يرى البعض وجود تقويم موحَّد يجمع بين الشمس والقمر وآخرون يقترحون لإنشاء تقويم عالمي يعتمد على الدورة الشمسية كأساس، مع الاحتفاظ بالشهور القمرية لتحديد بعض المناسبات الدينية، بمساعدة التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي يمكن أن تساعد على التوفيق بين التقويمين لتحقيق أدق حساب زمني. والأصح أنَّ الاختلافَ بين التقويمين الميلادي والهجري ليس مجرَّدَ فرقٍ زمني، بل هو انعكاسٌ لنظرتين مختلفتين لقياس الزمن وهناك مشكلة التقديس لأحد النظامين. والحل المناسب ليس في إلغاء أحدهما، بل في تطوير تقويم فلكي دقيق يجمع بين الحسابين الشمسي والقمري، بحيث يتم ضبط الأشهر الهجرية وفقًا للحسابات الفلكية، ما يتيح توافقًا بين التقويمين بدون الإخلال بالنظام الديني أو المناخي. إنَّ البحث الفلكي المستمر هو الطريق نحو إيجاد تقويم كوني يتماشى مع قوانين الطبيعة، ويوفر حلًّا عمليًا لمشكلة اختلاف التقاويم بين الشعوب.
- الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعةالسوربون. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.