كيف غيّرت التصنيفات الدولية الحكم العالمي

بعدما كانت الحكومات والمؤسسات المالية تسير على هواها من دون حسيب أو رقيب برزت وكالات ومنظمات مستقلة دولية مهمتها القيام بمراقبة وتقييم وتصنيف الدول والمصارف والشركات، الأمر الذي أعطى هذه الوكالات والمنظمات سلطة لم يسبق لها مثيل ومنحها تأثيراً كبيراً.

البنك الدولي: مؤشره لأنشطة الأعمال تلزمه إصلاحات
البنك الدولي: مؤشره لأنشطة الأعمال تلزمه إصلاحات

لندن – محمد سليم

عندما أصدرت مجموعة الشفافية الدولية، التي تتخذ من برلين مقراً، قائمتها السنوية لمستويات الفساد الدولية في كانون الأول (ديسمبر) 2014، ردّت وزارة الشؤون الخارجية في الصين ببيان عنيف. لقد إنزعجت السلطات الصينية من خفض بلادها من المركز 80 الى المركز 100 على مؤشر مدركات الفساد المؤثّر، على الرغم من ان بكين تقوم بحملة رفيعة المستوى لمكافحة الفساد. “كمنظمة دولية مؤثّرة إلى حد ما”، قال متحدث بإسم وزارة الخارجية الصينية، “على مؤسسة الشفافية الدولية أن تدرس بجدية وموضوعية وحيادية مؤشّرها لمدركات الفساد”.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ترفض بكين نتائج وترتيباً دوليين. قبل ذلك بعام، فقد دعت إلى إزالة وإلغاء مؤشّر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال السنوي الذي يصدره البنك الدولي، الذي أدّت فيه الصين أداء مخيِّباً للآمال على نحو مماثل، حيث قال مسؤولون صينيون بأنه إتّبع منهجيات وإفتراضات مُعيبة.
يكشف غضب الصين عن مدى القوة التي أصبحت تتمتع بها هذه المؤسسات المُصنِّفة. الواقع أن تصنيفات اليوم، التي تنتجها المنظمات غير الحكومية والوكالات الدولية على حد سواء، تسجّل عمل الحكومات وأوضاع الدولة في كل جانب تقريباً: الديموقراطية، والفساد، والتدهور البيئي، والودّ لقطاع الأعمال، وإحتمال إنهيار الدولة، وأمن المواد النووية، وأكثر من ذلك بكثير. كما أن زبائن التصنيف متنوعون أيضاً: ففيما يشير مسؤولون حكوميون ونشطاء إليه كمؤشر إلى تدابير أداء الدولة، وتستخدمه المنظمات الدولية والبيروقراطية المحلية كمعايير مقارنة، فإن العلماء والمحلّلون يستعملونه للمقارنة بين البلدان، كما يستشهد به الصحافيون بشكل روتيني كوثائق موثوقة في تحاليلهم وتحقيقاتهم.

مرآة على الجدار

منذ مطلع القرن العشرين، أصدرت وكالات التصنيف الإئتماني، مثل “موديز” و”ستاندرد آند بورز” و”فيتش”، علامات تصنيفية للدول على أساس تقييمات ديونها السيادية. وبعض تصنيفات الحكم والحوكمة، مثل التدابير الديموقراطية التي تنتجها مؤسسة “فريدوم هاوس” (Freedom House) وسلسلة بيانات التنظيم السياسي، ظهرت للمرة الأولى علناً في سبعينات القرن الفائت. ولكن لم يبدأ جنون التصنيفات والتقييمات إلّأ في العقود الأخيرة. في الواقع، أكثر من ثلثي التصنيفات الموجودة حالياً قد تم تأسيسها وإطلاقها بعد العام 2001. وحسب معلوماتنا، هناك الآن نحو 95 مؤشراً للتصنيف التي تشير إليها وسائل الإعلام العالمية.
لماذا هذا الهيجان؟ في جزء منه، هو إمتداد طبيعي لثقافة ناشئة لتقييم الأداء والمساءلة. وقد إستخدم المستهلكون منذ فترة طويلة التقييمات، والتصنيفات، وبطاقات الأداء، والمعايير لإتخاذ قراراتهم: من مسألة أي جامعة ينبغي أن يتابعوا دروسهم فيها إلى أي فندق يجب أن يحجزوا، والآن يجري تطبيق المنهجية عينها في الحكم، فيما يتشجع المواطنون ويندفعون لكي يصبحوا “مستهلكين” بسياسة مميَّزة. وقد إكتشفت جميع أنواع المنظمات العالمية وجماعات الدعوة الليبرالية، في الوقت عينه، أن إصدار تقييمات وتصنيفات يمكنها أن تحقق لها أهدافها السياسية والتنظيمية. ويتم إصدار العديد من المؤشرات من قبل الجماعات التي تدافع عن القضايا نفسها التي تختارها، ويعتبر هؤلاء الإصلاحيون هذه التدابير كأدوات قوية لفضح الكسالى والمخالفين للقاعدة. ويُدين إرتفاع التقييمات والتصنيفات أيضاً للتقدم في مجال الحوسبة (الكومبيوتر) وتوافر البيانات. فمن خلال تجميع ومعالجة المعلومات المفتوحة المصدر، تستطيع حتى مجموعات صغيرة أن تولّد مؤشرات من دون إجراء بحوث أصلية، مثل الدراسات الإستقصائية الكثيفة العمالة.
الواقع أنه يمكن لهذه التقييمات أو التصنيفات أن تعمل بالفعل كما تم تصميمها، الضغط على الدول لتحسين الحكم. بمقارنة الدول مع منافسيها وأقرانها، فإن التصنيفات تمارس ضغطاً إجتماعياً لتحسين السياسات. إن مؤشر الموازنة المفتوحة لشراكة الموازنة الدولية (The International Budget Partnership’s Open Budget Index)، على سبيل المثال، يعقد مؤتمرات إقليمية في مناسبة نشره كل سنتين حيث يستعرض فيه الشفافية في الموازنة لتشجيع وزراء المالية في الدول المجاورة لمقارنة أداء كل دولة بالنسبة إلى الأخرى. وقد جذب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إستجابة عاجلة لبطاقة الأداء في السياسة الخارجية الأوروبية التي أصدرها في 2012 عند إضافته تسميات “الروّاد” و”الكسالى” إلى تقييمه لمدى إتباع الدول للإجراءات وإلتزامات صنع القرار في الإتحاد الأوروبي: ممثلو بعض دول الإتحاد الأوروبي الذين وُضعوا في خانة “الكسالى”، على سبيل المثال، دعوا المجلس للطعن في النتائج.
عادة تهتم الدول أكثر بالتصنيفات التي لها عواقب مالية. مع تعمّق أزمة منطقة اليورو، على سبيل المثال، إنتقد المسؤولون الوطنيون في الإتحاد الأوروبي وكالات التصنيف الإئتماني الدولية لخفض مستوى التصنيف الإئتماني السيادي لبعض دول الإتحاد، بما في ذلك اليونان والبرتغال. كما إستخدمت جورجيا ورواندا تصنيف “الأكثر تحسنا” على مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي كجزء مركزي في حملاتهما لجذب الإستثمارات وعلى تعزيز الدعم المحلي لحكومتيهما.
يلعب بعض التصنيفات دوراً مباشراً في السياسة العامة ومستقبل الشركات. على سيبيل المثال، فإن المعايير المصرفية والمالية الدولية، مثل إتفاقات بازل، قد إستخدمت لفترة طويلة التصنيفات الإئتمانية لقياس المخاطر وإحتياطات رأس المال. وتمنع القوانين الأميركية الإتحادية وفي الولايات بعض صناديق التقاعد من شراء إستثمارات منخفضة التصنيف. وتُستخدَم المؤشرات التي تقيس هشاشة الدول الآن من قبل المنظمات الدولية والوكالات التابعة للدولة لتقييم المخاطر لحالات الطوارئ الإنسانية والمساعدة في تخصيص المساعدة الإنمائية. وقد أدرجت الشركات تقييمات الحوكمة إلى إجراءات العناية الواجبة (Feasibility Studies) لتجنب التعامل مع الحكومات التي هي عرضة لمخاطر عالية من الفساد أو غسل الأموال. كما أن “مؤسسة تحدّي الألفية” (The Millennium Challenge Corporation)، وهي برنامج رائد للمساعدات الخارجية الأميركية، تعتمد على ما يصل إلى 20 مؤشراً من طرف ثالث، بما في ذلك المؤشرات التي تنتجها مؤسسة “فريدوم هاوس” و”هيريتدج فاوندايشن”، لتقييم ما إذا كانت الدول المُرشَّحة وصلت إلى عتبات “الحكم الرشيد” التي تٌطلق المساعدة الأميركية.
فيما نما تأثير عمليات التصنيف بشكل كبير، فقد بدأت الدول ممارسة ما يمكن تسميته ب”ديبلوماسية التصنيفات”، حيث أنها ترسل الوفود لمعرفة كيف يتم إنشاء وبناء التصنيفات ومباشرة الضغط على وكالات التصنيف للحصول على أفضل العلامات والدرجات. وعلى الرغم من أن بعض هذه الضغوط رسمي ومؤسسي، مثل العديد من الوفود التي يستضيفها قسم ممارسة أنشطة الأعمال في البنك الدولي، فإن كثيراً منها غير مُخصَّص وغير رسمي.”هيريتدج فاوندايشن”، على سبيل المثال، ذكرت أنها تلقت زيارة من وزير المالية البحريني الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة في العام 2011 خلال حملة المملكة على الإحتجاجات المناهضة للحكومة في المنامة. البحرين، التي كانت تتمتع بدرجات عالية على مؤشر المؤسسة بالنسبة إلى الحرية الإقتصادية، أرادت أن تؤكد لوكالة الأبحاث أنها ستحافظ على إلتزاماتها الإقتصادية على الرغم من الإضطرابات السياسية. وبعدما أُدرِجت تصنيفاتهما على مؤشرات “مؤسسة تحدّي الألفية”، فقد أفادت منظمة “فريدوم هاوس” ومؤسسة “هيريتدج فاوندايشن” عن زيادة حادة في عدد الوفود الوطنية التي زارتهما لمناقشة أو رفض تصنيفاتهما.

التصنيف يعيث فساداً

الواقع أن التقييمات تهدف إلى تشخيص أمراض السياسة وإحداث تحسينات. مع ذلك، فإنها، في كثير من الأحيان تنتج عواقب غير مقصودة التي تعيق التحليل وتُفاقِم نتائج السياسة. عادة، تنتج المشكلة من تركيز المستهلكين على التقتير وعدم الإستهلاك، وعلى رقم واحد يكشف، على سبيل المثال، إذا كان البلد حراً، وإذا كانت الحكومة تلتزم بسيادة القانون، أو ما إذا كان الإستثمار آمناً. لكن عدم وجود تعقيد يأتي مع تكلفة. في كثير من الأحيان، تتغاضى التصنيفات المُبسَّطة عن إفتراضات أساسية وتخفي أحكاماً قيِّمة حول السياسات والدول التي تصفها.
على سبيل المثال، إعتبر تصنيف منظمة الصحة العالمية لأنظمة الرعاية الصحية الوطنية، والذي توقف عقب الإفراج الإفتتاحي في العام 2000، أن “الإنصاف في الوصول” يتوازن مع “الإستجابة”، على الرغم من أن دولاً مختلفة، مثل فرنسا والولايات المتحدة، إختارت عمداً إعطاء الأولوية لهذين الهدفين المتضاربين أحياناً بشكل مختلف. بدلاً من التحقيق في الأسباب الكامنة وراء هذه الأولويات المتفاوتة وعواقب السياسة العامة، فقد فضّلت منظمة الصحة العالمية الإختيار التعسفي لوضعهما على قدم المساواة، وهي خطوة ذات قيمة مُثقلة في حد ذاتها.
التبسيطات التعسّفية مثل هذه لا تخفي فقط أحكاماً قيِّمة، فإنه يمكنها أن تنتج إختلافات محيِّرة ومربكة في النتائج التي تصفها. المجموعات التي تنتج وتصدر تصنيفات في كثير من الأحيان تقيّم مفاهيم مُعقَّدة مثل الديموقراطية أو حرية وسائل الإعلام من طريق جمع عناصر فضفاضة ذات صلة يمكنها أن تكون مختلفة بشكل مستقل. الديموقراطية، على سبيل المثال، يمكن أن تعني حريات مدنية قوية، ودوران منتظم في المناصب، والفصل بين السلطات، أو إرتفاع نسبة إقبال الناخبين، وهي صفات يعلق الديموقراطيون عليها أهمية مختلفة من التفضيل. يجب قياس هذه القيم وذكرها على حدة، وليس جمعها معاً في درجة واحدة. والواقع أن بعض الحكومات قد إعترض بالفعل على نتائج هذا النوع من التبسيط. في نيسان (إبريل) 2013، على سبيل المثال، إعترض مسؤولون في قرغيزستان عندما صنّف “فريدوم هاوس” الإعلام في البلاد “غير حر”، كما كان في العام الذي سبقه، لأسباب منها إغلاق العديد من الصحف الأوزبكية في البلاد، ومحطات الإذاعة وقنوات التلفزيون في أعقاب أعمال العنف العرقي. يقول المسؤولون في قرغيزستان أن الاتجاهات الأوسع في البلاد تسير في الإتجاه الآخر، مع إزدهار وسائل الإعلام على الإنترنت بعد الاطاحة بالرئيس الإستبدادي في البلاد في العام 2010.
إن مؤشرات هشاشة الدولة، مثل السياسة الخارجية ومؤشر صندوق الدول ذات السلام الهشّ، تمزج بالمثل معاً خليطاً من المتغيّرات. بعض من هذه المكوّنات يقيس سياسات الدولة، مثل الإلتزام بالإصلاح الإقتصادي، في حين أن البعض الآخر يحكم على قدرات الدولة، مثل جودة البنية التحتية. ولا يزال البعض يقدم إحصاءات إجتماعية التي لا تأثير للحكومات فيها، مثل الإتجاهات الديموغرافية. وحتى عندما يركّز مؤشّر على تصرفات الدولة، فإنه يمكنه الخلط بين الأهداف المتباينة. عند تقييم الفساد، على سبيل المثال، في بعض الأحيان تكمن النقطة في تقييم نتيجة (الفساد إزداد سوءاً)، وأحياناً يكون لتقييم السياسة العامة (فشل رفع مرتبات الشرطة للحد من الفساد)، وأحياناً يكون لوضع بعض السلطة للمساءلة (رفض وزارة العدل التحقيق في الفساد). ولكن التصنيفات المركّبة تفشل في تحديد من هو أو ما هو المسؤول عن الحالة التي تصفها.
وأخيراً، إن تصنيف كل بلد على حدة غالباً ما يتجاهل الأطراف والشبكات الدولية التي تسمح بسوء السلوك المحلي. مؤشر الشفافية الدولية لمدركات الفساد، على سبيل المثال، يسلّط الضوء على الرشوة المحلية ولكنه يقلّل من الروابط المصرفية عبر الوطنية التي تساعد وتحرّض على الفساد على نطاق واسع. في هذا المعنى، لا يكشف ترتيب الصين سوى القليل عن الشركات الغربية التي تسهّل الكسب غير المشروع، والشركات الخارجية المالية (العديد منها في ولايات قضائية غربية) التي تخفي المعاملات غير المشروعة، والممتلكات العقارية التي يخزّن فيها المسؤولون الصينيون أموالهم، أو إقامة المستثمر وسياسات المواطنة التي تسمح للمسؤولين الفاسدين بالفرار إلى الدول الغربية.
يدرك المصنِّفون الدوليون بلا شك هذه التعقيدات. ولكن بدلاَ من يؤسسوا تقييماتهم على نظريات مختلفة بعض الشيء بالنسبة إلى الآثار المشروطة والتفاعلية، فإنهم غالباً ما يأخذون الطريق المختصر: يفترضون أن النتائج التي تهمّهم تمثّل متلازمات تسير فيها كل الأشياء الجيدة (أو كل الأشياء السيئة) معاً. بالطبع، ليست هذه هي القضية، إذ أن مكوّنات كثيرة لدرجة واحدة يمكن بسهولة تقويض بعضها البعض، لأن المتغيّرات الخارجية غالباً ما تلعب أدواراً خفية. يمكن للمعايير المختلفة التي تنتج تصنيف حرية الصحافة في بلد ما، على سبيل المثال، أن تتحرك في إتجاهين متعاكسين من دون التأثير في النتيجة النهائية للدولة- على سبيل المثال، عندما تؤدي الإستجابة على الزيادة في توافر المعلومات إلى تحفيز القادة لإتخاذ إجراءات صارمة بالنسبة إلى حرية التعبير.
لا يمكن حلّ مثل هذه التبسيطات بترجيح المكوّنات التي تنتج التصنيف، إذ أن عوامل مثل قمع التعبير وتوافر المعلومات السياسية هي تفاعلية، بدلاً من أن تكون مُضافة، ومتغيّرة، وهذا يعني أنها يمكن أن تضعف أو يتضاعف تأثيرها الكلي. لذلك ما هو مطلوب ليس متراً واحداً من سلوك الدولة ولكن فهم أفضل التفاعلات التي تنتج النتائج التي تجري دراستها.

دلالات في الميزان

بقدر ما تستخدم تلك التصنيفات لتخصيص موارد وإبلاغ الحوكمة العالمية، فبقدر ما تلعب المزيد من الحكومات المُحفَّزة في النظام، متَّخذةً إجراءات صغيرة لتغيير درجات تصنيفها بدلاً من إصلاح سلوكها الأساسي. البعض أقدم على ذلك فعلياً. جورجيا، واحدة من من أكثر الدول تحسناً على مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، تلاعبت بالمؤشرات ذات الصلة من طريق إنشاء مجموعات عمل مشتركة بين الوزارات لتمرير القوانين وإصدار النظم الإدارية بسرعة. ونتيجة لذلك، إرتفع البلد من المرتبة 112 في العام 2006 الى المركز 37 فى العام 2007. ولكن الإصلاحات في جورجيا فشلت في معالجة بعض أوجه القصور –على سبيل المثال، إجراءات التدقيق الضريبي الرئيسية في البلاد التي هي دون المستوى الأمثل.
لقد منحت الحالة “الأكثر تحسناً” جورجيا الكثير للتفاخر، ولكن الأدلة تشير إلى أن التغيير كان تجميلياً أكثر منه هيكلياً: إن تحسّن جورجيا المُذهل والذي سُوِّق بشكل واسع على مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال لم يقابله إدخال تحسينات مماثلة على مؤشرات قابلة للمقارنة، مثل مؤشر المنتدى الإقتصادي العالمي للتنافسية العالمية، كما أنه لم يؤدِّ إلى زيادة مضطردة في الإستثمار الأجنبي. وكانت قفزات مماثلة لرواندا في العام 2010 وأذربيجان في العام 2009 أيضاً نتيجة أعمال تشريعية محدودة بدلاً من إصلاح تنظيمي موضوعي. هذه الدول تلاعبت بالنظام، ولكن منظمة التصنيف هي التي سمحت للنظام لكي يكون موضع تلاعب في المقام الأول.
في الواقع، إن الإنتهازية من جانب الدول ليست هي المشكلة الوحيدة. إن منظمات التصنيف يمكن أن تُلام أيضاً. لدى معظمها دوافع سياسية، ولأنها تخدم كقضاة، ومصادر مشورة في مجال السياسات، ودعاة، ومروجين ذاتياً، فإن لديها مصالح متعارضة. منظمات الدعوة، على سبيل المثال، غالباً ما تحاول حشد النشطاء وترهيب الدول غير الخاضعة بواسطة الحكم على رعاياها من خلال فكرة طموحة مثالية – مستوى معين، مثلاً، من إستثمارات الدولة في مجال التعليم. على الرغم من أن البلدان المصنّفة من خلال فكرة مثالية يمكنها إرضاء النشطاء، فإن الممارسة يمكنها أن تنفّر الدول التي تهدف إلى مساعدتها بوصفها بأنها متخلّفة غير قابلة للإصلاح.
وهذا يمكن أن يأتي بنتائج عكسية. الواقع أن التصنيفات تنتقص من دورها الإعلامي والدعوي عندما تطلق تسميات تدفع بالمسؤولين الحكوميين إلى الطعن بها وبالمنظمة التي تنتجها بدلاً من الإنخراط في حوار موضوعي حول القضايا الأساسية. إن السلطويين قد يختارون إفتعال إشتباك مع المنظمة المدعومة من الغرب مثل “فريدوم هاوس” بدلاً من الدفاع علناً عن قياس الحريات المدنية السيئة. وتجعل منظمات التصنيف الأمر سهلاً جداً بالنسبة إليهم للقيام بذلك. وسائل الإعلام الدولية، التي تميل إلى إنتاج ونشر تقييمات الإثارة بسرعة من دون السؤال عن مدى صحتها، تسهم في هذه المشكلة.
لكي تصبح التصنيفات أدوات سياسة فعالة، فإنها يجب أن تقوم على العلاقات السببية والفرضيات الثابتة بوضوح، وليس على معايير مثالية. وبالتالي، يجب أن يتم إستبدال تقييمات التجميع بمؤشرات تركّز على مجموعة ضيّقة من المواضيع، مثل أداء مؤسسات مُحدَّدة. وقد إنتقل بعض المنظمات بالفعل في هذا الاتجاه. في العام 2011، على سبيل المثال، تحوّل مؤشر الفساد السنوي لوكالة النزاهة العالمية إلى التركيز بدلاً من ذلك على تقييم هيئات مكافحة الفساد في عدد محدود من البلدان. وبالمثل، في العام 2013، أوصت لجنة مراجعة مستقلة في البنك الدولي بإلغاء ترتيب الدولة الإجمالي في مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال لصالح البيانات التي تعكس أداء كل بلد على مؤشرات محددة –توصية للأسف ذهبت أدراج الرياح.
مع فارق أكبر بسيط، يمكن للتصنيفات أن تصبح أدوات سياسة مفيدة للحكومات بدلاً من فتح جبهات قتال في حملات ديبلوماسية عامة. أولئك الذين ينشرون تصنيفات سهلة يفعلون شراً ويسيئون إلى القضايا عينها التي يرغبون في تعزيزها. إذا كان الدعاة يريدون مؤشرات للمساعدة على تشخيص الواقع وعلاج علل الدول، فسوف يحتاجون إلى شحذ دقة تصنيفاتهم التحليلية ويخفضون قيمة صدمتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى