اليومُ التالي: هل نُناشِد أم نُبادِر؟

الدكتور ناصيف حتّي*

هدنةُ “اليوم التالي“ لحربِ الأحد عشر يوماً التي شنّتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وبشكلٍ خاص ضد قطاع غزة، والجرائم التي ارتكبتها ضدّ المدنيين، تبقى هشّة وقابلة للسقوط في أيّ لحظة في جوِّ التوتّر الحاصل والمُتزايد، إذا لم يتم التوصّل إلى وقفِ إطلاقِ نارٍ أو “تهدئة مُستدامة” حسب السلطة الفلسطينية .لكن هذه لن تكون نهاية المطاف أيضاً إذا اندرجت في العودة الى سيطرة منطق الغياب الكلّي لأيّ أفقٍ جدّي لولوجِ بابِ المفاوضات وفقاً للوضع الذي استقر لسنواتٍ عديدة، والذي كان عنوان السياسة الاسرائيلية بشكل مستمر. سياسةٌ قامت على معادلة عنوانها جمود سياسي مُقابل نشاط مُكثّف لتغيير الوضعَين الديموغرافي والجغرافي على الأرض لتعزيز قيامِ إسرائيل الكبرى واختصار مستقبل فلسطين “بدويلة غزة وبقايا من الضفة الغربية“. وللتذكير فقد ساهمت عناصر عديدة في إنجاح السياسة التي تهدف إلى فرضِ واقعٍ جديد على الارض .وتؤدي إذا ما نجحت كلّياً إلى إلغاء إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية: من هذه العناصر حالة الوهن والتفكّك التي أصابت الجسم السياسى والتنظيمي الفلسطيني، والتي أدّت إلى غيابِ الرؤية والإرادة والقدرة على بَلوَرة استراتيجية وطنية فلسطينية. ولا بدّ من التذكير أن بلورة استراتيجية وطنية لا تعني بتاتاً إلغاء  التنوّع السياسي والتنظيمي الفلسطيني. من هذه العناصر أيضاً التغيّر الذي شهدته المنطقة في طبيعة الاولويات الاستراتيجية الضاغطة بالنسبة إلى دولها، والتي ساهمت أيضاً في “تهميش المسألة الفلسطينية” التي أعادها العدوان الاسرائيلي وما واكبه إلى سلّم الاولويّات الإقليمية من دون ان تكون بالطبع على رأس هذه الاولويّات.

عناصرٌ ثلاثة ما زالت تلعب دوراً سلبياً أو مُعيقاً أمام عودة “المسألة  الفلسطينية“ إلى قمّة الأولويّات الضاغطة للتسوية في المنطقة: أوّلها بدون شك سيطرة مناخ اليمين المُتشدّد الإسرائيلي في شقَّيه القومي والديني على السياسة الاسرائيلية عشية، ربما، جولة أُخرى من الانتخابات التي تعكس الازمة السياسية التي تعيشها إسرائيل. ثانياً، الحالة التي تعيشها السلطة الفلسطينية والخلافات التي تنهش الجسم السياسي الفلسطيني، وثالثاً العودة البطيئة ولكن غير الكافية بعد، مُقارنةً بالأوضاع القائمة حالياً، للاهتمام العربي والدولي وما يُفترَض أن يتبلور عنه من سياساتٍ وانخراطٍ فاعلٍ للدفع باتجاه العمل على إحياء المفاوضات ومواكبتها للتوصّل إلى التسوية المطلوبة وفقاً للمرجعيات الأممية والقانونية الدولية المعروفة .

ولا تكفي بيانات الرباعية الدولية عن إبداء الإستعداد للتحرّك مُجَدَّداً في هذا الخصوص أو إعلان قوى دولية مُختلفة عن أفكارٍ ومُقترحاتٍ للعودة إلى المفاوضات بصِيَغٍ مختلفة عن الماضي. كما لا تكفي إعلانات هذا الطرف الدولي أو ذاك عن عزمه تقديم مساعدات إنسانية للشعب الفلسطيني وبخاصة لأهل غزة الذين دفعوا ثمناً باهظاً للعدوان الإسرائيلي رُغم أن المساعدات أمرٌ أكثر من ضروري. إن وحدة الشعب الفلسطيني التي تجلّت في أبهى صورها، والتي عبّر عنها الفلسطينيون الذين يعيشون في ظلِّ نظامٍ قائمٍ على التمييز العنصري في إسرائيل، والفلسطينيون في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة وفي كافة أرجاء العالم، أكّدت من جديد أنه لا يمكن طمس أو إلغاء الهوية الوطنية لهذا الشعب، وأن الحلّ الواقعي يكمن في إقامة دولته الوطنية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية كأساس للتسوية السلمية. فالعودة إلى سياسة إدارة التهدئة عبر احتواء التوتّر، كبديلٍ من العمل على تحقيق التسوية السلمية المعروفة أُسُسها وأركانها أمرٌ سيؤدّي إلى مزيدٍ من التوترات والحروب المختلفة في حدّتها ومسرحها، والتي تُساهم بدورها في رفع درجة التوتر في المنطقة.

هناك شروطٌ ثلاثة مُترابطة ومُتكاملة يُفترَض العمل على تحقيقها للخروج من هذا الوضع، وهي ليست سهلة ولكنها أيضاً ليست مستحيلة، خصوصاً إذا أدركنا كلفة غيابها. أول هذه الشروط العمل على بلورة وفاقٍ فلسطيني فعلي وعملي حول استراتيجية وطنية فلسطينية. ثاني هذه الشروط البحث الجدي في تفعيل مبادرة السلام العربية التي أُقِرَّت في “قمة بيروت” في العام ٢٠٠٢، ويوفر الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب في الدوحة في الأسبوع المقبل الفرصة الضرورية لهذا الأمر لبلورة خطة عملية للتحرّك على الصعيد الدولي بغية إحياء عملية السلام على أساس المرجعيات المعروفة وحسب صيغة وخريطة طريق وجدول زمني يجري الاتفاق عليها مع الاطراف الدولية المعنية. وثالثاً مبادرة الأطراف الدولية المعنية أيضاً بالأمن والاستقرار الإقليميين في الشرق الاوسط بتشجيع عربي، نرجو ان ينتج عن لقاء الدوحة ولقاءات أخرى قد تنتج عنه، للبحث في تعاون عربي دولي بغية إطلاق  قطار السلام، والمتوقف منذ فترة طويلة، ومواكبته إلى محطته النهائية مُستفيدين كما نذكر دائماً من دروس الأمس القريب والبعيد. فهل يستمر منطق المناشدة هو السائد في الديبلوماسية العربية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية أم نتحوّل أمام ما اشرنا إليه من متغيّرات إلى اعتمادٍ فعلي وفعّال لمنطق المبادرة؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب”(لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى