بيكاسو والمرأَة: تمويه أَم تشويه؟

ماري تريز في لوحة “امرأَة جالسة إِلى النافذة” (پـيكاسو- 1932)

هنري زغيب*

خلال إِقامتي في نيويورك، وإِثر حضوري سنة 1990 إِحدى مسرحيات “لا مَامَّا” (إِلِن ستيورات) في برودواي، لفَتَني صديق شاهدَها معي أَن أَحفَظ البطاقة ومثيلاتها، وأُبرزها للمحاسِب كي يجتزئَ ثمنَها من ضريبة الدخل آخر السنة. وأَضاف شارحًا أَن الدولة، تشجيعًا قطاعَ الفنون، تحسم من الضريبة ما يدفعه المواطن من شراء البطاقات لعُروض مسرحية أَو موسيقية وإِيصالات الشراء للوحات فنية أَو منحوتات أَو اقتناء أَعمال فنية من مزادات علنية.

أَفهم إِذًا أَنَّ قيمة أَعمالٍ مقتناةٍ من مزاداتٍ علنية تُحسَم من الضريبة فتخفُّ مبالغها على شاريها. وهذا ما يفسِّر إِقبال المعنيين والمهتمين على الـمُزايدة في الـمَزادات لأَن المبالغ المدفوعة تخفِّف من المبالغ المفروضة على ضريبة الدخل.

أَوردتُ هذه المقدمة لأَصل إِلى خبر قرأْتُه مطلع هذا الأُسبوع عن بيع لوحة لپـيكاسو بمبلغ 103 ملايين دولار في مزاد أَجرته مؤَسسة “كريستيز” للمَزادات العلنية (نيويورك). وحين رأَيتُ اللوحة (“امرأَة جالسة إِلى النافذة”) فهمتُ أَن أَهمية القيمة المدفوعة تساوي مقدار حسْمها من الضريبة أَكثر مما تساوي “جمال” اللوحة و”إِبداع صاحبها”، ولو انَّ اسمه اليومَ مالئٌ عالمَ الفن التشكيلي في العالم.

لا أَقول هذا مدَّعيًا ضلوعي في النقد الفني ولا خبرتي في هذا الحقل، لكن منطق التجارة واضحٌ هنا تغليبُه على معيار القيمة الفنية.

ماري تريز ومايا (ابنتُها من پـيكاسو – 1936)

هل هكذا “الست ماري”؟

قرأْتُ اللوحة مليًّا بعد أَن قرأْتُ الخبر، لعلِّي أَجد فيها ما يُغري في اقتنائها عدا أَنها تحمل توقيع پـيكاسو (1881-1973). ومع أَنني أُفضِّل الكلاسيكية في الفن، كما في الشعر، يبقى عندي حيِّزٌ بيِّنٌ للتقدير أَو لتذوُّق أَيِّ عملٍ تجريبي أَو تجريدي أَو نيوكلاسيكي أَو تكعيبي أَو انطباعي وسواها.

أَتـأَمَّل اللوحة مجدَّدًا. هل هذا شكلُ امرأَة سوية جالسة إِلى نافذتها؟ أَهو تشويهٌ جمالَ الوجه؟ أَم تمويهٌ أُنوثةَ المرأَة؟ وعلى اسم ماذا هذا “التشويه”؟ هل هو “الأُسلوب” الخاص؟ هل هي الطريقة التي، خُطوطًا وأَلوانًا، يُعرَف بها الرسام رُقْشَةً وريشةً ولمسةً وبَصمة؟

ويكون أَن المرأَة في اللوحة هي الفرنسية ماري تريز والتر (1909-1977)، إِحدى عشيقات پـيكاسو على مرحلتين: الأُولى علاقة سرية (1927-1935) على غفلة من زوجته راقصة الباليه الأُوكرانية أُولغا خوخلوڤا وله منها صبي (پاولو)، والمرحلة الأُخرى (1935-1940) بعدما علِمَت بها أُولغا فتركَتْه وابنها (بدون طلاق)، وحمَلَت منه ماري وولَدَت له ابنة (مايا) وبقيت معه خمس سنوات (بدون زواج) إِلى أَن اكتشفَت علاقتَه السرية الجديدة بالمصوِّرة الفوتوغرافية الفرنسية دورا مار (هنريات تيودورا ماركوڤيتش: 1907-1997)، فتركَتْه ماري وابنتها مايا وعاشت بعيدةً عنه حتى وفاتها منتحرة في 20 تشرين الأَول/أُكتوبر 1977. وسنة 2004 وضع أُوليڤييه (أَحد أَبناء ابنتها مايا) كتاب “پــيكاسو: وجه الأُسرة الحقيقي” عن سيرة جَدِّه “المزواج”، كشف فيها قصة جدَّته المظلومة ماري تريز.

ماري تريز في لوحة أُخرى “امرأَة بالقبَّعة وياقة الفرو” (پـيكاسو – 1937)

قيمة فنية أَم تجارية؟

أَعود إِلى اللوحة (وضعَها پـيكاسو سنة 1932 إِبَّان علاقته السرية بماري) وعملية بيعها في مزاد “كريستيز”. وأَقرأُ أَن “كريستيز” توقَّعَت بيع اللوحة بمبلغ 55 مليون دولار، حتى إِذا افتَتَحَت المزاد باعَتْها بعد 19 دقيقة بمبلغ 90 مليون دولار أُضيفت إِليه قيمةُ عمولة المؤَسسة فبلغ 103،4 ملايين دولار. واعتبرت بونّي برينان (مديرة فرع نيويورك في المؤَسسة) أَن ذلك يدل على ثلاثة أُمور: تَحدِّي جائحة كوڤيد 19، الفن بخير، وشهرة پــيكاسو.

طبعًا للمديرة الحق أَن تعتبر العملية “ناجحة”، هي التي في ما سوى 19 دقيقة، حصدَت 13 مليون دولار عمولتَها من العملية. أَما أَن يكون “الفن بخير” و”يتحدَّى الجائحة” فليس قولًا دقيقًا لأَن المزاد يمكن أَن يتمَّ عن بُعد. وأَما عن شهرة پـيكاسو فليسَت وحدها المعيار لولا أَن الشاري سيحسُم 90 مليون دولار من دخْله السنوي تجاه الدولة، وهو رقم ذو علاقة بالمنحى التجاري الاستهلاكي أَكثر مما بالقيمة الفنية.

سعر “كريستيز” ليس المعيار

أَقول هذا لا للتقليل من قيمة پـيكاسو، مع أَنني لستُ أَبدًا من متذوقي أَعماله، إِنما لأَقول إِن أَسعار اللوحات ليست دومًا مقياس “خلود” العمل لقيمته الفنية وحدها. فهذه اللوحة ذاتها (“امرأَة جالسة إِلى النافذة”) كانت بيعَت قبل تسع سنوات في مزاد لندن بمبلغ 45 مليون دولار. وفي حسابات “كريستيز” أَن خمس لوحات لپـيكاسو بيعَت سنة 2015 بمبلغ 179 مليون دولار.

وعن المديرة أَيضًا أَن هذه هي المرة الأُولى منذ 2019 تتخطَّى لوحةٌ في مزاد في “كريستيز” مبلغ 100 مليون دولار منذ باعت للفرنسي كلود مونيه (1840- 1926) لوحة “الأَغمار” (1890) بمبلغ 110 ملايين دولار.

لو كان حيًّا…

هكذا إِذًا، كي لا نظلم عمومًا إِبداع الفنانين، يتَّضح أَن تهافُت هواة اللوحات على الـمُزَايدات المالية في الـمَزادات العلنية لا ينبع دومًا (كي لا أَقول أَبدًا) من حُبِّهِم الفنَّ واقتناء اللوحات، بل هي ضروب من التجارة والاستثمار في لوحاتٍ كلَّما بيعت في مزادٍ زاد سعرُها في المزاد التالي، وكلَّما ازداد سعرُها انخفَضت قيمة الضريبة على الدخل السنوي.

كل هذا الدفْق من المال، وقد يكون صاحبُ اللوحة (أَحيانًا) مات جائعًا أَو مُعْوَزًا أَو في أَسوإِ حالاته المعيشية، وهؤُلاء المتهافتون اليوم على لوحته مُزايدين في المزاد،  قد لا يكونون شعروا به على حياته وهو في محترفه يُطلع هذه الروائع.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى