صاروخُ بولندا… إجتماعُ أنقرة وقمّةُ بالي!

محمّد قوّاص*

لم يَتَسَرّب شيءٌ عن الاجتماع المخابراتي الذي ضمّ، في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، ويليام بيرنز، ونظيره الروسي سيرغي ناريشكين، مدير جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي  (SVR)، في أنقرة. لكن إعلان الأمر من قبل الطَرَفَين رفعَ مستوى التواصل من واقعه السرّي الغامض إلى مرتبةٍ عَلَنية تفصح عن إرادة التخاطب من قبل موسكو وواشنطن.

رفضت موسكو التعليق على أنباءٍ عن تحذيراتٍ حملها بيرنز لنظيره بشأنِ أيِّ استخدامٍ روسي مُحتَمَلٍ للسلاح النووي ضد أوكرانيا. بعد ساعاتٍ على اجتماع أنقرة أصدرت قمّة العشرين، التي انعقدت في 15-16 تشرين الثاني (نوفمبر) في بالي في إندونيسا، بيانًا وسطيًّا حول الحرب في أوكرانيا وافقت عليه روسيا والصين والهند ودول أخرى من جانب كما الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى من جانبٍ آخر.

وفي الجانبين ما يُمثّل رؤى مُتناقضة حول قراءة تلك الحرب منذ اندلاعها في 24 شباط (فبراير). تجنّبَ البيانُ عباراتٍ مُستَفِزّة نافرة وتقصّد اجتراح أبجدياتٍ مقبولة، ما كشف عن إرادةٍ جماعية لسلوك معابر التسوية والبحث عن أرضياتٍ دولية مشتركة تساعد المتحاربين على النزول عن أشجارهم العالية. لكن البيان لم يلحظ انزياحًا لافتًا عن رؤى خصوم روسيا وأصدقائها عن مواقفهم وقراءتهم لتلك الحرب. وما سُجِّلَ أن “غالبية” الدول الأعضاء تُدينُ الحرب وأن “استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها غير مسموح به”. وللمراقب أن يستنتجَ ذلك الانزياح لدى أصدقاء موسكو.

وبعد ساعاتٍ على انتهاء القمّة أمطرت روسيا كييف ومدن وأهداف أوكرانية أخرى بأكثر من 90 صاروخًا، وفق ليندا توماس غرينفيلد المندوبة الأميركية في مجلس الأمن. الأمر يعني أن ديباجة البيان لا تؤثّر في سَير العمليات العسكرية في أوكرانيا. لكن فحوى ما بين سطور البيان ظهرَ بشكلٍ جليٍّ واضحٍ في الكيفية التي قاربت بها موسكو والدول الغربية الأطلسية شطط تلك العمليات إثر سقوط صاروخ داخل الأراضي البولندية ما أدّى إلى سقوط قتيلين.

بدا صعبًا على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي التسويق لدى حلفائه، من واشنطن إلى باريس مرورًا بلندن وبرلين، لروايته بشأن مسؤولية روسيا المُتعمَّدة في قصف بلد هو عضو في حلف شمال الأطلسي. مالت التحقيقات المتعجّلة إلى أن القصف غير مقصود، وحصل جراء خروج أحد صواريخ منظومة”أس-300″ التابعة لأوكرانيا عن مساره أثناء التصدي للقصف الصاروخي الروسي على كييف والجوار القريب من الحدود مع بولندا.

لكن الأرجحَ أن قرارًا سريعًا اتّخذ بعد مشاوراتٍ مع زعماء كبار الدول الغربية بتكثيف التصريحات المُشكّكة بمسؤولية روسيا والداعية إلى الروّية وعدم التسرّع وانتظار نتائج التحقيقات. أوحت هذه الحكمة الهابطة أن نتائج التحقيقات قد كُتِبَت قبل أن تبدأ، وأن العالم بشرقه وغربه لا يريد تذكّر أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962. فكان أن سارعت موسكو إلى النفي، فسارع الرئيس الأميركي جو بايدن بسرعة أيضًا إلى تصديق روسيا وتبرئتها وإغلاق النافذة التي أتت منها تلك الريح.

يخرج الرئيس الأميركي من الانتخابات النصفية التي جرت في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) بأقل الخسائر. حتى هو نفسه لم يتوقّع أن ينحسر انتصارُ الجمهوريين إلى مستوى بسيط بعد أن بشّر الرئيس السابق دونالد ترامب بـ “تسونامي أحمر”. الأمر منح بايدن مناعةً تزوّد بها في لقائه مع الزعيم الصيني، شي جين بينغ، الخارج هو الآخر زعيمًا فوق العادة من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الأخير الذي أنهى أعماله في 22 تشرين الأول (اكتوبر).

والظاهرُ أن المَضامينَ الغامضة لمحادثات الرجلين، في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) في بالي، قادت إلى خروج بيان التوافق عن قمّة العشرين، وقادت أيضًا إلى هذه “التعويذة” التبريدية التي أصابت زعماء الأطلسي بسحرها، بما في ذلك رئيس بولندا، فلم يروا جميعًا في الاعتداء الصاروخي على دولة عضو في حلف الناتو إلّا حادثًا عرضيًّا يندرجُ في سياقات القضاء والقدر.

لا يعني ذلك أن انتهاءَ الحرب بات قريبًا في أوكرانيا. لم يصدر عن روسيا ما يُشَجِّعُ على ذلك كما لا توحي الموازنات المرصودة في الولايات المتحدة وأوروبا لدعم أوكرانيا بأن الأمور ذاهبة بهذا الاتجاه. فحتى حين تحدّث رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال مارك ميلي عن “نافذة تسوية”مع روسيا في الشتاء، سارع البيت الأبيض إلى طمأنة كييف عن دفعاتِ أسلحة آتية. ولئن ما زال من المُبكّر أن نرصدَ ما خرج به الاجتماع الروسي-الأميركي المخابراتي في أنقرة وأن نستنتجَ أعراضَ أيّ تحوّلات في خطابَي الصين والولايات المتحدة بشأن تلك الحرب بعد لقاء زعيمَي البلدين، غير أن “مشهد” صاروخ بولندا قد يكون واجهة للعرض الكامل الذي قد يشهده “مسرح” الأحداث حول أوكرانيا.

وما يُمكنُ الوثوق به من بالي إلى وارسو مرورًا بأنقرة والعواصم الكبرى أن الدولَ الكبرى مُمسِكةٌ بعناية بمسار الأمور ولن تسمحَ بالانحراف نحو “مُصادفات” قد تتسبب بحربٍ عالمية كبرى. ولئن بدا أن المشهدَ الدولي يتحوّل باتجاه الاعتراف بتعدّدية لا مجال لتجاهلها، ويُبرِزُ تلك الحاجة المشتركة للإقرار بموقع ودور كل دولة من دول مجموعة العشرين في توفير استقرار العالم الأمني والغذائي والطاقوي، فإن اللياقة والرشاقة التي أظهرتهما الدول المعنية بالصراع الأوكراني تعكسان نمطًا مُشتركًا في إبقاء ذلك الصراع تحت سقف النظام الدولي الراهن وقواعده.

في بالي أجمع “العشرون” على أن “النزاع يُقوِّضُ الاقتصاد الدولي”. أهدت روسيا العالم تمديدًا لاتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية. لكن شيئًا ما قد تغيّرَ بحيث باتت موسكو تأخذ على كييف رفضها الذهاب إلى التفاوض، وانتهى زيلنسكي إلى روايةٍ أُخرى بشأن “صاروخ بولندا” يقول فيها: “لا أعرف ماذا حدث””.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى