سعيد عقل… مُتَرجِـمًا

هنري زغيب*

في مقدمة ترجمتي “نبيَّ” جبران، ركَّزتُ على أَنَّ “الترجمةَ عملٌ إِبداعيٌّ في ذاته”، وأَنْ “ليس في الترجمة صوابٌ أَو خطأٌ بل احتمالاتٌ” وإِنما، غيرُ الأَمانة التامة في نقْل الأَفكار، أَفضلُها: الأَقربُ إِلى النص الأَصلي.. وبعدها فلْتَظْهَرْ بشخصيَّته فرادةُ المترجِم.

مش صحيح أَن أَفضلَ نصٍّ مترجَم هو الذي يَنقل الأَصل بأَمانةٍ تَـمَّحي فيها شخصيةُ المترجِم فيُمسي موظفًا روبوتيًّا ممحوَّ  الشخصية عند صاحب النص الأَصلي.. شخصيةُ المترجِم الخاصة لا تُبعِد النصَّ الأَصليَّ بل تُقرِّبُه فتُبرزُ مضامين لغته الأَصلية في لغة المترجِم الجديدة.

مثالًا على هذا الأَعلاه آخُذُ ترجمةَ سعيد عقل مقاطعَ من “الجبل الملهم” (1934) رائعة شارل قُرم التي دعا فيها مواطنيه من كلِّ مذهبٍ ودينٍ وطبقةٍ إِلى وعيِ تاريخ لبنان وعظمته الخالدة، في رسالةٍ شاءَها إِنسانيةً شاملةً تُبرزُ للشعب اللبناني جذورًا لا تُشير إِلى هويته فقط بل تَرفدُهُ بِمناعةِ العيش معًا على أَرضه الدهرية الخالدة.

ومع أَنَّ شاعريّةَ شارل قُرم عاليةٌ تَصعُبُ معها ترجمةُ شِعرِه للبلوغ إِلى عُمقِه وعُلُوِّه معًا، تَمَكَّن سعيد عقل، بشاعريَّته الفَذَّة، من تناوُلِ هذه الرائعة الشعرية الكلاسيكية بالفرنسية ووضْع ترجمةٍ شعريةٍ لها بعربيةٍ كلاسيكيةٍ ضاهى بها شاعريةَ القُرم وبَـزَّها أَحيانًا في نقْل الروح اللبنانية العظيمة.. وهنا أَمثلةٌ في قصيدتَين:

من قصيدة “الأَرز”، كَتَبَ شارل قرم وتَرجَمَ سعيد عقل ما أَقتطفُ منه الآتي:

“أَيُّها الأَرزُ، غـابةَ الربِّ، أَيُّ العبقريِّــين لا يَهي في نشيدِكْ؟
أَنتَ يا شاهــدَ الممالكِ والآزالِ تَنهارُ في ظِلال خُلودِكْ
أَرزَ لبنان، أَرزَ بَحراننا الحلوَ، وأَرزَ الذُّهولِ والخُيَلاءِ
قَبَسٌ منكَ، فوق راحة لونْجين، ارتَمى تَدمُرًا على الصحراءِ
يا عَطوفًا بالظِلِّ من معطَفٍ أَخضرَ،

والفوحِ من طُيوبٍ زَكيَّه
بغَنُوج الحرير والدُّرِّ يَحمي حَقَّنا بــالحياة والحُرِّيَّه
قانعٌ أَنتَ بِـتَلٍّ قَبلُ جَلَّلْــتَ سُفوحَهْ
قانعٌ بالجذعِ يَسقيكَ، ولو تدري طُموحَهْ،
دَمَ لبنانَ… وروحَهْ
يا رعـاكَ الشملُ فوق التلِّ وَرديًا أَجَدْ
مَلأَتْ أَغصانُكَ الخضراءُ آفاقَ الجلَدْ
عانقَتْ وجهَ الأَبَدْ
هوذا واحدةٌ منكَ اكتسَت ثوبَ الجُدودْ
جِذعُها ضُمَّةُ عَشْرٍ من جَميلات القُدودْ
عُمْرُها بَعضُ الخلود”.
ومن قصيدة “بعلبك” كتَب شارل قرم وترجَم سعيد عقل، ما أَقتطف منه الآتي:
“ويا بعلبكُّ، حِمى أَمانيِّ تلك العُهودْ
حنانًا على العرس يَعْقُدْنَهُ فيكِ منذُ الوجودْ
فكم خُضرةٍ صُوِّحَت هشيمًا على أَرجُلِكْ
وأَنتِ اليتيمةُ تَحـوين دنيا على أَنْمُلِكْ
وَلَدْتِ الرِجالَ الأُلى تَهادَوا بِزَنْدٍ أَغَرْ
وبالنَخل من قـامةٍ يَصُدُّون وجهَ القَدرْ
أَرَاهُنَّ في رقصةٍ سَكارى بقَلْبِ الفَضاءْ
يفجِّرْنَ وجهَ الكواكبِ حِسًّا ووجهَ السَّماءْ
فترقُصُ آفاقُــنا على لَـوعـةٍ واشتياقْ
تغَنّي غَرامَ الصبيحةِ والغـيمِ غِبَّ العناقْ
نُجومٌ تَدورُ وتَرقُصُ

من حول تيجانِكِ النافراتِ الجَلالْ
وليلٌ غَفا… في حنايا التلالْ
وَظِلٌّ كَمِيٌّ تعرَّى

وعلَّقَ، فوق نقوشِكِ، ثوبَ القتالْ”.

هكذا، لم يَنقُل سعيد عقل حرفيًّا نصَّ شارل قُرم – ما يُفقده بالعربية مضمونَه الحضاري – بل حَمَلَ مضمونه الأَصلي وسكَبَهُ في مناخ جعلَ العربيةَ تستقبلُهُ وتَجَمِّلُهُ وتُغْنيه.

بلى: مع شاعريّة سعيد عقل في الترجمة الشعرية عن شاعريَّة شارل قُرم في “الجبَل الـمُلْهَم”، نَحنُ – في حمى لبنان الخالدِ العالَميّ – أَبناءُ وطنٍ لا أَيَّما وطن، تَضرِبُهُ العواصفُ فَيَقوى، ويَنْشُبُ دائمًا على جَبهة التاريخ وطنًا غيرَ عاديٍّ، طالعًا من جُذورٍ غيرِ عاديَّةٍ باقيةٍ في شَرايينِهِ نُسْغَ حياةٍ لا تَنطفئُ ولو انطَفَأَتْ على قَدَمَيها جَميعُ المنائِر.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى