هل تَستَطيعُ السلطةُ الفلسطينية حُكمَ غزة؟

الأميركيون والغرب عامةً يريدان أن يتمدد حكم السلطة الفلسطينية من الضفة الغربية إلى قطاع غزة في اليوم التالي لانتهاء حرب إسرائيل على غزة. هل يمكن لهذه السلطة التي فقدت تأييد الشعب الفلسطيني  أن تحكم كما هي أم تستطيع ذلك بعد تجديد شبابها بوجوه كفوءة وغير فاسدة؟

حكومة نتنياهو المتطرفة: ينبغي تغييرها قبل التحدث عن توسيع حكم السلطة الفلسطينية إلى غزة.

دانيال بايمان*

في مرحلةٍ ما، ستتوقّفُ الانفجاراتُ وإطلاقُ النار، وتنتهي الحربُ في قطاع غزة. عندها، لا بدَّ أن يَحكُمَ شخصٌ ما غزة، لكنَّ الخيارات ضعيفة. من المؤكّد أنَّ حركة “حماس” لن يُسمَحَ لها أن تتولّى زمامَ الأمور، لأنَّ الإسرائيليين تعهّدوا بأنهم لن يسمحوا للجماعة بإعادة بناء قدرتها العسكرية وتهديد إسرائيل مرة أخرى. وقد تُقرّر إسرائيل الاستيلاء على القطاع بنفسها، ولكن ليست لديها رغبة كبيرة في حُكمِ أكثر من مليوني فلسطيني مُعادي، والذين من المؤكد أنهم سيشنّون تمرّدًا منخفض المستوى في حين تتراجع شرعية إسرائيل الدولية المُتَرَنِّحة. واقترحَ آخرون تشكيلَ قوة دولية تتألف في معظمها من قوات من الدول العربية، لكن المشاركين العرب المُحتَمَلين أعلنوا أنَّ هذا الاقتراح غير مقبول.

إن الرهانَ الأفضل والنهجَ المُفَضّل لإدارة بايدن هو أن تتولّى السلطة الفلسطينية زمام الأمور. إن حُكمَ السلطة الفلسطينية –الهيئة الحكومية التي تسيطر حاليًا على أجزاء من الضفة الغربية والتي كانت تدير قطاع غزة قبل العام 2007– أفضل من الاحتلال الإسرائيلي الدائم أو الفوضى أو الخيارات الأخرى، لأن السلطة الفلسطينية تُفضّلُ السلامَ مع إسرائيل وتحظى بدعمِ الكثيرِ من المجتمع الدولي. لكنَّ الأمرَ لا يكاد يخلو من المشاكل. وبسبب فسادها، وسوء سجلّها في حُكمِ الضفة الغربية، والتواطؤ الواضح مع إسرائيل، تفتقر السلطة إلى الشرعية بين الفلسطينيين. أما في الضفة الغربية، فهي تفقد على نحوٍ متزايد القدرة على قمع “حماس” ووقف العنف من دون مساعدة كبيرة من إسرائيل. ثم هناك مشكلة افتقار الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى الحماس لهذه السلطة: فقد أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنَّ تَوَقُّعَ قيامِ السلطة الفلسطينية بحلِّ مشاكل غزة هو “حلمٌ بعيد المنال”.

مع ذلك، من أجل تحقيق استقرارٍ دائمٍ وحُكمٍ أفضل في غزة ما بعد الحرب، تحتاج إسرائيل والولايات المتحدة والعالم إلى دعم السلطة الفلسطينية وتعزيز الفلسطينيين المُعتدلين، وهي عملية ينبغي أن تبدأ الآن ولكنها ستستغرق سنوات عدة على الأقل حتى تكتمل. في المدى القصير، يجب على السلطة الفلسطينية وداعميها تحديد تكنوقراطيين معقولين يمكنهم المساعدة على إدارة غزة باسم السلطة الفلسطينية ولكنهم يتمتّعون بمصداقية أكبر من قادة المجموعة في الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة أن تعملَ مع الدول العربية لتدريب الآلاف من قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وهو جُهدٌ بدأته إدارة بايدن بالفعل. وفي الأمد المتوسط، يتعيّن على حكومات الغرب والعالم العربي التي تُموِّل السلطة الفلسطينية أن تستخدمَ نفوذها لتشجيع الجيل الحالي من قادة السلطة الفلسطينية المُتَصَلّبين على التقاعد والدفع نحو جيلٍ جديد من القادة النشطين ليحلّوا محلّهم.

وسيكون أحد أكبر التحدّيات هو إقناع القادة الإسرائيليين بدعم دورٍ للسلطة الفلسطينية في غزة، لأن الكثيرين، بمَن فيهم نتنياهو، يُصَوِّرون السلطة الفلسطينية على أنها غير جديرة بالثقة أو حتى داعمة للإرهاب. وتَتَّسِمُ هذه المهمة بصعوبةٍ مُضاعَفة نظرًا لأنَّ نجاح السلطة الفلسطينية في غزة يتوقّفُ على ما إذا كانت إسرائيل ستساعد على بناء مصداقية السلطة في الضفة الغربية من خلالِ تقليصِ المستوطنات، ومنع المستوطنين العنيفين من مهاجمة جيرانهم الفلسطينيين، وتوفيرِ قدرٍ أكبر من الاحترام للحكم الذاتي الفلسطيني في الحياة اليومية. لقد كانت الحكومة الإسرائيلية تتراجع في ما يتعلق بكل هذه القضايا قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وأصبحت أي تنازلات محسوسة للفلسطينيين الآن أكثر صعوبة من الناحية السياسية. ولكن على الرُغم من هذه المشاكل الحقيقية، فلا بدَّ من حُكم غزة، والسلطة الفلسطينية هي الخيار الأقل سوءًا لهذه المهمة.

ضعف السلطة

تحكم السلطة الفلسطينية الضفة الغربية منذ نهاية الانتفاضة الثانية في العام 2005، ولها سجلٌّ حافلٌ بالفساد والضعف هناك. وتُمثّلُ قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية مشكلة على وجه الخصوص. فهي تشمل مجموعة متعددة الأوجه من المنظمات المتنافسة، ولكلٍّ منها مسؤولياتها المحددة. على سبيل المثال، تقوم قوات الأمن الوطني الفلسطيني بدورياتٍ على الحدود وتوفر الأمن الداخلي، في حين أنَّ قوة الأمن الوقائي هي وكالة استخبارات وأمنية داخلية تُركّز على مكافحة التجسّس، ومراقبة النشاط السياسي، ومنع المعارضة الداخلية. وتعمل هذه القوات مع إسرائيل لسحق “حماس” في الضفة الغربية، وغالبًا ما تكون وحشية في قمع المعارضة الفلسطينية المشروعة.

لسنوات، عملت السلطة الفلسطينية بشكلٍ وثيق مع المخابرات الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي، لضبط العنف في الضفة الغربية. لكن السلطة الفلسطينية أصبحت أضعف فأضعف. وفي تموز (يوليو) 2023، داهمت القوات العسكرية الإسرائيلية مخيم اللاجئين في مدينة جنين، بدعوى أن السلطة الفلسطينية لم تتمكّن من اعتقال مُسَلّحين هناك، حتى عندما زودتها إسرائيل بمعلومات دقيقة. كان العنف في الضفة الغربية يتصاعد قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)،وفي الأشهر التي تلت ذلك، ويلجأ المزيد والمزيد من الفلسطينيين إلى الميليشيات المحلية من أجل الأمن بدلًا من الاعتماد على قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.

على الورق، تتمتّع السلطة الفلسطينية ببعض الحضور في غزة. وكما يشير أحد تقارير مؤسسة كارنيغي، قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أنفقت السلطة الفلسطينية ثلث موازنتها على القطاع. ودفعت رواتب ما يقرب من 40 ألف موظف مدني فلسطيني في غزة -بما في ذلك 19 ألف ضابط وجندي شرطة لم يعملوا لأكثر من عقد من الزمن، بعد أن طردتهم “حماس” عندما استولت على السلطة في العام 2007- ودفعت لإسرائيل تكاليف المياه والكهرباء هناك. لدى السلطة الفلسطينية أيضًا حكومة ظل تدّعي السلطة على الاقتصاد والتعليم والأمن في غزة.

ومع ذلك، فإن هؤلاء المسؤولين غير موجودين، والمدفوعات التي يتقاضاها ضباط وجنود الشرطة هي مجرد شكلٍ من أشكال المحسوبية، حيث مارست “حماس” السيطرة الكاملة على حياة الفلسطينيين في غزة قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ويتساءل الإسرائيليون عن حق: إذا كانت السلطة الفلسطينية غير قادرة على توفير الأمن في الضفة الغربية، حيث هي أقوى، كيف يمكنها توفير الأمن في غزة، حيث هي ضعيفة؟

كما يلوم الإسرائيليون السلطة الفلسطينية على تطرّف الفلسطينيين. ويشيرون إلى أن الكتب المدرسية التي تنتجها السلطة الفلسطينية تُمَجّدُ العنف ضد إسرائيل وتخلق أرضًا خصبة للتشدّد. وتحمل الحدائق والمباني العامة التي تديرها السلطة الفلسطينية أسماء مقاتلين قتلوا إسرائيليين. وقد أعطى محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية منذ العام 2005، أموالًا لعائلات الفلسطينيين المسجونين وأولئك الذين ماتوا وهم يقاتلون إسرائيل.

لكنَّ الحجّة القائلة بأنَّ السلطة الفلسطينية راديكالية غالبًا ما تكون جوفاء وغير صحيحة. لقد تبنّى عباس نفسه مفاوضات السلام، وأثبتت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أنها شريكة راغبة في مساعدة إسرائيل. وفي المقابل، سمحت حكومة نتنياهو بتدفق المساعدات من قطر ومصادر أخرى إلى حركة “حماس” الأكثر تطرّفًا، كجُزءٍ من استراتيجية مُتَعَمَّدة لإبقاء الفلسطينيين مُنقَسِمين وبالتالي خلق ذريعةٍ لتجنّبِ مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية. وفي الضفة الغربية، قامت إسرائيل بتوسيع المستوطنات ورفضت معاقبة المستوطنين الذين شنّوا مذابح ضد جيرانهم الفلسطينيين. وأظهرت هذه السياسة للفلسطينيين عدم جدوى التفاوض مع حكومة نتنياهو وعجز السلطة الفلسطينية عن توفير الأمن الأساسي. وأدّت الغارات الإسرائيلية الأحادية الجانب ضد الإرهابيين المشتبه بهم إلى تعميق هذا التصوّر وخلق حلقة مفرغة: فكلما كان التصوّرُ بأنَّ السلطة الفلسطينية أضعف، تصرّفت إسرائيل من تلقاء نفسها، الأمر الذي أدى بدوره إلى تقويض مصداقية السلطة الفلسطينية.

ويبدو أن عباس نفسه لا يصلح لقيادة السلطة الفلسطينية، كما إنَّ اتهاماتَ نتنياهو بالجُبنِ الأخلاقي لها ما يبرّرها (رُغمَ أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ذاته لا يتمتع بالشجاعة الكافية). عباس مُدَخِّنٌ شَرِه يبلغُ من العمر 88 عامًا، وتحت قيادته ذبلت المحاكم الفلسطينية المستقلة ومنظمات المجتمع المدني. وليس من المستغرب أن يؤدي هذا المزيج من الفساد، وعدم الكفاءة، والضعف إلى دفع العديد من الفلسطينيين إلى النظر إلى عباس بازدراء. وفي الهجوم الذي شنته في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أظهرت “حماس” التزامها بمحاربة إسرائيل على النقيض من السلطة الفلسطينية المُترَدّدة. ووفقًا لاستطلاعٍ للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمَسحية في كانون الأول (ديسمبر)، فإنَّ نسبةً مذهلة تبلغ 90 في المئة من الفلسطينيين يريدون استقالة عباس. ولتعويض هذا الضعف جُزئيًا، دفعت إدارة بايدن قادة السلطة الفلسطينية إلى توسيع صفوفهم وضمّ وجوهٍ جديدة.

وأخيرًا، فإنَّ السياسة الإسرائيلية تجعل من الصعب على السلطة الفلسطينية أن تلعبَ دورًا في غزة. منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في العام 2000، كان الإسرائيليون مُتَشَكّكين في أيِّ شيءٍ يشير إلى تنازلٍ للفلسطينيين، ويكاد يكون من المؤكّد أن هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) عزّزت هذا القلق. منذ الهجمات، منعت إسرائيل حوالي 150 ألف فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية ويعملون في إسرائيل من العودة إلى وظائفهم، ما أدّى إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الصعب بالفعل في الضفة. كما منعت إسرائيل دفع رواتب مسؤولي السلطة الفلسطينية في غزة. كل هذا يُظهِرُ أنَّ السلطة الفلسطينية غير قادرة على تقديم الخدمات لشعبها، ما يجعل من الصعب عليها إثبات قدرتها على لعبِ دورٍ أكبر بكثير للفلسطينيين في غزة في مواجهة الضغوط الإسرائيلية.

وبالفعل، حاول نتنياهو وحلفاؤه تقويض خصومهم السياسيين ومواجهة الضغوط الأميركية لمنح السلطة الفلسطينية دورًا رئيسًا في غزة من خلال الادعاء بأن السماح للسلطة بتولي المسؤولية سيكون بمثابة وضع مجموعة جديدة من الإرهابيين في السلطة في القطاع. وتعهّدَ نتنياهو في كانون الأول (ديسمبر)، قائلا: “لن أسمح بدخول غزة لأولئك الذين يقومون بتعليم الإرهاب، ودعم الإرهاب، وتمويل الإرهاب”. حتى أن إيتامار بن غفير، وزير الأمن القومي اليميني المتطرف في حكومة نتنياهو، أعلن أن السلطة الفلسطينية “ليست بديلًا من “حماس”، إنها حليفة ل”حماس”، وهذه هي الطريقة التي ينبغي التعامل معها، الآن وبعد الحرب”.

الخيار الأقل سوءًا

ولتوضيح الأمر الواضح، فإنَّ الهدف الأساس للحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة هو ضمان عدم عودة “حماس” إلى السلطة هناك على الإطلاق. فإذا انسحبت إسرائيل من غزة ببساطة بعد أن تتركها في حالة خراب، فإن “حماس” سوف تستأنف سيطرتها هناك. ولا تزال قيادتها سليمة في الغالب، ولديها آلاف المقاتلين تحت تصرّفها. كما إنها تحكم القطاع منذ ما يقرب من 20 عامًا، وحتى قبل ذلك، كانت لديها شبكات تعليمية ودينية ورعاية اجتماعية عميقة هناك. وسيكون من الصعب استئصال هذه المنظمة المتورطة بعمق في غزة.

أحد الخيارات هو ببساطة أن تُصبحَ إسرائيل قوة محتلة في غزة. ومن المفهوم أنَّ إسرائيل لا ترغب في توسيع حكمها ليشمل مليونين آخرين من الفلسطينيين، الذين يكرهون بغالبيتهم إسرائيل منذ فترة طويلة، واحتفلوا بهجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والآن أصبحوا يكرهون إسرائيل بشكل متزايد بسبب حربها الدموية والمدمّرة في غزة. وسوف تواجه إسرائيل تمرّدًا منخفض المستوى، ما يزيد من الخسائر التي تكبدتها والضرر الكبير الذي لحق بسمعتها الدولية. وليس من المستغرب أن يؤكد نتنياهو أن التحوّلَ إلى احتلال طويل الأمد ليس هدفًا.

وقد تقوم إسرائيل أيضًا بتعيين حكومة مؤلفة من تكنوقراط غير مُنتسبين لأي منظمة فلسطينية لهم خبرة في المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي مسؤولة عن غزة. من الناحية النظرية، ستكون هذه الحكومة أقل فسادًا وأكثر كفاءة من قيادة السلطة الفلسطينية الحالية، مع التركيز على توفير الخدمات، وإرساء القانون والنظام، وبناء المؤسسات لتحل محل تلك التي أنشأتها “حماس”. ولكن من الناحية العملية، يفتقر التكنوقراط في حدِّ ذاتهم إلى قاعدة سلطة: إذ أنَّ كلًّا من السلطة الفلسطينية و”حماس” سوف يعارضان حكمهم. وسوف تضطر إسرائيل إلى توفير الأمن، وسرعان ما سيُنظَر إلى التكنوقراط على أنهم واجهة للحكم الإسرائيلي، ما سيؤدّي إلى المزيد من الإضرار بشرعيتهم. التكنوقراط ضروريون، لكنهم لا يستطيعون الحُكمَ بدون دعم.

والبديل الآخر يتلخّص ببساطة في الفوضى، مع وجود نسخة غزّية من الصومال على حدود إسرائيل. وكان العديد من زعماء العشائر، وشخصيات في البلدية، وغيرهم من أصحاب السلطة المحليين يبرزون إلى الواجهة، ويتعاونون بين بعضهم أحيانًا ويقاتلون بعضهم بعضًا في أحيان أخرى. إن إسرائيل ستدعم أو تقمع زعيمًا مُعَينًا استنادًا إلى رغبته في إبقاء “حماس” تحت السيطرة ووقف العنف ضد إسرائيل. وبطبيعة الحال، سوف تستمر معاناة سكان غزة مع استمرار القتال على مستوى منخفض.

كما طرح بعض المراقبين فكرة إنشاء قوة دولية، ربما تتألف جُزئيًا من قوات من مصر، أو الأردن، أو الإمارات العربية المتحدة، أو دول عربية أخرى لها علاقات ودية مع إسرائيل ومُعادية ل”حماس”. لكن هذه الدول ليست لديها الرغبة الكافية في التدخل في غزة. ورُغمَ أنَّ حكامها يعارضون “حماس”، فإنَّ شعوبها لا تعارضها، ولا تريد هذه الدول أن يُنظَر إليها باعتبارها شريكة لإسرائيل في قمع الفلسطينيين. ولم يترك أيمن الصفدي، وزير الخارجية الأردني، سوى القليل من الشك حول الاهتمام العربي: “دعوني أكون واضحًا للغاية، لن تكون هناك قوات عربية متجهة إلى غزة. لا أحد. لا نريد أن يُنظَرَ إلينا على أننا العدو”.

والواقع أنه لتجنّب الظهور بمظهر التحريض على الاحتلال الإسرائيلي، فمن المرجح أن تطالب الدول العربية السلطة الفلسطينية بدورٍ أكبر إذا كانت راغبة في المساهمة في إعادة إعمار غزة. من جانبها، ستريد المملكة العربية السعودية من إسرائيل تقديم تنازلات للسلطة الفلسطينية حتى تتمكن من الإظهار بأنها لا تتخلّى عن الفلسطينيين –وهي قضية أكثر أهمية من الناحية السياسية مما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)– إذا أرادت المضي قدمًا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

خطة لغزة

إنَّ كلَّ إجابةٍ عن مسألة الحُكمِ في غزة غير مُرضية. ولكن على حد تعبير أحد المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين الذي تحدث معي شريطة عدم الكشف عن هويته في كانون الأول (ديسمبر)، “من الواضح للجميع أنَّ السلطة الفلسطينية ستعود إلى غزة، باستثناء الأشخاص في الحكومة الإسرائيلية”. ويمكن اتخاذ خطوات عدة الآن لجعل المهمة أكثر جدوى، وخصوصًا بعد سنوات عدة خارجها.

أولًا، كان لا بدَّ من البدء بالأمس في برنامج أكبر بكثير لتجنيد وتدريب قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية. وتدرس إدارة بايدن خططًا لإعادة تنشيط ما تبقّى من قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية المُعَطّلة ولكن لا تزال موجودة على الورق في غزة، وربما إعادة تدريب حوالي 1,000 منها كنواة لقوة مستقبلية أكبر. ويتصوَّر بعض المقترحات أيضًا دعم الولايات المتحدة لتدريب 5,000 جندي إضافي من قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الأردن على مكافحة الإرهاب. لكن ستكون هناك حاجة إلى عدد أكبر بكثير من الضباط.

ثانيًا، تحتاجُ إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية المهتمة إلى تحديد تكنوقراط فلسطينيين من خارج السلطة الفلسطينية يمكنهم أن يلعبوا دورًا محدودًا في حُكم غزة عندما يتوقف القتال، أو على الأقل ينحسر. ويمكن لهؤلاء التكنوقراط أن يساعدوا في توفير الخدمات الأساسية، وإنشاء نظام تعليمي جديد، وبناء مؤسسات مثل المحاكم والحكومات المحلية. لكن سيتعيَّن على هؤلاء القادة أن يرتبطوا اسميًا بالسلطة الفلسطينية كجُزء من عملية جلب شخصيات جديدة غير فاسدة إلى السلطة الفلسطينية – ولضمان عدم استخدام السلطة الفلسطينية لسلطتها لتقويض هذه الشخصيات.

ثالثًا، لكي تنجح السلطة الفلسطينية في غزة فإنها تحتاج إلى المزيد من المصداقية، وهذا يتطلب تحقيق تقدّم لصالح الفلسطينيين في الضفة الغربية. إن مصير غزة والضفة الغربية مرتبطان ببعضهما البعض: سيكون من المُهين للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إذا لم تلعب أي دور أمني في غزة ما بعد الحرب، وسيكون من الضروري للسلطة الفلسطينية أن تنجح في الضفة الغربية إذا أرادت أن تنجح في غزة. يجب السماح للـ 150 ألف فلسطيني في الضفة الغربية الذين يعملون في إسرائيل والذين مُنِعوا من الدخول بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بالعودة إلى وظائفهم، ولكن مع فحصٍ أمني دقيق، من أجل الحفاظ على قدر ضئيل من الاستقرار الاقتصادي في الضفة الغربية. كلما كان ذلك ممكنًا، يجب على قوات الأمن الإسرائيلية أن تتعاون مع قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية عند قتال “حماس” أو الإرهابيين الآخرين في الضفة الغربية، مع التوضيح علنًا أن السلطة الفلسطينية هي في المقدمة. تحتاج إسرائيل أيضًا إلى التوقف عن توسيع المستوطنات واتخاذ إجراءات صارمة ضد عنف المستوطنين، وكلاهما مستحيلان سياسيًا في ظل الائتلاف الإسرائيلي المتطرف الحاكم الحالي.

أخيرًا، ستتطلب مصداقية السلطة الفلسطينية أيضًا تغييرًا في القيادة، وهو احتمال يشير إليه المسؤولون الأميركيون بشكلٍ غير مباشر على أنه “إعادة تنشيط” السلطة الفلسطينية. وهناك حاجة إلى زعماء أصغر سنًا يتمتعون بقدر أكبر من المصداقية القومية. إن عباس متضرّرٌ للغاية، سواء في إسرائيل أو بين الفلسطينيين، بحيث لا يتمكن من توسيع دور السلطة الفلسطينية إلى غزة. كما إنه لا يحظى بالاحترام في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والدول الأخرى التي قد تساعد الفلسطينيين. وينبغي لهذه الدول أن تستخدم قوتها الديبلوماسية والمالية لدفع عباس وغيره من قادة السلطة الفلسطينية إلى جلب جيل جديد إلى المناصب العليا في السلطة الفلسطينية.

قد يبدو التفكيرُ في دور السلطة الفلسطينية في حُكمِ غزة سابقًا لأوانه مع استمرار القتال. ولكن أحد الدروس المستفادة من أفغانستان والعراق وغيرهما من الصراعات هو أن إزالة نظامٍ مُعادٍ غالبًا ما تكون مهمة سهلة. والأصعب من ذلك بكثير هو بناء حكومة جديدة قادرة على توفير احتياجات شعبها وضمان السلام في المدى الطويل. وإذا تجنبت إسرائيل وشركاؤها اتخاذ القرارات الصعبة بشأن الحُكم إلى ما بعد توقف القتال، فقد يكون الأوان قد فات بحلول ذلك الوقت.

  • دانيال بايمان هو زميل أول في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وأستاذ في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون في واشنطن.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالانكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى