لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (35): إسرائيل “بِنتُ” التَدويل

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

عندما تُذكَرُ مَشاريعُ التَدويلِ في المنطقة العربية، يبرزُ اسم دولة إسرائيل إلى الأذهان.

إنَّ المَنزِلةَ المُمَيَّزة التي تحتلُّها إسرائيل في دول الغرب، وفي بعض دول الشرق، وأخيرًا في بعض الدول العربية، تجعلها في وَضعٍ خاص لكونها “بنت” التدويل من جهة، وشريكةً فيه من جهةٍ ثانية.

في أواسط القرن التاسع عشر، نشأت فكرة “المشروع الصهيوني” بفِعلِ نَهضةِ مصر وجيشها القوي على يد حاكمها محمد علي باشا (بعد فشل الحملة الفرنسية بقيادة الضابط الصاعد نابليون بونابَرت، على أثر تعثُّر الثورة في فرنسا ووقوعها تحت حكم الإرهاب)، وهي نهضةٌ شاملةٌ وعارمةٌ سمحت للجيش المصري السيطرة على الجزيرة العربية والقضاء على “الحركة الوهابية” والدولة السعودية المُتَبَنِّية لها. عندما تعاظم العصيان اليوناني المدعوم من الدول الأوروبية، وأخذَ يُهدّدُ نفوذَ الدولة العثمانية، هبَّ محمد علي لنجدتها، فتحرّكَ أسطوله البحري بقيادة ابنه إبراهيم باشا واحتلَّ المرافئ اليونانية كلّها، فاجتمعت ضده الدول الأوروبية الثلاث الكبرى في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا وروسيا، وحطَّموا أسطوله في معركة “نافارينو”، وفي التسوية التي جرت بعد ذلك، أبقوا لمصر جزيرة كريت اليونانية، وما جرى لمحمد علي تكرّرَ مع جمال عبد الناصر في أواسط القرن العشرين (ليس فقط لأنهُ أمَّم قناة السويس، بل أيضًا بسببِ دعمه الفعَّال للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي).

إلّا أنَّ السببَ المُوجِب الذي حملَ الدول الأوروبية الكبرى على تبنّي الحُلم الصهيوني بإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين، هو الحملة الناجحة التي قام بها إبراهيم باشا في سوريا وغيَّرت التركيب الاجتماعي للمنطقة المشرقية (سوريا، لبنان، فلسطين). فقد أصاب الذعر العثمانيين والأوروبيين، على حدٍ سواء، عندما حقّقَ جيش إبراهيم باشا نصرًا حاسمًا في “معركة نصيبين”، فانفتحَ الطريق أمامه الى إسطنبول، الأمر الذي حمل السلطان محمود الثاني على عقد معاهدة سريعة مع روسيا تَعهَّدت بموجبها الدفاع عن إسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية. وكان الجيش العثماني في تلك المعركة بقيادة اثنين من كبار ماريشالات بروسيا الألمانية، ومعهما فرقة ألمانية من ألف جندي وضابط، هما الماريشال فون مولتكي والماريشال فون مولباخ، اللذان أقاما تحصيناتٍ منيعة، ظنَّاً منهما أنها غير قابلة للاختراق، فاخترقها إبراهيم باشا من أول محاولة، (بعد هذه المعركة بشهر واحد توفي السلطان محمود وكان قد أنجز القضاء على فرقة الإنكشارية التي كانت مُتحَكِّمة بالسلطة العثمانية).

بعد ذلك الإنجاز العسكري الكبير الذي حقَّقه الجيش المصري في بلاد الشام، اجتمعت ضدَّه، كالعادة، الدول الأوروبية، فأرسلت أساطيلها إلى السواحل اللبنانية وقصفت القوات المصرية، وأجبرتها على الانسحاب من بلاد الشام لقاء الاعتراف الدولي بحكم محمد علي وسلالته في مصر. وعند هذا المفصل نشأ في تفكيرِ الدول الكبرى مشروعان خطيران للتدويل هما: المشروع البريطاني، الذي قضى بإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين تفصل بين مصر وبلاد الشام، فلا تتكرّر تجربة محمد علي في تلك البلاد.

المشروع الثاني، فرنسي، في المغرب، وقد تم بالتزامن مع حملة إبراهيم باشا في سوريا، هو احتلال فرنسا للجزائر في العام 1830.

لكن التدويل الفعلي لتحقيقِ هدفِ الدولة اليهودية في فلسطين، بدأ بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر الصلح في فيرساي بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس، وذلك بعد فشل الحركة الصهيونية في حمل السلطان عبد الحميد الثاني على بَيعِ فلسطين لليهود مقابل تعويمٍ ماليٍّ للسلطنة ودعمها في وجه الدول الأوروبية. لكنَّ السلطان عبد الحميد أبلغ ثيودور هرتزل، رئيس المؤتمر الصهيوني الأوّل في مدينة “بال” السويسرية في العام 1897 الذي قَدّمَ له العرض بنفسه: “هذه الأرض (فلسطين) ليست مُلكي لأبيعها. إنّها مُلكٌ لأهلها الفلسطينيين، وأنا مُؤتَمَنٌ عليها، وما دامت في عهدتي فهي ليست للبيع والشراء. على كلِّ حال، وَفِّروا فلوسكم لأنكم سوف تأخذونها بالمجَّان عندما تقوم الدول الأوروبية بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، لكن أنا لا أستطيع أن أُسَجِّلَ على نفسي في سجلّات التاريخ أنني أعطيتكم شيئًا غاليًا علينا وعلى أهلها أصحاب الأرض لقاءَ مبلغٍ من المال”.

اتّخَذَ السلطان عبد الحميد هذا الموقف التاريخي المشهود في الوقت الذي كانت جهاتٌ عربية انخرَطت في الثورةِ ضدّ تركيا العثمانية، بالتواطؤ مع بريطانيا على علم، (وربما بموافقة ضمنية)، بالمشروع الدولي لإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين. والقادة منها الذين حضروا مداولات مؤتمر فرساي (وأبرزهم الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني الياس الحويك المُطالِب وقتها بدولة لبنان الكبير بضم الأقضية الأربعة التابعة للحكم العثماني في إسطنبول الى لبنان الصغير)، كانوا على علم بما يُحاك في ردهات المؤتمر، أو على الأقل كانوا على عِلمٍ ببعثة “كينغ–كراين” الأميركية إلى سوريا، وفي أجندتها تقصّي مسألة إقامة دولة يهودية في فلسطين، كما مرَّ، إن لم يكونوا على بيِّنةٍ من تقريرها الذي وُضِعَ على الرَفِّ لسنواتٍ عدة.

وعندما احتلَّ الإسرائيليون أكثر من نصف لبنان بما فيه العاصمة بيروت في العام 1982، كان ذلك يحظى بموافقةٍ دولية، حيث أُريدَ للجانبِ الإسرائيلي أن يلعبَ الدور الذي لعبه تاليًا الجانب العربي كوكيلٍ في نهاية الحرب الأهلية. ففي المفاوضات الإسرائيلية–اللبنانية التي أفضت إلى “اتفاقية 17 أيار” التي أقرَّها المجلس النيابي اللبناني (ولم يوقعها رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل تحت وطأة ضغوطٍ داخلية وعربية)، وهي مفاوضاتٌ جرت تحت إشراف الوسيط الأميركي موريس درايبر، الذي ذُهل من استعجال الطرف اللبناني في التوصّلِ إلى تَفاهُم. وقد أبلغني أحد الزملاء في بيروت خلال تلك المفاوضات، التي ترأسها عن الجانب اللبناني السفير أنطوان فتَّال، أنَّ درايبراضطر في مرحلةٍ من المراحل إلى الطلب من الجانب اللبناني التشدّدَ قليلًا في المفاوضات لكي يكون للولايات المتحدة دورٌ في التقريب بين مطالب الفريقين. وقد لاحظ درايبر أنَّ التفاوضَ من الجانب اللبناني هو التسليم المُبكِر بمطالب الفريق الآخر إلى درجة الاستغناء عن خدمات الوسيط. وربما كان من حسن الحظ أنَّ ذلك لم يحدث مع الوسيط الأميركي-اليهودي آموس هوكستين في المفاوضات الأخيرة (غير المباشرة) بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. أو على الأقل فإنَّ الوسيطَ هوكستين لم يشكُ مما شكا منه الوسيط درايبر من قبله!

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى