الحَربُ الدائرة من غزَّة إلى الجنوب؛ اليوم التالي؟

الدكتور ناصيف حتي*

أشهرٌ ثلاثة مَرَّت على انطلاقِ الحربِ الإسرائيلية على غزّة. وبقدرِ ما يمرُّ الوقت بقدر ما يثبت ويزيد غرق إسرائيل في “مستنقع غزة” إذا ما تَذَكّرنا الأهدافَ التي رفعتها في تلك الحرب من إلغاء “حماس” في القطاع، أو إخراجها كُلِّيًا من “الملعب” والسيطرة الأمنية على القطاع.

تزدادُ مع الوقت الضغوطات على إسرائيل من طرفِ أصدقائها في واشنطن وفي عواصم غربية أُخرى لوقفِ حربِ “الدمار الكثيف” ضد السكان. الأمرُ الذي خلقَ ردَّ فعلٍ كبيرًا ومُتزايدًا ضدّ السياسة الإسرائيلية على مستوى الرأي العام الدولي وفي العديد من مراكز القرار في عواصم الدول المؤيِّدة أو المُتَفَهِّمة للسياسة الإسرائيلية ضد “حماس”. وبالتالي لا تستطيع أن تستمرَّ تلك العواصم في مَنحِ ضوءٍ أخضر لتلك السياسة التي صار المطلوب تغييرها. السلطة في إسرائيل تعيش مأزقًا مُتزايدًا في هذ الشأن. من أبرز مظاهره الخلافُ المُتزايد، والذي لم يعد خافيًا، بين وزراءِ اليمين الديني المُتشدّد من جهة والقيادة العسكرية من جهةٍ أُخرى من خلال “الاشتباك” مع رئيس الأركان كما ظهر في الاجتماع الأخير  للمجلس الوزاري المُصَغَّر المسؤول عن الشؤون السياسية والأمنية. الأمرُ الذي انعكسَ بالتالي على اجتماعِ الحكومة. أضِف إلى ذلك الحملة على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو واتهامه بأنَّ هدفه من إدارة الحرب واستمرارها الهروب من استحقاقِ المثول أمامَ المحكمة لمخالفاته العديدة. وتدّعي القيادة الإسرائيلية أنها نجحت في إخراج “حماس” من شمال القطاع وأنَّ معركتها الآن تتعلّقُ بالتخلّصِ منها في وسط وجنوب القطاع. وهذا بالأمر المستحيل أيًّا كان حجم الدمار الذي تُنزِله الآلة العسكرية الإسرائيلية بالقطاع. إنَّ أكثرَ ما نتجَ عن هذا الوضع دعوةُ بعض قيادات اليمين المُتشدّد لإعادة الاستيطان إلى غزّة أو العمل على التهجير القسري والطوعي لأهلِ غزّة إلى مختلف بقاع العالم. دعواتٌ تَعكُسُ المأزق الإسرائيلي .

يحصل ذلك فيما تنشط سياسة إسرائيل في زيادة الحصار و”الخنق” الماديِّ المختلف الأوجه والأمني لسكان الضفة الغربية، وإقامة المستوطنات الجديدة بغية تهجيرهم مما يرفع من درجة التوتّر في المنطقة .

وفي سياق الأزمة الناتجة عن عدم القدرة على تحقيقِ الأهداف المُرتفعة السقف في غزّة وربما اضطرارها مع الوقت إلى اعتماد مُعادلةٍ قوامها عدم وقف الحرب بسبب الرفض الشديد لذلك الأمر، كما عبّر عنه أكثر من وزير في الحكومة مُهَدِّدًا بالاستقالة مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وغيره إذا ما حصل ذلك، من جهة، والاضطرار من جهةٍ أُخرى إلى بلورة استراتيجية حرب جديدة تقوم على “الضربات الجراحية” ضدّ أهدافٍ “حماسية” مقابل التخفيف من حدّة حرب الإبادة التي تقوم بها ضد السكان. كما قد تعمل في السياق ذاته على محاولة إقامة منطقةٍ آمنة في عمقٍ جغرافي ضروري في شمال القطاع يسمح لإسرائيل بالقول أنها حققت أهدافها بحماية “غلاف غزة” وأسقطت تهديد “حماس” كلّيًا من الجنوب. لكن ذلك الهدف الذي من غير المُنتَظَر الإعلان عنه لأنه يُشكّلُ اعترافًا كبيرًا بهزيمة إسرائيل من خلال منعها من تحقيق الأهداف التي أعلنتها، لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. إنه هدفٌ يعمل عليه بعض الأطراف الوسيطة ضمن صيغ تدرّجية مختلفة تشمل سياسة الهُدَن المتكرّرة والمُطَوَّلة كإجراءاتٍ بناء ثقة للتوصّلِ إليه .

ولا بدَّ من التذكير أنَّ إسرائيل ستستمر في حربٍ مُمتَدّة وغير مُحَدَّدة في الزمان. حربٌ قد تشهدُ مع الوقت وبشكلٍ تدرّجي تخفيضًا لحدّة القتال من دون وقفه، إلى أن يأتي وقتُ “تجرُّعِ كأس السمّ” والقبول بوقف إطلاق النار على جبهتها الجنوبية أيًّا كان المُسَمّى الذي سيوصف به الوضع الجديد. الوضعُ الذي، لإعادةِ التأكيد، ما زال بعيد التحقيق ولكنه البديل المُمكن والواقعي من الهدفِ الإسرائيلي المُعلَن في حرب الإبادة والإلغاء التي تشنّها إسرائيل ضدّ القطاع.

وفي إطارِ الترابُطِ القائم  بين “الساحة الفلسطينية الغزّاوية” و”الساحة اللبنانية الجنوبية” الذي هو إحدى سمات الحرب الدائرة، والذي يعترف به الجميع، جرى الاحتفاظ لفترة طويلة منذ بداية الحرب بقواعد الاشتباك القائمة في لبنان. وشهدت هذه الأخيرة في مرحلةٍ أولى تصعيدًا مُتماثِلًا ” symmetrical” أو مُتوازيًا من حيث طبيعة الأهداف والقوة النارية والعمق الجغرافي. ولكن أخذت إسرائيل منحى الخروج عنه من خلال اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي ل”حماس” صالح العاروري في الضاحية الجنوبية في بيروت، الأمر الذي يُهدّدُ بإسقاط قواعد الاشتباك التي كانت قائمة  قبل الحرب الحالية. أضف إلى ذلك التشديد الإسرائيلي على هدف إبعاد “حزب الله” الى شمال الليطاني في إطارِ استكمالِ تنفيذِ قرار محلس الأمن الدولي رقم ١٧٠١ والاشتباك الديبلوماسي والسياسي الدائر حول التنفيذ الكُلّي لكافة مندرجات القرار، وليس بشكلٍ انتقائي كما تطرح إسرائيل. فالخرقُ الجوي المُستَمِرّ للأجواء اللبنانية من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي يُشكّلُ أيضًا خرقًا فاضِحًا للقرارِ إلى جانبِ نقاطٍ أُخرى تتعلّق بالاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية ورفضها لأيِّ صيغ للخروج منها. التصعيدُ الإسرائيلي المفتوح والمتزايد في الجغرافيا وفي الأهداف على الحدود الشمالية (اللبنانية) يُشكّلُ وسيلةً خطيرة “للتفاوض على أرضِ القتال” بغية تحقيقِ أهدافٍ سياسية أمنية على الجبهة اللبنانية. قد يؤدّي هذا الأمر إلى حدوثِ انزلاقٍ نحوَ حربٍ مفتوحة تزيد من تعقيداتِ الوضع وتدفع نحو صراعٍ إقليمي مُتعدّد الأطراف والأبعاد ونلحظ بعض إرهاصاته .

نشهدُ سباقًا اليوم بين الانفجارِ الكبير ذي التداعيات الخطيرة على الإقليم الشرق أوسطي من جهة، وبين التوصّلِ إلى تسويةٍ من جهة اخرى قد تقوم على إحياء قواعد الاشتباك  القائمة على الجبهة اللبنانية مع ربما بعض التغييرات التي قد تنتج عن تفاهمات تصيغها الأطراف الوسيطة. ونذكر بهذا الصدد، آخذين بعين الاعتبار بالطبع المتغيّرات التي حصلت، بتفاهم نيسان (إبريل) لعام ١٩٩٦ والذي قام على قواعد اشتباك مُحَدَّدة وللتفاهمات التي أدّت غداة حرب ٢٠٠٦ إلى قواعد اشتباك تريد إسرائيل إسقاطها حاليًا .

على الجبهة الفلسطينية، وخصوصًا الغزّاوية، المُشتَعلة لا بدَّ من التوصّل إلى وقف إطلاق النار، وهنا مسؤولية أساسية للقوى الدولية الفاعلة والمؤثِّرة لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية والتوصّل إلى تفاهُمٍ مضمونٍ من هذه القوى وغيرها لإقامة وقف إطلاق نار على الحدود الإسرائيلية-الغزّاوية، الأمر الذي ليس بالسهل لتقبل إسرائيل بسقوط اهدافها في القطاع، ولكنه في النهاية، يبقى ذلك كله، رُغم العراقيل والصعوبات أمام تحقيقه، أمرًا أكثر من ضروري لمنع الحريق الكبير. ويسمح كشرطٍ ضروري، ولو غير كافٍ، بالعودة بعد ذلك إلى إحياءِ مفاوضات السلام بشكلٍ جدّي وعلى قواعد جديدة. أمرٌ أمامه الكثير من الصعوبات والعوائق ولكنه بالضروري حتى لا يبقى أيُّ وَقفٍ لإطلاق النار، أيًّا كان عنوانه، مُجرّد لحظة التقاط أنفاس أو هدنة مُطَوَّلة تعود بعدها المنطقة إلى التوتّر والاشتعال والحروب المفتوحة. هذا هو أحد أهمّ التحدّيات التي يواجهها الشرق الاوسط في مطلع هذا العام.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • ريَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى