السلامُ الإسرائيلي: خطّةُ آلون للأبد!

في حين عرض القادة الإسرائيليون تنويعات على خطط السلام مع الفلسطينيين، فإنَّ مبادئَ الاحتلال التي تم تحديدها في العام 1967 لا تزال معنا.

قمة كامب دايفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك بإشراف بيل كلينتون: لم تؤدِّ إلى نتيجة.

مايكل يونغ*

في كانون الأول (ديسمبر)، أجرى مارك أوستن، مراسل محطة “سكاي نيوز” التلفزيونية البريطانية، مُقابلةً كاشِفةً مع السفيرة الإسرائيلية في المملكة المتحدة، تسيبي هوتوفلي. سأل أوستن هوتوفلي ما إذا كان تَصَوُّرُ إسرائيل للتسوية مع الفلسطينيين يَشمُلُ حَلَّ الدولتين. بعد التهرّب والتمايل لتَجَنُّبِ الإجابة، قالت هوتوفيلي أخيرًا: “لقد فشل نموذج أوسلو في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ونحن بحاجة إلى بناءِ نموذجٍ جديد”. وعندما ضغط عليها أوستن مرة أخرى بشأن ما إذا كانت إسرائيل ستقبل بدولةٍ فلسطينية، بادرت هوتوفلي بالقول: “الجواب هو لا على الإطلاق…”.

عندما ينظرُ المرءُ إلى التصرّفات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية اليوم، هناكَ أمرٌ واحدٌ مؤكّد، إنَّ أحزاب اليمين والمُستَوطنين في الحكومة، بدءًا برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ليست لديها أيّ نِيّة للقبول بدولةٍ فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى الأحزاب الأكثر وَسَطِيّة لا تدفع إسرائيل في هذا الاتجاه. بعبارةٍ أخرى، يبدو أنَّ الإسرائيليين، بغالبيتهم، يُعارضون حَلَّ الدولتَين، ويرفضون حلَّ الدولة الواحدة، ولا يُقَدِّمون عمومًا أيَّ تسوية واقعية يُمكِنُ أن تُثيرَ اهتمامَ محاوريهم الفلسطينيين ولو من بعيد.

مع ذلك، فإنَّ طَرحَ هذا الأمر فقط على باب حزب الليكود بزعامة نتنياهو، ناهيك عن الجماعات الدينية القومية المتطرفة شبه الفاشية التي شَكّلَ معها حكومته، سيكون خطأً. لقد لعب اليسار الإسرائيلي دورًا رئيسًا في إرساء الإطار المفاهيمي للاحتلال اليوم، والذي تمَّ التعبيرُ عنه في البداية في خطة إيغال آلون، التي عُرِضَت نسختها الأولى على مجلس الوزراء الإسرائيلي في 26 تموز (يوليو) 1967. وعند ذكر “النموذج الجديد” ربما هذا ما كانت تُفَكِّرُ فيه هوتوفلي – إما ذلك، أو البديل المُتَمَثِّل في تهيئة الظروف للتطهير العرقي للسكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

كتب وِليَم هاريس، الجغرافي السياسي النيوزيلندي، كتابًا ممتازًا عن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في مرحلة ما بعد العام 1967، بعنوان “ترسيخ الجذور: الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والجولان وغزة-سيناء، 1967-1980” (Taking Root: Israeli Settlement in the West Bank, the Golan, and Gaza–Sinai, 1967–1980). وفيه، يُحَدّدُ هاريس النقاط الرئيسة في خطة آلون، التي تحمل اسم إيغال آلون، وزير العمل الإسرائيلي في حكومة رئيس الوزراء ليفي إشكول. ويصف هاريس الخطة بأنها “ذات أهمية كبيرة لأنها، بدون أن يتمَّ قبولها رسميًا على الإطلاق، أصبحت تدريجًا القاعدة الإقليمية والإيديولوجية لبرنامج الاستيطان الرسمي واسع النطاق في الأراضي المحتلة، واستمرّت في هذا الدور لمدة عقد تقريبًا”.

يُمكِنُ للمرءِ أن يُجادِلَ في ادّعاء هاريس بأنَّ خطة آلون ظلت مؤثّرة فقط لمدة تقرب من عقد من الزمان. في كثيرٍ من النواحي، استمرَّ منطقها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، ولا يزال سائدًا حتى اليوم. لقد بُنِيَت الخطة حول مبدَإٍ بسيطٍ مفاده أنه “يجب على إسرائيل أن تحتفظَ بالحُكمِ المباشر على أجزاءٍ من الأراضي المحتلة التي تمنح مزايا استراتيجية واضحة، ومن أجلِ دَعمِ قدرتها على المساومة في ما يتعلق بهذه المناطق، يجب عليها أن تذهب إلى ما هو أبعد من إنشاء مواقع عسكرية وتنفيذ سياسة شاملة للإستيطان اليهودي على الفور”.

ومضى هاريس ليُوَضِّح أنَّ “محور خطة آلون كان مفهوم التسوية الإقليمية (الأرضية)  لتحقيق أقصى قَدرٍ من أمن إسرائيل مع تقليل الإضافات إلى الأقلية العربية في إسرائيل”. وسيتم ذلك من خلال إنشاء مناطق حكم ذاتي عربي في شمال وجنوب الضفة الغربية، “ربما مع روابط كونفيدرالية مع الأردن و/أو إسرائيل”، في حين تحتفظ إسرائيل بالسيطرة على وادي الأردن المُتَصَدِّع، ما يُضيفُ عمقًا استراتيجيًا لدولة 1948. بمعنى آخر، منحت الخطة الفلسطينيين حُكمًا ذاتيًا، على الأكثر، ربما ضمن الإطار الهاشمي أو الإسرائيلي، من دون أي اعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية.

هذا التفكير هو الذي كان وراء خطة الحكم الذاتي التي طرحها رئيس الوزراء مناحيم بيغن في كانون الأول (ديسمبر) 1977، والتي بموجبها ينتخب سكان الأراضي المحتلة مجلسًا إداريًا لحُكمِ أنفسهم في مجموعة واسعة من المجالات، في حين يظل الأمن والنظام العام تحت سيطرة إسرائيل. انحرفت الخطة عن هدف آلون المُتمثّل في تقليص عدد السكان العرب في إسرائيل من خلال اقتراح أن “يُمنَح سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة، بدون تمييز في الجنسية، بما في ذلك السكان عديمي الجنسية، حرية الاختيار بين المُواطَنة الإسرائيلية أو الأردنية”. إذا اختار المواطنون العرب في الضفة الغربية أن يصبحوا إسرائيليين، فيمكنهم شراء الأراضي والاستقرار داخل إسرائيل.

رفض الفلسطينيون خطة بيغن، لأسبابٍ ليس أقلُّها أنها فشلت في الاعتراف بحقوقهم الوطنية ووضعت المجلس الإداري تحت سلطة إسرائيل، التي يمكنها حلَّ المجلس عندما تريد ذلك. كما أعطت الخطة الضوء الأخضر لمشروع بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، مُشيرةً إلى أنَّ “إسرائيل مُتَمَسِّكة بحقّها ومُطالبتها بالسيادة على يهودا والسامرة وقطاع غزة”. مع العلم بوجود مطالبات أخرى، فإنها تقترح، من أجل الاتفاق والسلام، ترك مسألة السيادة في هذه المناطق مفتوحة. ومع ذلك، ونظرًا لحقيقة أنَّ إسرائيل ستستوطن هذه المناطق من دون قيود، وستُسَيطر على الأمن، فمن المرجح دائمًا أن تكونَ الغلبة لمُطالباتها بالسيادة. وفي الواقع، في إعلانه عن خطته، أوضح بيغن النتيجة التي يتوقعها، عندما قال: “لدينا حق ومطلب بالسيادة على هذه المناطق من أرض إسرائيل. هذه أرضنا وهي مُلكٌ للأمّة اليهودية عن حقّ”.

وبينما انحرفت خطة بيغن عن خطة آلون في بعض النواحي، إلّا أنها كانت في الأساس مَبنِيَّة على الأُسُسِ نفسها: الحكم الذاتي للسكان الفلسطينيين تحت الإشراف السياسي والأمني لإسرائيل، بدون الاعتراف بحقوقهم الوطنية، ناهيك عن السيادة، مصحوبة بـالاستيطان الإسرائيلي على الأراضي العربية المحتلة، وهو أمرٌ غير قانوني بموجب القانون الدولي. وقد تم التأكيد على ذلك في اتفاقيات كامب دايفيد في أيلول (سبتمبر) 1978، والتي قدّمت خطةً للحكم الذاتي الفلسطيني في الأراضي المحتلة لفترة انتقالية مدتها ثلاث إلى خمس سنوات، يتم بعدها مناقشة الوضع النهائي للأراضي المحتلة.

ومن الجدير بالذكر أن اتفاقيات كامب ديفيد قدّمت سابقةً رئيسة لا تزال سائدة في التفكير الديبلوماسي بشأن المسألة الفلسطينية-الإسرائيلية. وهي أن النتيجة النهائية لمحادثات السلام العربية-الإسرائيلية لا بدَّ أن يَتمَّ التفاوضُ عليها بين الطرفين، وليس تحديدها مُسبَقًا. لماذا هذا ذو صلة؟ يعود ذلك جُزئيًا إلى اعتراف إدارة ريتشارد نيكسون في شباط (فبراير) 1972 بأنَّ إسرائيل ليست بحاجة إلى إلزامِ نفسها بالانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها في العام 1967 كجُزءٍ من أيِّ اتفاقٍ مؤقت مع العرب. وعلى هذا فقد دخل الإسرائيليون في المفاوضات مع العرب خلال تسعينيات القرن العشرين من دون الاضطرار إلى قبولِ أيِّ نتيجةٍ لا يتّفقون معها، وهو النهجُ الذي عزّزَ أيضًا تفسير إسرائيل لاتفاقات أوسلو.

إنَّ استمرارَ إسرائيل في عملية الاستيطان خلال فترة ما بعد أوسلو يؤكّدُ فقط أنها تتوقع البقاء في أجزاءٍ كبيرة من الضفة الغربية، في حين كان هناك تأخيرٌ مُستَمِرّ في الانتقال إلى محادثات الوضع النهائي التي تشملها الاتفاقات. وعندما جرت تلك المحادثات في نهاية المطاف، في كامب دايفيد في تموز (يوليو) 2000، فشلت. وبينما ألقى الرئيس بيل كلينتون باللوم على ياسر عرفات في ذلك، اختلف المشاركون الآخرون في القمة، بما في ذلك مستشار كلينتون روبرت مالي،  الذي في مقالٍ حَظِيَ بتغطيةٍ إعلامية كبيرة كتبه مع حسين آغا لمجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” في العام 2001، جادل المؤلّفان بأنَّ عرفات لم يكن من المُمكن أن يرفض عرضًا من نظيره الإسرائيلي إيهود باراك، لو طَرَحَ أي شيء واضح على الطاولة: “النتيجة النهائية وغير الملحوظة إلى حدٍّ كبير لنهج باراك هي أنه، بالمعنى الدقيق للكلمة، لم يكن هناك أيُّ عرضٍ إسرائيلي على الإطلاق. ومع تصميمهم على الحفاظ على موقف إسرائيل في حالة الفشل، وعقدهم العزم على عدم السماح للفلسطينيين بالاستفادة من التنازلات الأحادية الجانب، كان الإسرائيليون يصدّون دائمًا أي خطوة، إن لم يكن خطوات، باتجاه أيِّ اقتراح. إن الأفكار التي طُرِحَت في كامب دايفيد لم يتم ذكرها أو تسجيلها كتابيًا، بل تم نقلها شفويًا. لقد تم تقديمها بشكلٍ عام على أنها مفاهيم [أميركية]، وليست إسرائيلية؛ وفي الواقع، وعلى الرغم من مطالبته بإتاحة الفرصة للتفاوض وجهًا لوجه مع عرفات، رفض باراك عقد أي اجتماع موضوعي معه في كامب دايفيد خوفًا من أن يسعى الزعيم الفلسطيني إلى تسجيل التنازلات الإسرائيلية كتابيًا”.

يمكن القول إنَّ جُزءًا من مشكلة باراك هو أنه كان حَذِرًا بشأن إنهاء القبضة الخانقة لخطة آلون. في نهاية المطاف، قَبِلَ رئيس الوزراء إيهود أولمرت ما بدا للوهلة الأولى أنه اختلافٌ كبير عن خطة آلون في أيلول (سبتمبر) 2008. فقد عرضَ التنازُلَ عن ما يقرب من 94% من الضفة الغربية للفلسطينيين، حتى لو كانت هناك ثلاث كتل استيطانية كبرى –غوش عتصيون، معاليه أدوميم، وأرييل (تقع في النصف الجنوبي من الضفة الغربية، في منطقة كبيرة شرق القدس، وشمال رام الله في النصف الشمالي من الضفة الغربية، على التوالي)– كان من الممكن ضمّها إلى إسرائيل. وفي حين رأى أولمرت ووزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، أن العرض سخيٌ للغاية، فإنَّ ما لم يذكراه هو أن الفلسطينيين رَؤوا عيوبًا كبيرة في المُخَطَّط.

لقد عَرضت الخطة في أفضل الأحوال شكلًا مُقَيَّدًا من السيادة الفلسطينية. لا يُمكِنُ للدولة الفلسطينية أن يكونَ لها جيش أو قوة جوية. كما إنها لا تستطيع السيطرة على حدودها مع الأردن، التي ستحرسها قوات دولية، ربما من حلف شمال الأطلسي. سيكون لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها عبر الحدود في فلسطين، وملاحقة أعدائها داخل الأراضي الفلسطينية، وسيكون لها حقّ الوصول إلى المجال الجوي الفلسطيني. وبالمثل، لن يكون هناك حقٌّ مُعترَف به في العودة للفلسطينيين، باستثناء حوالي 1,000 لاجئ سنويًا لمدة خمس سنوات. عرض أولمرت على الرئيس الفلسطيني محمود عباس خريطة غير قابلة للتفاوض لكي يوقّعها، وليس من المُستَغرَب أن يرفض عباس قبولها، الذي لا بدَّ أنه رأى في ذلك كمينًا.

وبينما بدا أنَّ أولمرت يبتعد من خطة آلون، فإنَّ المَنطِقَ لم يكن مُختلفًا تمامًا. كانت المستوطنات التي تم ضمّها عبارةً عن كُتَلٍ جغرافية كبيرة تسيطر عليها إسرائيل في الضفة الغربية والتي قدمت مزايا استراتيجية واضحة للجيش الإسرائيلي. وكان من شأن الخطة أيضًا، بالاقتراض من هاريس، أن تسعى إلى “تسوية إقليمية (أرضية) لتحقيق أقصى قدرٍ من أمن إسرائيل مع تقليل الإضافات إلى الأقلية العربية في إسرائيل”. وحتى لو قامت القوات الأجنبية “بدوريات” في وادي الأردن، فإنَّ هذا لا يعني شيئًا في ما يتعلق بمَن يحتفظ بالسيادة هناك. وكانت إسرائيل ستستمر في اعتبار الوادي خطَّ دفاعها الأول إلى الشرق، وكان خطُّ عرضها لعبور الحدود إلى فلسطين والتحليق بطائراتها العسكرية في المجال الجوي الفلسطيني سيوفران الأساس القانوني لتدخّلاتها.

لذا فإنَّ خطة آلون لا تزال في قلب الكثير من التفكير الإسرائيلي بشأن الضفة الغربية، حتى اليوم. يبدو أنَّ ما يُريده العديد من الإسرائيليين هو شعبٌ فلسطيني يقبل بدولةٍ من دون السمات السيادية للدولة؛ وقبول وجود استيطاني يهودي في وسطهم يمكن أن يتضاعف كوجود أمني؛ الذي يمنح إسرائيل أدوات رئيسة للسيطرة على فلسطين والفلسطينيين؛ والذي يسعى إلى دفن قضية اللاجئين نهائيًا.

في ضوء ذلك، فإنَّ الخلافات بين أولمرت الذي عَرَضَ الدولة المُجهَضة، ومناحيم بيغن أو نتنياهو، اللذين رفضا أو يرفضان فكرة الدولة الفلسطينية ذاتها، ليست كبيرة. وهذا ليس لأن معايير خطة آلون تتسم بالمرونة الكافية لتقديمِ شكلٍ ما من أشكال الحكم الذاتي أو الحد الأدنى من الدولة. في نهاية المطاف، تقدم الخطة أيضًا حلًا وسطًا يمكن أن يُوَحِّد اليسار واليمين الإسرائيليين، فكما قَبِلَ اليمين مبادئها بعد أن صاغها اليسار في البداية، فإنَّ جوهرَ الخطة قد ينتهي في النهاية إلى جذب المتطرفين الإسرائيليين، الذين لا تُقدِّمُ مقترحاتهم أيَّ حلولٍ قابلةٍ للتطبيق تستحق الاعتبار أو النظر فيها.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى