حين الدَولةُ غائبة عن حدودها السائبة

بقلم هنري زغيب*

ما زلنا في لبنان، رغمَ الواقع الوبائي الخطير، نرى معظمَ المسؤُولين اللبنانيين يُمارسون هوايتهم الإِعلامية بسياسة الإِقصاء لا الاستقصاء، وطرُق المراقبة لا المحاسبة، وما زلنا ننتظر تنفيذ وُعُودهم بعدما استَهلكوا من جميع القواميس ومعاجم اللغات حرفَـي الاستقبال “سين” و”سوف”، ويهرِّبون الملفات، ويُلقون بالمسؤُولية على أَسلافهم، وقافلتهم تمشي ويمشي الوطن صوب المهوار.

إخالنا حَيال هذا الواقع أَمام مشاهد الخَراب تهدِّد بتدميرنا وليس مَن يبادر إِلى وقْف الخراب. على الصفحات الأُولى من الصحف اللبنانية قبل أَيَّام، صورتان للواقع الميداني: الأُولى لكورنيش المنارة (رأْس بيروت) خاليًا تماماً من المشاة والسيارات عملًا بقرار التعبئة العامة، والصورة الأُخرى لعشرات الناس في سوق شعبي للخُضَر واللحوم متلازُّون بدون كَمَّامات، وعلى الشاشات التلـڤـزيونية مشاهدُ شبيهةٌ في مناطقَ عدّةٍ لسهَرات أُنسٍ وأَراكيلَ وسمر كأَنَّ جائح الكورونا يجتاحُ  كوكبًا آخر.

ما نفْعُ أَن تمدِّد الحكومة اللبنانية إِجراء التعبئة العامة إِن كانت عاجزةً عن معاقبة الـمُضرِّين بالسلامة العامة؟

بل ما نفْعُ فرضِ التعبئة العامة أَصلًا، إِن لم يقُم مَن يردعُ المخالفين بمخالفاتٍ موجِعةٍ لأَن انفلاتهم يُفْلت الوباء على الناس؟

ما نفْعُ التهديد بمحاسبةِ “الكارتيلات” الفاسدة، ووقْفِ “أَرتالات” تهريب الطحين والمازوت والدورلات، حين الدولةُ الشوساءُ استيقظت أَخيرًا إِنما كي تتمرجل على شغِّيلةِ الدِليـڤِـري فيما هي قاصرة عن وقْف القراصنة “الدِليـڤِـريِّـين” عبر المعابر الحدودية الفالتة من المراقبة؟

ما نفْعُ حجْز الآليات المهرِّبة إِلى الخارج، ولا حجْزَ واحدًا في الداخل على مستودعاتٍ ومخازنَ وخزَّاناتٍ تزوِّدُ تلك الآليات بالمواد المهرَّبة؟

ما نفْعُ الاكتفاء النظريّ بتوصية اللبنانيين العائدين من الخارج أَن يَنْحجروا 14 يومًا إِن لم يكن مَن يُراقب التزامهم، فيما هم يَغُشُّون الدولة بشهاداتِ فحصٍ مُزوَّرة ويستقبلون المهنِّئِين بسلامة “العودة المظفَّرة” من المهجر، أَو يمارسون رياضتَهم في الهواء الطلْق على عين دولةٍ عاجزةٍ عن ضبط هؤُلاء الـ”بلا ضمير”، تتَّكلُ على انحجارهم الطوعي عوَض حجرْهم القسري في أَماكن تحدِّدُها هي، وتراقبُهم أَجهزتُها بحزْم وصرامة؟

ما نفْع الغرغرة الإِعلامية الطنّانة بـ”محاربة الفساد”، ولم نَشْهد بعدُ فاسدًا واحدًا تمَّ اعتقالُه وجرَت محاكمتُه ودخَل السجن مخفورًا ليقضي عقوبة انكشاف فساده بالأَرقام والوقائع؟

كأَنما الفاسدُ ابنُ عمِّ ميكروب كورونا: خفيٌّ لا يراه أَحد، ومع ذلك يفتكُ بالدولة وخيراتها، وليس مَن يجرؤُ على اعتقاله لأَنه من ذوي الحصانات المحرَّمة أَو أَحدُ محاسيبهم؟

هي هذه حالُنا اليوم وسْطَ ما تتخبَّط به دولة لبنان وما يتكبَّدُهُ مواطنوها: بين الهروب إِلى ما سيجري، والهرب مما يجري، بين التهريب الفاقع والتسريب الفاجع والترهيب الواقع، بين الأَرتالات والمؤَرتلين، والكارتيلات والمُكرتلين، فيما الذين يملكون القرار عاجزون عن تنفيذِه بحزمٍ لأَن الفَساد معلوم والفاسدَ مجهول.

ويا تَعْس دولةٍ تنادي بمحاربة الفساد وهي واقفةٌ أَمام مرآةٍ مكسورةٍ تعكِس البضاعة المهرَّبة ولا تعكِس عصابات المهرِّبين.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه: henrizoghaib.com

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى