فُرصَةٌ تارِيخِيَّةٌ لتَحقيقِ السلامِ في سوريا
رانج علاء الدين*
مع بدء إدارة ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا وطرحها علنًا تساؤلات حول مستقبل وجودها الطويل الأمد هناك، قد تفقد قوّات سوريا الديموقراطية (قسد)، وهي قوّة ائتلافية بقيادة كردية، أهمّ داعم عسكري وسياسي لها. ويُرجَّحُ أنّ هذا الاحتمال، فضلًا عن ما قد يترتّب عليه من تحوّلاتٍ جيوسياسية، كان عاملًا رئيسًا في قرار القائد العام ل”قسد”، مظلوم عبدي، بتوقيع اتفاقٍ في آذار (مارس) الفائت مع الرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع، ما يُمهّدُ الطريق لتفاهُمٍ جديد حول تقاسم السلطة في البلاد.
بدعمٍ من الولايات المتّحدة وترحيبٍ من تركيا، قد يُسهِمُ هذا الاتفاق في تجنيب سوريا الانزلاقَ إلى جولةٍ أخرى من حروبٍ بالوكالة مدمِّرة. وبالنسبة إلى واشنطن والقوى الأخرى الفاعلة في المشهد الإقليمي، يُعَدُّ الاتفاقُ اختبارًا مهمًّا لمدى التزام الشرع بخيارِ السلام وتقاسُم السلطة مع الأكراد وخصومه الآخرين. أمّا بالنسبة إلى أنقرة، فهو اختبارٌ مهم لمدى التزامِ “قسد” كشريكٍ في مرحلة ما بعد الأسد، لا سيّما في ظلِّ سعي تركيا الحثيث إلى إحياء عملية السلام مع حزب العمّال الكردستاني المحظور.
جاء هذا الاتفاق في أعقابِ موجةٍ من العنف الطائفي اجتاحت منطقة الساحل السوري ذات الغالبية العلوية، حيث ارتكبت قوّاتٌ مرتبطة ب”هيئة تحرير الشام”، المقرّبة من الشرع، مجازر مروّعة بحقِّ مدنيين من الطوائف الإسلامية غير السنّية، ما قَوَّضَ مزاعم الشرع بشأن تعزيز الوحدة الوطنية. ومع تراجُعِ شرعيته، وجدَ الشرع في التحالف مع “قسد” فرصةً لإعادة تقديم نفسه كجسرٍ جامعٍ بين المكوّنات العرقية والطائفية في سوريا. وعلى الرُغمِ من الرمزية القوية التي يحملها الاتفاق، تبقى قدرته على الصمود موضعَ شكّ، إذ يواجه ضغوطًا حقيقية في ظلّ رفض الفصائل الكردية، بما فيها “قسد”، الدستور الانتقالي المُقترَح من الإدارة، معتبرةً إياه محاولةً لإضفاءِ طابعٍ رسمي على نسخةٍ جديدة من نظامٍ سلطوي عربي يُهمّشُ الأكراد ومسعاهم نحو الحكم الذاتي.
وفي حين تُواصِلُ قوات سوريا الديموقراطية الانخراطَ مع الشرع بشكلٍ براغماتي، فإنّها لا تزال تحظى بدعمٍ عسكري وسياسي من الولايات المتّحدة، وتُسيطرُ على نحو ثلث الأراضي السورية في شمال شرق للبلاد. في المقابل، فشلت حكومة الشرع في بَسطِ سيطرتها على المناطق الخاضعة للثوّار في الجنوب أو احتواء حالة الغليان المتزايدة في معاقل العلويين، حيث بدأت تظهر ملامح تمرّد ناشئ قد يكون مدعومًا من إيران و”حزب الله” وقوّات “الحشد الشعبي” العراقية.
تشبه هذه الأوضاع المتأزّمة إلى حدٍّ كبير المراحل الأولى من الصراع ذي الطابع الإقليمي الذي دمّر العراق بعد العام 2003، فكما اجتاحت أجندات الفاعلين الإقليميين الساحة العراقية آنذاك، تُهدَّد سوريا اليوم بأن تتحوّلَ مجدَّدًا إلى ميدانٍ تتقاطَعُ فيه مصالح القوى المتنازعة وأجنداتها، ما لم تدرك الأطراف المحلّية والدولية خطورة اللحظة وتتحرّكُ على وجه السرعة لاحتواء التدهور. تُقدّمُ تجربة العراق درسًا تحذيريًا لما قد تؤول إليه الأمور، وتُوفّرُ أيضًا خارطة طريق جُزئية يمكنُ الاستفادة منها لتجنُّب السيناريوهات الأسوَإِ في سوريا. فقد حُسِمَ مصيرُ العراق في الأيام الأولى التي تلت الغزو الأميركي في العام 2003، إذ مهّد مزيجٌ من التوتّرات الطائفية المتجذّرة والمنافسة الجيوسياسية المُحتَدمة الطريق لاندلاع حربَين أهليتين على الأقل وسقوط مئات الآلاف من القتلى العراقيين على مدى عقد من الزمن، إلى جانب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإنشائه شبه دولة في شمال العراق.
لا تملُكُ سوريا ترفَ الخوضِ في الرحلة الشاقة نفسها قبل أنّ تجدَ طريقًا للخلاص من الصراع. فضلًا عن ذلك، كما في حالة العراق، فإنّ المشهد السياسي الداخلي وقدرة الحكومة المركزية على إدارة التنافسات السياسية سيُحدّدان مدى تأثير الجغرافيا السياسية على مستقبل سوريا القريب. يُظهرُ اتفاق تقاسم السلطة الجديد أنّ السياسة والسلطة لا تشكّلان لعبةً صفرية، على الرُغم من الحديث الكثير عن الفصائلية والانقسامات الطائفية والصراعات، بل تكمنُ فُرَصٌ للتعاون وتحقيق مكاسب متبادلة. وبدعمٍ من الفاعلين الدوليين، تحتاج سوريا إلى إعادة بناء توافقٍ وطني وإطارِ عملٍ يعالج قضايا المسؤولية المشتركة وصنع القرار الجماعي. وسيُشكّلُ ذلك خطوةً مهمة نحو تحقيقِ تسويةٍ شاملة بين الفصائل والطوائف السورية، بما يمنع نشوء أنظمة سياسية متنافسة تتيح للأطراف الخارجية استغلال الانقسامات لخدمة مصالحها الجيوسياسية، وغالبًا ما تكون لها عواقب وخيمة على السكّان المحلّيين.
ينبغي على صانعي السياسات السوريين والدوليين أن يولوا اهتمامًا أكبر للديناميّات المجتمعية والعوامل الدافعة للصراع في سوريا، وأن يعزّزوا دور الفاعلين القادرين على التأثير في السياسات العامة من القاعدة إلى رأس الهرم وعلى مساءلة صانعي القرار. وفي هذه الأثناء، قد تتيح سوريا اللامركزية، التي تمنح صلاحيات أوسع للمجتمعات التي ترى في حكومة دمشق سلطة طائفية وتشعر بالتهميش والإقصاء، مساحةً كافية للدولة والمجتمع للبدء في عملية مصالحة. وبدلًا من الدعوة إلى إعادة فرض سلطة دمشق على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية ، أو الترويج للمركزية، أو الإصرار على الهوية العربية للدولة السورية، كما يفعل الدستور الانتقالي المقترح، ينبغي على دمشق والجهات الخارجية التعامل مع أنماط الحكم الذاتي القائمة والاعتراف بتعدّدية سوريا باعتبارها مصدر قوّة لا موطن ضعف. ويُعدّ ذلك أمرًا بالغ الأهمية لتحقيقِ سلامٍ مستدام وحُكمٍ رشيد.
وعلى الرُغمِ من أنّ المصالحة تُعدّ ركيزةً أساسية لعمليات الانتقال ما بعد الصراعات، إلّا أنّها قد تُستَخدَمُ أيضًا كسلاحٍ لإخضاعِ الأقليات أو الخصوم الأضعف، كما فعل نظام الأسد. بالتالي، ينبغي على الحكومة المؤقّتة أن تضمن ألّا تتحوّل جهود إعادة الإعمار وبناء السلام إلى أدواتٍ قسرية لفرض هيمنة الدولة أو لتحقيق مكاسب عبر الاستغلال أو الابتزاز أو العقاب أو الاستيعاب القسري. فقد سَخَّرَ نظام الأسد المساعدات الدولية، وحوّلها نحو مشاريع تُعزّزُ نفوذه، بدلًا من توجيهها إلى المجتمعات الأكثر حاجة للدعم الإنساني وإعادة الإعمار. وبالتالي، فإنّ أمام الإدارة المؤقّتة فرصةً لتبديد مخاوف المجتمع الدولي وتعزيز مصداقيتها كحكومةٍ تمثيلية قابلة للإستمرار. ينبغي على الشرع أن يعملَ على بناء تحالفات تتجاوز قاعدته الضيّقة، وأن يمنحَ مجموعات مثل “قسد” صلاحيات فعلية واستقلالية حقيقية، إذا كان من الممكن تحقيق سلام مستدام، فالوقتُ يُداهِمُ الجميع.
- رانج علاء الدين هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وكان سابقًا زميلًا غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنغز وباحثاً زائرًاً في جامعة كولومبياالأميركية.