هل يستطيعُ “الجنوب العالمي” أن يُعيدَ التوازُنَ السياسي الدولي إلى الشرق الأوسط؟

الدول الناشئة في “الجنوب العالمي” تقاوم الروايات الغربية حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهو أمرٌ جيد.

الجمعية العامة للأمم المتحدة: صارت قوة ضغط على مجلس الأمن الدولي.

مايكل يونغ*

أثار الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا جَدَلًا يوم الأحد الفائت، أثناء حضوره قمة الاتحاد الإفريقي، عندما قال:”إنَّ ما يحدث في قطاع غزة ليس حربًا، إنه إبادة جماعية. إنه ليس حَرب جنود ضدّ جنود. إنه حربٌ بين جيش على درجة عالية من الاستعداد والتسلح ضد النساء والأطفال. إنَّ ما يحدث في قطاع غزة مع الشعب الفلسطيني لم يحدث في أيِّ لحظةٍ أخرى من التاريخ. بلى، لقد حدث بالفعل: عندما قرّر هتلر قتل اليهود”.

بالنسبة إلى العديد من اليهود، فإن مقارنة سلوك إسرائيل بالنظام النازي الذي نظّمَ القتل الجماعي لليهود خلال الحرب العالمية الثانية كان أمرًا غير مقبول. لهذا السبب أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بيانًا قال فيه إن “عقد المقارنات بين إسرائيل والنازيين وهتلر هو تجاوزٌ للخط الأحمر”.

ورُغم أن المرء قد يفهم ردة الفعل، إلّا أنه يتعيّن على إسرائيل ومؤيديها أن يُدركوا أنَّ جُزءًا كبيرًا من المشكلة ينبع من التقليل المنهجي لمصطلح “معاداة السامية”. إنَّ مفهومَ مُعاداة السامية، الذي ارتكزت عليه الإبادة النازية لليهود، والتي ربما كانت أعظم جريمة في التاريخ، يُستخدَم بشكلٍ متزايد كسلاحٍ سياسي لاستهدافِ مُنتقدي إسرائيل. وبهذه الطريقة، فَقَدَ تدريجًا مصداقيته كمُصطَلَح، لأنه في ضوء الرعب الأعظم الذي خّلفته المحرقة (الهولوكوست)، كان يُنظَرُ إلى معاداة السامية دائمًا على أنها شيءٌ يتجاوز السياسة بشكلٍ فاحش.

في الأجواء المُستَقطِبة بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وُصِفَ منتقدو إسرائيل بشكلٍ روتيني بأنهم “مُعادون للسامية” من قبل أنصار إسرائيل، وحتى مفاهيم مثل “الانتفاضة” أُعيدَ تفسيرها بشكلٍ غير مبرر على أنها دعوة إلى الإبادة الجماعية لليهود. وفي مثل هذه البيئة السامة، لن يمتنعَ أحدٌ عن إدانة إسرائيل بسبب ذبحها للفلسطينيين لمجرّد تجنّبِ المُصطَلح الذي حملته إسرائيل سياسيًا لمواصلة أجندتها ضد الفلسطينيين. وفي بادرة التحدّي هذه، ضاعت تمامًا أي فكرة صحيحة عمّا تعنيه مُعاداة السامية.

إنَّ هذه المعركة حول معاداة السامية تعكس صَدَعًا أعظم بكثير أحدثته حرب غزة. على العموم، كان الاتهام بمُعاداة السامية أكثر فعالية في الدول الغربية منه في ما يمكن أن نطلق عليه “الجنوب العالمي”. ذلك لأنَّ المحرقة (الهولوكوست) كانت ظاهرة غربية إلى حدٍّ كبير، وهناك رغبة في الخلاص منها لا حدود لها. ويعود السبب أيضًا إلى أنه في العديد من البلدان خارج أوروبا، يُنظَرُ إلى إسرائيل على أنها ظاهرة استعمارية. وفي هذا السياق، تحوّلت حرب غزة إلى خطٍّ حاد يفصل الغرب، وبخاصة النخب الغربية، عن بقية العالم. والأهم من ذلك، إنها تبرز باعتبارها لحظة أساسية في تعريف وتأكيد الذات لـ”الجنوب العالمي” وقواه الناشئة ضد الغرب.

بطبيعة الحال، ليست كل بلدان “الجنوب العالمي” على الموجة عينها. فقد دعمت الحكومة الهندية إسرائيل، في حين منعت أيضًا المظاهرات المؤيِّدة للفلسطينيين، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى الانقسام الفلسطيني-الإسرائيلي الذي يبدو وكأنه يعكس الانقسام بين الهندوس والمسلمين، وقد يؤدي إلى إحياء المشاعر الانفصالية في كشمير. ومع ذلك، فقد وافقت الهند مع الأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) الفائت على التصويت لصالح وقفٍ فوري لإطلاق النار في غزة.

وفي بلدانٍ مثل البرازيل وجنوب أفريقيا (وحتى الهند حتى وقت ليس ببعيد)، ظلت القضية الفلسطينية تحظى بالصدى والإهتمام. الانفصال بين موقف جنوب أفريقيا، التي اتهمت إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية، ورفض إدارة بايدن المتغطرسة لهذه الخطوة المشروعة باعتبارها “لا أساس لها من الصحة [حيث] لا يوجد أساسٌ لاتهامات الإبادة الجماعية ضد إسرائيل”، كانت له قيمة رمزية كبيرة. وحتى عندما أظهر القرار المؤقت لمحكمة العدل الدولية، على أقل تقدير، أن هناك أساسًا موثوقًا لمثل هذا الاتهام، ظلت الولايات المتحدة تصرّ على أنه “لا يوجد مؤشّرٌ إلى أننا رأينا ما يؤكد صحة ادعاء نية أو عمل إبادة جماعية من قبل قوات الدفاع الإسرائيلية”.

مثل هذه الخلافات حول سلوك إسرائيل بين “الجنوب العالمي” وكثيرين في الغرب، وبخاصة النخب السياسية الغربية، ولّدت تأثيرَين متناقضين. من ناحية، بعض الحكومات الأوروبية التي هرعت إلى جانب إسرائيل بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ابتعدت منذ ذلك الحين من الوحشية المُطلقة في ردّ فعل الدولة العبرية. على سبيل المثال، تدعو فرنسا الآن إلى “وقفٍ دائم لإطلاق النار” في غزة وتُطالب ب”تدفُّق هائل للمساعدات الإنسانية”. وفعلت المملكة المتحدة، التي غالبًا ما تكون تابعة للولايات المتحدة، الشيء نفسه في التاسع عشر من شباط (فبراير)، حيث طالب وزير الخارجية ديفيد كاميرون “بوقف القتال الآن”، بدلًا من تأييد الهجوم الإسرائيلي المخطط له ضد مدينة رفح المكتظّة بالسكان.

وتدرسُ الحكومة البريطانية الآن أيضًا الاعتراف بالدولة الفلسطينية قبل التوصّل إلى أي اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول قضايا الوضع النهائي في المفاوضات لإنهاء صراعهما. ويُنظَرُ إلى النهج البريطاني على نطاقٍ واسع على أنه مُرتَبِطٌ بنيّة الولايات المتحدة للقيام بالشيء نفسه، الأمر الذي أغضب الحكومة الإسرائيلية. تشعر الولايات المتحدة بشكل متزايد بعدم الارتياح تجاه ازدواجيتها في صراع غزة، حيث تدفع من أجل وقف إطلاق النار لتحرير الرهائن الإسرائيليين وتقليل الخسائر البشرية الفلسطينية بينما تستمر أيضًا في تزويد إسرائيل بالأسلحة.

من ناحية أخرى، كان تأييد العديد من الحكومات الغربية لسلوك إسرائيل سببًا في خلق الشعور لدى بلدان “الجنوب العالمي” الناشئة مثل البرازيل وجنوب أفريقيا لتحدّي هيمنة الغرب على الشؤون الدولية. من خلال اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، رفع الجنوب أفريقيون قضيتهم إلى مؤسسة قضائية دولية كانت لواشنطن علاقات مختلطة معها، حيث لا تحب الولايات المتحدة الخضوع للقانون الدولي عندما قد يشكّل ذلك تحديًا لمصالحها السياسية. وبالمثل، لم يصادق الأميركيون قط على نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، لأنهم، على حد تعبير مستشار قانوني سابق لوزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي، كانوا قلقين من “منح المدعي العام للمحكمة الكثير من السلطات” بدون رادع أو رقابة، ويمكنه إجراء محاكمات ذات دوافع سياسية للجنود الأميركيين.

كما دفعت الحرب في غزة العديد من الدول التي سئمت حق النقض الذي تتمتع به الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي إلى اللجوء إلى الجمعية العامة من أجل زيادة الضغط من أجل وقف إطلاق النار. ورُغمَ أنَّ قرارات الجمعية العامة ليست مُلزِمة، ورُغم أن الهيئة كانت لفترة طويلة تُعَدُّ بمثابةِ فيلٍ أبيض دولي، فقد تحوّلت بنجاح في الأشهر الأخيرة إلى ثِقلٍ أخلاقي موازن لمجلس الأمن الدولي الذي وصل إلى طريقٍ مسدود، وهو الثِقلُ الذي يعكسُ رأي الأغلبية العالمية. وقد أظهر هذا عرضًا مُحرِجًا لحقيقة أنَّ عددًا كبيرًا من الدول يسعى إلى وقف إطلاق النار، في حين تواصل الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما القلائل عرقلة ذلك.

ويُشَكّلُ هذا استخدامًا مُبتَكَرًا للمؤسسات الدولية لوضع الولايات المتحدة ومؤيدي إسرائيل الآخرين في موقفٍ دفاعي. وإذا لم يكن بوسع مثل هذه المؤسّسات أن تكون فعّالة إلّا إذا أّكدت أولوية القرارات الغربية وحافظت عليها، فما هي الطريقة الأفضل التي قد تُمكّن المؤسسات الناشئة العالمية من اكتساب المزيد من الأرض من خلال تسليط الضوء على هذا الشذوذ؟

مع ذلك، قد تتغيّر الأمور قليلًا. في أواخر شباط (فبراير)، أعدّت إدارة بايدن مشروعَ قرار لمجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة للمرة الأولى، ويُحذّر إسرائيل من شنّ هجوم في رفح. لقد فعلت ذلك لأنَّ الجزائر كانت تُعِدُّ قرارًا آخر لوقف إطلاق النار، والذي استخدمت واشنطن ضده حق النقض (الفيتو) في 20 شباط (فبراير). وللرَدِّ على جوقة الإدانة المتزايدة للإجراءات الأميركية، كان على إدارة بايدن تقديم بديل ذي مصداقية.

من خلال القيام بذلك، أظهرت الولايات المتحدة أنها قادرة على استيعاب مُنتقديها. ولا يمكن تفسير مثل هذه التحوّلات إلّا من خلال حقيقة مفادها أن العديد من الدول الغربية يواجه غضبًا محليًا ودوليًا متزايدًا بشأن غزة، وبخاصة من دول “الجنوب العالمي”. فالخسائر في صفوف الفلسطينيين في ارتفاع، ويُحرَمُ سكان غزة من الكميات الكافية من الغذاء، وهو ما وصفته منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم” بعبارات صارخة: “إن إسرائيل تُجَوِّع غزة”.

اتّخذت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة موقفًا غير معقول بشأن سلوك إسرائيل في الأراضي المحتلة. لقد بدأت بتقويض قرار الأمم المتحدة الذي يُطالب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها في حزيران (يونيو) 1967. ثم أمضت عقودًا من الزمن في تمويل إسرائيل بما يصل إلى مليارات الدولارات سنويًا، في حين سمحت للأفراد والمنظمات الأميركية بتمويل المستوطنات غير القانونية. وأخيرًا اعترفت بضم إسرائيل للقدس الشرقية ومرتفعات الجولان خلال سنوات حكم دونالد ترامب، وهو قرارٌ يتعارضُ مع القانون الدولي والمواقف الأميركية السابقة.

لقد ألحق هذا الإرث الكثير من الضرر بالادّعاء بأنَّ الولايات المتحدة تلعب دورًا قياديًا في السعي إلى تنفيذ نظام دولي قائم على القواعد. في بعض الأحيان يحدث هذا، ولكن في كثير من الأحيان لا يحدث ذلك، والواقع أن الأميركيين بذلوا جهودًا حثيثة في كثير من الأحيان لإضعاف المؤسسات الدولية التي يعتبرونها تهديدًا لسلطتهم. ومع حدوث عملية إعادة تنظيم عالمية، فلن يكون الأمر سيئًا إلى هذا الحد، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، أن نسمح لدول أخرى بأن يكون لها دورٌ أكبر في مستقبل المنطقة. وقد يكون طريقهم مُمَهَّدًا بعددٍ أقل من النوايا السيئة.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى