الدولة التي ترتكز على الدين ليست للمصلحة العربية
بعدما إنتشر الحكم المدني في البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية والحصول على الإستقلال، فإن إستشراء الفساد والمحسوبية والظلم قد أدى إلى فشلها ونمو الإسلام الإسلامي وولادة تنظيمات تكفيرية تهدف إلى تغيير الأنظمة المدنية والحلول محلها. ولكن، هل الحكم الذي يرتكز على الدين هو لمصلحة العرب؟ أم الدولة المدنية هي الأفضل على الرغم من فشلها في المرحلة السابقة؟ الدكتور داود خيرالله، أستاذ القانون في جامعة جورجتاون في واشنطن يحاول الإجابة عن ذلك في التحليل التالي:
بقلم الدكتور داود خيرالله*
يعاني العالم العربي من إضطرابات أمنية ودمار في الحجر والبشر، في مجتمعات هي من أكثر المجتمعات عراقة في التاريخ. ولعلّ أخطر ما يعاني هو التمزّق في النسيج الإجتماعي نتيجة نمو وإنتشار الهويّات الطائفية والمذهبية الذاهبة بوحدته ومناعته. وهو يعيش حالة تخبط وضياع ووهن يشجّع الخصوم على إزدرائه ويثير شهية الطامعين للتلاعب بمصيره.
تتسم أنظمة الحكم العربية القائمة بغياب مقوِّمات ومؤسسات الدولة التي تضمن أمن المواطن وتسهّل وتحقق ظروف نموّه وتطوّره، وبهوّة بين الحاكم والمحكوم لا تنفكّ تزيد عمقاً وإتساعاً. هوّةٌ يلعب إستشراء كاسح لآفة الفساد دوراً مهماً في تعميقها وتوسيعها. فمن الصعب أن نجد في دولة عربية حاكماً يمثّل طموحات ومصالح شعبه ويستمدّ شرعية حكمه من إرادة شعبية تجلّت من خلال مؤسسات دستورية تتوافر فيها ضمانات الحرّية والنزاهة. ويعيش العالم العربي تقلّصاً لمفهومِ الحرّية الذي يشجّعُ على تنمية العقل العلمي والثقة بقدرة الانسان ليس فقط على فهم مجتمعه وإنما على علاج علله وتطويره. ولذلك نرى أنّه على الرغم من توافر إمكانيات إقتصادية هائلة، تبقى مجتمعات العالم العربي من أقلّ المجتمعات تنمية إقتصادية، ومؤسساته العلمية والسياسية والإجتماعية من أكثر المؤسسات تخلّفاً.
هناك ما يبرر النقمة الشعبية العارمة، والرغبة الملحّة في الإصلاح السياسي والمؤسساتي السائدة في معظم، إن لم يكن جميع، المجتمعات العربية التي أصبحت دولاً مستقلّة. فالدولة الحديثة، والتي تُعرَف بالدولة القومية وتتميّز بالحكم ذي الركائز المدنية، قد فُشلت في أن تمدّ لها جذوراً في أيّ من هذه الدول، وإن إختلفت درجات الفشل من دولة الى أخرى. فمن الصعب الإثبات أن مقوّمات الدولة الحديثة، من مشاركة شعبية فعلية في الحكم، وإنتشار ثقافة حكم القانون، بما في ذلك إلتزامُ مبدأ فصل السلطات، وإحترام الحقوق والحريّات الأساسية، هي من سمات الحكم في أية دولة عربية. وأزعم أن الفساد، وخصوصاً الذي رافق تنامي الثروة النفطية وتوظيفها في الإستيلاء على النفوذ السياسي، وشراء الذمم، وإستغلال الفقر والجهل لدى شرائح واسعة في المجتمعات العربية، قد ساهم بشكل فعّال في إفشال مؤسسات الحكم الرشيد وتعاظم النقمة الشعبية وتوسيع الهوّة بين الحاكم والمحكوم.
ونلاحظ أنّه مع تنامي الثروة النفطية، الذي بدأً من أوائل سبعينات القرن الماضي، أخذ ما يُعرَف بتيّار الإسلام السياسي ينمو، وخصوصاً برعاية بعض الدول المصدّرة للنفط، أو كردّة فعل على الفساد والظلم السائدين في هذه الدول. ومع نموّ الإسلام السياسي، أخذ الخطاب القومي العربي بالإنحسار والأفول. صحيح أنّ الدول المصدّرة للنفط في الجزيرة العربية لم تكن يوماً من أنصار أو مؤيدي الخطاب القومي العربي، ولكنّ المسؤوليةَ عن تقلّصِ هذا الخطاب تعود بالدرجة الأولى للأخطاء والتجاوزات الجسيمة التي إرتكبتها الأحزاب والحركات القومية، وفي طليعتها ما إرتكبه حزب البعث الحاكم في كلٍّ من سوريا والعراق. كما أن الخطاب القومي الذي بلغ درجة متقدّمة من النضج في فترة التحرر من الإستعمار وبناء دولة الإستقلال، تراجع وتقلّص في العقود الأربعة الماضية لهزالة وتقصير حامليه، إن لجهة تطويره أو النجاح في نشره، فضلاً عن محاربته دوليّاً وإقليمياً وعربيّاً.
إزاء التململ الشعبي والنقمة على الظلم والفساد، يعلن الناشطون من حَمَلَة خطاب الإسلام السياسي، أن ما تعاني منه المجتمعات العربية، لا علاجَ له سوى بالعودة الى ما يعتبرونه إلتزاماً بأحكام الشريعة، والإنعتاق من معايير الدولة الحديثة في الحكم التي هي دخيلة على الثقافة والمعتقدات العربية، ويعملون بوسائل مختلفة لتحقيق ذلك. فمنهم من يحمل خطابا تكفيريّا متزمّتاً ويرى الحلَّ في العنف والتخلّص من كل من لا يشاركه الرأي ويعلن له الولاء. ومنهم من هو أقلّ تطرّفاً في العمل على إلغاء الآخر ولكنّه يرى في إلتزام ما يعتبره إرادة إلهية في الحكم ضرورة واجبة.
بناء على ذلك، سوف أحاول، في ما يلي، أن أتفحّص ملاءمة كل من نظام الحكم ذي الركائز الدينية، ونظام الحكم ذي الركائز المدنية والتي يتحمّل الإنسان مسؤولية كاملة في إختيارها، لما أعتبره مصلحة عربية، وهي بالدرجة الأولى المصلحة في الوحدة داخل المجتمع التي هي الأساس في قوّة المجتمع، وأمنه ومناعته، والمصلحة في التنمية الإقتصادية التي تنعكس خيراً على الإنسان والمجتمع، وأخيرا تحقيق المشاركة الشعبية في الحكم بشكل يمكّن الانسان العربي من تفعيل جميع طاقاته الإنتاجية والخلّاقة، أي بلوغ درجة راقية من الحكم الديموقراطي.
نظام الحكم الديني
إنّ الشريعة، كما يراها أصحاب النظرية التقليدية من الفقهاء، هي إرادة الله المنزَّلة، وهي سابقة للدولة الإسلامية وموجِّهة للمجتمع الإسلامي ولا تتوجّه به. والوحي المُنزل هو الحقيقة بتمامها، وهو صالح لكلّ زمان ومكان، وللخليقة جمعاء. لذلك فإنّ القواعد المُلزِمة التي مصدرها الشريعة لا يمكن تبديلها حسب تبدّل الوقائع والظروف. ويرى دعاة المذاهب السَلَفية أنّ الواقع يقيّم بالنسبة إلى النموذج المثبت في الوحي القرآني. ولذلك على السلطات السياسية والأفراد أن يعبّروا عن إيمانهم بجهودهم الدائمة في إنسجام ما يقومون به من أعمال مع الوحي القرآني.
فالوحي القرآني يُعتبَر حقيقة أبدية ثابتة غير قابلة للتعديل، وتطال كافة مرافق الحياة. فهي وسيلة الله لحكم العالم. ويعتبر أبو العلاء المودودي، وهو فقيه باكستاني كان له تأثير كبير في حَمَلَة الخطاب الأصولي، إنّ سيادة الله على سلوك الانسان تحرم الإنسان من حرّية الإرادة.
بالمقابل، فإنّ هناك عدداً من الفقهاء والمفكّرين الإسلامين العصريين الذين يرفضون النظرية التقليدية. فهم يعتبرون أنّ لدى الشريعة من المرونة ما يجعلها قابلة للتكيّف مع المستجدّ من الوقائع والأحداث. فأصحاب النظرية الحديثة من الفقهاء يعتبرون أنّ إرادة الله لم يُعَبّر عنها إطلاقاً بشكل جامد وشامل كما يزعم أصحاب النظرية التقليدية. ولكنّها أتت بشكل مبادئ عامة فيها من المرونة ما يجعلها قابلة للتأويل والتطبيق بما يتلاءم مع المتبدّل من الظروف والأحوال.
هناك إختلاف جوهريّ بين ما يقول به دعاة وحَمَلَة النظرية التقليدية في الفقه، وما يقول به أصحاب النظرية الحديثة. لكنّ ما جرى ويجري في العالم العربي، وبخاصة الإنتشار الواسع للفكر الوهّابي والحركات الأصولية والدعم المادي والإعلامي المتوافر لهذا النشاط، ولا ننسى الدور الذي لعبته وتلعبه باكستان في ذلك وخصوصاً رعايتها لطالبان، كل ذلك لا يوحي بإنحسار النظرية التقليدية لصالح النظرية الحديثة.
جميع الأديان هي من المكوّنات الثقافية المهمّة في المجتمعات التي تعتنقها. فالدين يخلق نماذج هي ليست إنعكاساً للواقع وإنّما نماذج لتكييف الواقع. وهذه نماذجُ لا يمكن إختراقُها بالتجارب الحسّية وإنما فقط من خلال التأويل والتفسير. والدين يحتوي مفاهيم عامة للوجود هي جوهرية بالنسبة إلى المؤمن في جماعة دينية معيّنة.
وبما أنّ المفاهيم والرموز الدينية لا يمكن إختراقها وفهمها من طريق إخضاعها للتجارب الحسّية والعلمية، وإنّما من خلال التأويل والتفسير، فإننا نرى دور الإنسان في تكييف المفاهيم الدينية وإخضاعها لمحدودية فهمه، على الأقلّ في ما يتعلّق بتأثير الدين في السلوك البشري وخلق الثقافة الإجتماعية. فمن غير المعقول، مثلاً، أن يكون الإختلاف وأحياناً التناقض في التأويل والتطبيق للمفاهيم الدينية والحقائق القطعية التي تدّعيها مختلف المدارس الفقهية والفرق الدينية، من سلفية تكفيريّة تجيز قطع الرؤوس وسبي النساء وتدمير معالم الحضارة، الى تلك التي ترى في الإسلام الدين السمح الرحوم الذي أنزل هداية للإنسانية جمعاء، هي جميعها إنعكاس لإرادة الله الواحد الأحد في ما أنزل. وأن تكون جميع المذاهب السنّية والشيعية وجميع الفرق الدينية التي تدّعي الإسلام، على ما بينها من إختلاف وتناقض، هي التعبير الدقيق عن مشيئة الخالق في فهم ماهيّة الإسلام. وما يقال في الإسلام ينطبق على المسيحيّة تاريخيّاً وربما بشكل أشدّ. فالحروب الدينية بين فرق دينية إدّعت المسيحية الحقّة دمّرت أوروبا لعقود طويلة، وقضت على أجيال من شبابها ولم تنتهِ إلّا بعد إتفاقية وستفاليا، في القرن السابع عشر، التي ساوت في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، بقطع النظر عن إنتمائهم الطائفي، ووضعت حدّا لتدخل السلطات الدينية في شؤون الحكم.
ما تجدر ملاحظته في الخطاب السياسي الذي يستظلّ الدين هو أنّ الإنسان يلعب دوراً أساسياً في تقرير وظيفة الدين في حكم المجتمع، لكن خلافاً لما هو الحال بالنسبة إلى مسآلة ومحاسبة وإقالة صاحب القرار في الحكم المدني، فإنّ حامل الخطاب السياسي الديني، مهما كان محدود القدرات الفكرية، كثير الأخطاء والأضرار في ما يدعو إليه، فإنّه يعطي خطابه قدسيّة ونفسه عصمة من الخطأ وحصانة من المسآلة. فهو ناقل لمشيئة الله عزّ وجلّ.
ولعلّ من أكبر التحدّيات التي تواجه حَمَلَة خطاب الحكم ذي الركائز الدينية، في مجتمع تعددت فيه المذاهب والطوائف وينشد الوحدة بين جميع مكوّناته البشرية، هو التوحّد حول تصوّر محدّد ومتفق عليه للقواعد والمبادئ والتشريعات التي يجب إختيارها لحكم المجتمع. إن الفئات التي تحمل الخطاب الديني وتعارض الواقع الكاسح للحكم المدني في العالم العربي، والذي أصبح من سمات الحكم في العالم أجمع، إنّما تعاند واقعاً بإسم تراث مناقض للواقع وسابق له. لا بأس هنا بالعودة، ولو بإقتضاب شديد، الى منشأ الحكم المدني في العالم العربي لنكون على بيّنة من الواقع الذي نحن فيه ونبغي علاجه.
الحكم المدني في العالم العربي
حتّى منتصف القرن التاسع عشر، كان العالم العربي يغطّ في سبات عميق علميّاً وسياسياً وحضاريّا، وكان في معظم أقطاره جزءاً تابعاً للسلطنة العثمانية خاضعاً لأدوات الحكم فيها التي أساسها سلطة إستبداديّة مطلقة تربطها بجسمها علاقة تقرير وإلزام مطلقين، وهذا لا يناقض ما قالت به غالبية الفقهاء الاسلامييّن.
والسلطنة العثمانية، وحتّى أنظمة الخلافة الأخرى التي عرفها العرب، قبل أن يخرج الحكم من أيديهم، هي سلطة ذاتية لا تعرف الديمومة إلاّ لرأسها أو تسلسل رؤسائها بالأصالة أو بالتغلّب. أمّا أدواتها اليومية كالوزراء والحجّاب فهم طارئون معرّضون في كل لحظة للتسريح من الخدمة أو القتل.
التحوّل المهم الذي حصل لصالح الحكم المدني في المناطق العربية الخاضعة للحكم العثماني جاءت به دولة التنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر. فدولة التنظيمات تختلف عن جميع أنظمة الحكم السابقة لها بأنّها رمت الى إختراق المجتمع وهدفت الي تحويله تبعاً لأفكار الدولة الحديثة ذات الهيمنة الثقافية والصلة السياسية بمواطنيها، وكانت وسيلتها في تنفيذ هذه المهمّة إدخال إصلاحات جوهرية في مجالي التربية والقانون وعلى أسس جديدة خارجة عن سلطة ما سلف من مؤسسات قام عليها أرباب الهيئة القضائية الدينية.
وقد كان لاحتكاك نخبٍ عربية بالفكر السياسي الأوروبّي، والمؤسسات العلمية والقانونية الأوروبّية، أثر مهم جدّا في ما عرف بعصر النهضة العربية، وفي عمليّة التحوّل التي رافقت عمل دولة التنظيمات وخصوصاً في مجالي التعليم والقانون. وبما أنّ القانون هو من أفعل وأرقى وسائل التغيير السياسي والإجتماعي، فقد كان للتحوّل القانوني والقضائي في ظل دولة التنظيمات، دور مهم جدّاً في إدخال قيم ومؤسسات الدولة الحديثة وتهميش سلطة المؤسسات الدينية.
فقد ظهر ذلك في إنشاء جهاز قضائي مستقلّ وخارج عن سلطة الهيئة القضائية الدينية، وفي تبنّي قوانين أساسية ذات أسس منفصلة تمام الإنفصال عن علم وإجتهاد الهيئة الدينية وتراثها. وكانت هذه القوانين في كثير من بنودها تختلف، وأحياناً تتناقض، مع أحكام الشريعة.
فقد أخذ قانون العقوبات العثماني للعام ١٨٤٠، (الذي إعتمد قانون العقوبات الفرنسي بصورة رئيسية)، كأحد مصادره الأساسية بمبدأ “لا جريمة ولا عقوبة بلا نص”. ثم ألغى عقوبة الرجم في الزنى، وقطع اليد في السرقة، وألغى الردّة كجريمة، متيحاً، ولأول مرة في تاريخ الاسلام، إحدى الضمانات اللازمة لتقرير الحرّيات الأساسية.
ولعلّ التحوّل الأهمّ لمصلحة الحداثة والحكم المدني، الذي حصل في ظلّ دولة التنظيمات، هو التطوّر الأساسي الذي أُدخل على برامج التعليم والتربية وذلك في بناء المدارس ودور العلم، وفي إدخال العلوم الطبيعية والرياضيات وسواها من المواد نقلاً عن برامج المدارس ودور العلم الأوروبية، وهي موادٌ لم يكن لها وجود في برامج التعليم في العالم العربي التي كانت في مجملها تتمحور حول تدريس اللغة العربية والعلوم الدينية.
وقد أورثت دولة التنظيمات فاعليّتها الحداثية لما تلاها من دول في فترات الإستعمار والإنتداب والإستقلال، وكانت التربية والمؤسسات القانونية من الأدوات الأساسية في عقلنة وعلمنة الحياة تحت رعاية الدولة، مدفوعة بمنطق يسم جميع الدول الحديثة. فجاءت الدولة العربية بعد الإستقلال مدنيةً بإمتياز، على الرغم من أن بعض الدساتير قد نصّ على كون الإسلام دين الدولة، ولم يكن لهذا النص أي واقع فعلي أو تأثير مهم.
ليس العالم العربي مرتَهَناً بالتجربة الأوروبية، وإن كانت محرّكة للتاريخ الحديث. وهو ليس ملتزماً حدود تجاربها التاريخية. لكنّه جزء من مشروع تاريخي كوني يتجاوز حدود الغرب. مسيرة التاريخ الكوني آيلة الى عقلانية مدنية. ومسيرة التاريخ الإجتماعي والثقافي العربي محكومة بهذا المسار، على الرغم من الصراعات الطبيعية التي تستثيرها هذه المسيرة مع القوى التي ترى مصلحة لها في إستغلال الدين والمؤسسات الدينية.
لقد إخترقت الثقافة العقلانية المدنية، من خلال دولة التنظيمات وما تلاها وأخذ عنها من دول، المجتمع العربي التقليدي. وما قام به محمّد علي في مصر من تطوير وتحديث لكافة مؤسسات الدولة، جدير بالملاحظة والإهتمام من قبل كلّ من يرغب الاطلاع على الدوافع والإنجازات التي حققها تبنّي مؤسسات وقيم الدولة الحديثة. وكان كلّ ذلك تعبيراً عن التفوّق الحضاري والتاريخي لثقافة الدولة الحديثة على ثقافة المجتمع التقليدي، ولإرتقاء تنظيماتها على تنظيماته، ولتقدّم عالميتها علي محلّيته، ولمواءمة مرجعيّتها الفكرية والعلمية لتطوّر العصر.
وقد كان لكلّ ذلك أثرٌ مهمٌ في الحقبة الوطنية ودورِها في التحرّر من الإستعمار الأجنبي، والتي إمتازت بثقافة مدنية علمانية، فإنتشرت مبادئ سياسية ليبرالية وقومية مع بوادر إنتشار للماركسية، وإنتشر الإهتمام بكافة العلوم والأبحاث العلمية.
الخطاب القومي العربي
والجدير بالذكر هو أنّ إبّان فترة التحرر من الإستعمار، لم يكن التطرّف الإسلامي هو الخيار التلقائي والطبيعي للعرب والمسلمين. بل إنّ الخطاب القومي هو الذي كان سائداً والقوميّون هم الذين قادوا التجمّعات العربية الى الإستقلال، وليس الدين والحركات الدينية. كان القوميون أباء الوطنية لعقود وكانت الأنظار تتجه نحوهم. لم يكن هؤلاء القوميون علمانيين مثل مصطفى كمال أتاتورك (في تركيا)، ولكنّهم لم يلجأوا إطلاقاً الى الخطاب الديني. فدولة الإستقلال كانت مدنية الأسس والقوانين بإمتياز، وكانت كذلك حاضنة للحرية الدينية وحامية لها. ونحن اليوم نرى العالم العربي يتخذ وجهة تراجعية معاكسة للتاريخ، فيها خروج للثقافة الدينية عن هامشيتها التاريخية في القرن العشرين، ومحاولتها تبوّؤ مواقع مركزية في السياسة والثقافة العربية وإستثناء ما عداها، ومنها تحوّل الدولة عن موقع التفوّق على المجتمع التقليدي، الى موقع القيادة نحو التخلّف وربط الثقافة العربية الجديدة بالإسلام النفطي ووسائل إتصاله وإعلامه الضخمة. ويقيني أنّ نموّ الإقتصاد الريعي، الحليف الأساسي في تنمية آفة الفساد، يلعب دوراً أساسياً في الدفع إلى هذا المنحدر.
يقول عزيز العظمة، وأشاركه الرأي، “ليس الإرتهان بالمواقف الإسلامية نادراً في تاريخنا الحديث، ولو كان متنامياً في السنوات الأخيرة بفضل أصداء الإسلام السياسي، فهو في أغلب الأحوال مرتبط إرتباطاً أكيداً بإستقالة العقل التاريخي: فالعقل التاريخي أساس كلِّ ترقٍّ، وعنصرٌ بنيويٌّ جوهري لإقامة مجتمع معاصر”، (العلمانية من منظور مختلف ص 310).
أرجو أن لا يخامر أحداً شك في إحترامي وتقديري للأديان جميعاً، وبخاصة الدين الإسلامي. فأنا لا أرى علّة في الإسلام أو في سواه من الأديان إطلاقاً، وإنما في الذين يستغلّون الدين ويأوّلون تعاليمه، قولاً وسلوكاً، بما لا يعود بخير على المسلمين وغير المسلمين، وفي أحيان عديدة بما يشوّه صورة الإسلام في أذهان عقلاء البشر.
فكما أنّ للدين تأثيراً بالغاً في سلوك الإنسان وتكييف الثقافة الإجتماعية، كذلك للإنسان تأثير مهم في تظهير الصورة، وتقرير الدور الذي يلعبه الدين في المجتمع. فالمجتمعات الحيّة المبدعة تنعكس في دين حيّ مبدع، والمجتمعات التي لا حياة فيها تنعكس في دين لا يتطوّر، ويثور على كلّ تطوّر. فلو نظرنا الى منشأ الفرق السلفية التكفيرية، والتي تعتمد العنف والإرهاب وسيلة لبلوغ أهدافها، نرى أنها إنطلقت من مجتمع هو من أكثر المجتمعات العربية تخلّفاً وفساداً وتعلّقاً بتقاليد بدائية على الرغم من الثروة الطائلة والإمكانات المادّية الهائلة التي تتمتع بها. وهي من أقلّها قبولاً بالمشاركة الشعبية في الحكم، وإحترام حقوق الانسان، وإرساء قواعد العدالة ومؤسسات وقيم الحكم الديموقراطي. والفرق التكفيرية هي وسائل تمزيق للنسيج الإجتماعي العربي، ومن موانع الوحدة التي فيها قوّة المجتمع ومناعته. يمكن أن نلاحظ بدقّة أنّ الخطاب الديني السياسي يتناقض مع الخطاب القومي العربي لإختلاف جوهري حول مفهوم الأمّة في الخطابين. ولأنّ نموذج المجتمع القومي والدولة القومية مبني على فرضيّة أنّه يشكل أمّة تجمعها قواسم مشتركة وقيم ولغة تبرر وجودها كدولة مستقلّة، فإنّ من أهمّ مميزات الخطاب القومي هو العمل من قبل حَمَلَة هذا الخطاب، وكذلك سياسة الدولة القومية، على تنمية هويّة تشدّ اليها جميعَ شرائحِ المجتمع، وخلقِ ثقافة مشتركة تربط جميع المكوّنات الإجتماعية. فعندما تكون بعض عناصر الدولة القومية غير متوافرة بشكل جازم لدى بعض الشرائح الإجتماعية، ماقد يؤثّر على وحدة المجتمع وتطوّره، تلجأ الدولة القومية الى تبنّي سياسات تضمن توافرها، كأن تفرض برامج خاصة لتعليم اللغة، أو فرض مناهج موحّدة في مراحل التعليم الإبتدائي وسواها. بينما علّمتنا التجارب في العالم العربي أن إنتشار الخطاب السياسي الديني يَنزِعُ الى تفكيك المجتمع الى طوائف ومذاهب وأديان تودي بوحدته وتغري الأطراف الخارجية ذات المصالح المعادية للمصلحة العربية لزرع الفتن وحصاد ريعها.
والأدلّة على ذلك في الزمن الذي نعيش فيه تكاد لا تُحصى. ففي العراق لم يفعل سلاح الجوّ والقوّات الأميركية ما فعله الخطاب الديني المذهبي في تفكيك المجتمع والقضاء على وحدته ومناعته، وتمكين أطراف خارجية من بلوغ مآربها فيه. والخطاب الديني المذهبي هو السلاح الأفتك في الحرب الدائرة في سوريا وعليها.
ولو حاولنا القيام بعمليّة مسح للدول التي تعاني من إضطرابات أمنية تهدّد وحدة المجتمع وسلامته، وأمعنّا النظر في أدوات العنف والدمار الداخلية والخارجية، ووسائل التفكك الإجتماعي بوجه عام، لوجدنا ما يلي:
1) ليس بين القوى الفاعلة على الأرض، والقوى الراعية لها تمويلاً وتسليحا وتسهيلاً لمهمّاتها التدميرية، من يهدف الى، أو يدّعي القيام بما يخدم، المصلحة العربية، ناهيك بأنّ ما يقومون به فعلاً يخدم في معظم الأحيان المصلحة الإسرائيلية من دون أدنى شكّ. وتُظهر إسرائيل تقديراً لهذه الجهود فتقدّم خدماتها الصحيّة والعسكرية لإنجاح هذه الجهود.
2) يعمل معظم القوى، إن لم يكن جميعها، التي لجأت الى العنف، أكانت داخلية أم مستوردة، تحت راية دينية مذهبيّة، وتستمدّ شعاراتِها وبرامجَها من خطاب ديني مذهبيّ لا علاقة له بمطالب وأماني الشعوب في الإصلاح السياسي.
3) الدول الخارجية، وبخاصة الإقليمية، عربية وغير عربية، التي ترعى وتساعد في عملية الدمار، تقوم من خلال وسائل إعلامها الهائلة بنشر خطاب ديني مذهبي يهدف الى تمزيق النسيج الإجتماعي في الدول المعنيّة، وفي الوطن العربي على وجه العموم، وتحصر مساعداتها في التمويل والتسليح والتدريب وتجنيد الأجانب وتسهيل وصولهم إلى ساحات القتال العربية، تحصرها بالمنظمات التي تحمل خطاباً دينياً مذهبيّاً، وتعمل من أجل تحقيق أهداف مستوحاة من هذا الخطاب.
4) ليس بين القوى الفاعلة على الأرض، والتي توسّلت العنف لتحقيق أهدافها، من يدّعي العمل من أجل تحقيق أيّ من أهداف الشعوب العربية التي إنتفضت بغية تحقيق إصلاحات جوهريّة في الحكم، الذي تريده ديموقراطياً يفرض حكم القانون، ويضمن الحقوق والحرّيات الأساسية لجميع المواطنين، ويحارب الفساد بفعالية.
ونلاحظ كذلك أنّ المنظمات التي تحمل الخطاب الديني التكفيري، ومعظمها من مشتقّات تنظيم “القاعدة”، والتي تقاتل في سوريا والعراق، ترفض أي حلّ سياسي للحرب الدائرة وتؤثر الاستمرار في هدر الدم العربي والدمار ومراكمة المآسي.
من الصعب جدّا أن نجد في نشاط التنظيمات التي تحمل الخطاب الديني أو المذهبي مصلحة عربيّة في ما يتعلّق بوحدة الصفّ أو الإنصهار الإجتماعي، أكان علي الصعيد المحلّي أو القومي. حتّى التنظيمات التي قدّمت خدمات أمنية جلّى، مثل “حزب الله” الذي قام بجهود كبيرة، وقدّم تضحيات كبرى في تحرير لبنان وضمان أمنه من الإعتداءات الإسرائيلية، وعلى الرغم من أنّه لا يحمل آفكاراً تكفيرية تدعو الى إلغاء الآخر، إلّا أنّه بسبب كونه يعمل تحت راية دينية مذهبيّة قد سهّل مهمّة أطراف دولية وإقليمية ومحلّية في تأليب العديد من سنّة لبنان والعالم العربي عليه، وإستعدائه في كلّ ما يفعل، وصولاً الى تعميق الشرخ في البنية الإجتماعية اللبنانية وتوسيع الهوّة المذهبية بين سنّة وشيعة في العالم العربي.
من العلل الأكثر ضرراً في الخطاب الديني تكمن في أنّه يدفع الى تنمية هويّات فرعيّة هي من معوّقات نموّ هويّة وطنية أو قوميّة جامعة. فهو على نقيض الخطاب المدني، الوطني أو القومي، يعمل على تفكيك المجتمع. فبينما القومية بطبيعتها هي إيديولوجية ترتكز على فرضية أنّ ولاء الفرد وإخلاصَه للدولة القومية يفوق ولاءه وإخلاصه لأيّ فرد أو منظومة بشرية في المجتمع، يعمل الخطاب الديني، كما شاهدنا ونشاهد في العالم العربي، على تنمية ولاءات لتنظيمات، على شكل مذاهب وطوائف، تتقدّم على الولاء للدولة المدنية الحافظة للمجتمع بكافة شرائحه البشرية، والعاملة على أمنه ووحدته وتحقيق مصالح جميع أفراده.
والخطاب الديني لا يؤمّن حاجة المواطن العربي إلى الأمن، وهي من أهمّ الحاجات البشرية، أكان علي الصعيد المحلّي في إطار الدولة الإقليمية أو علي الصعيد القومي. بل على العكس من ذلك فهو من عوامل الشرذمة التي تذهب بقوّة المجتمع ومناعته وتضعفه في مواجهة التحدّيات الأمنية داخلية كانت أم خارجية. في حين يعمل الخطاب الوطني أو القومي، المدنيّ العقلاني بطبيعته، على جمع وتحفيز جميع طاقات المجتمع للدفاع عن جميع مصالحه الأمنية وسواها.
وما يقال عن الخطاب الديني والطائفي/ المذهبي بشأن المصالح الأمنية العربية ينطبق وربّما بشكل أشدّ علي المصالح الإقتصادية للفرد والمجتمع العربي. فالتشرذم الإجتماعي وإهمال الحلول القومية لمواجهة التحدّيات الإقتصادية هو نوع من التغرّب عن العقل والعلم وما يفرضه المنطق في بناء إقتصاد متين، حيث تستثمر جميع الثروات الطبيعية والبشرية المتوافرة في العالم العربي، وتفعّل في خدمة المواطن العربي أينما وجد.
أمّا تطلّع المواطن العربي للإنتماء الى مجتمع تُحفظ فيه الحقوق وتمارس الحريّات الأساسية من قبل كل مواطن، مجتمعٌ يشعر فيه الإنسان أنّه سيّدُ مصيره، قادرٌ على إطلاق طاقاته الخلّاقة نحو التطوّر العلمي في وطنه، ومفاخرة الأمم الأخرى، وفرض إحترامه عليها جميعاً. فما علمنا وشهدنا من قول وسلوك دعاة الخطاب السياسي الذي يستظلّ الدين يؤكّد لنا أن ما يدعو إليه ليس الطريق الى ذلك. ولا بدّ لنا من مواكبة المسار العالمي في التطّور العلمي والإجتماعي والسياسي، وإلتزام منهج عقلاني تاريخي في التفكير.
ليس الهدف أن ننسى الدين أو المذهب أو الطائفة التي ننتمي إليها، ولكن يجب علينا أن ننظر بدقّة أكبر إلى من نحن في ضوء الواقع الذي نعيشه. وبالنظر إلى ما نعاني وما نحن فيه، تبرز أسئلة عدة هي لا شكّ في ذهن الكثيرين منّا: كيف سيكون المستقبل؟ هل سيكون إستجابة لآمالنا أو تحقيقاً لما نعاني من كوابيس؟ هل سيكون صنيعة الحرّية المستنيرة أم إنتاج ظلامية العبوديّة والجهل؟ هل سنبقى أسرى غرائز بدائية ويبقى العقل معطّلاً فينا والربط بين الجهد والنتيجة مغيّباً في حياتنا؟ إعتقادي الراسخ هو أنّ المستقبل ليس مكتوباً علينا، وإنّما هو المستقبل الذي نستحقّ، أي المستقبل الذي نصنعه نحن.
• دكتور داود خيرالله هو أستاذ في القانون في جامعة جورجتاون في واشنطن
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.