تركيا تعطِّش السكان والأراضي في سوريا والعراق لتطوير زراعتها!

فيما الحرب الأهلية تأكل الأخضر واليابس في سوريا والعراق تستغل تركيا الأمر للإفادة من تدفقات نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من أراضيها لتنمية زراعتها وإرواء عطش مواطنيها، حيث بنت 3 سدود عليهما حتى الآن، وتخطط لبناء 1700 سد إضافي داخل البلاد ضمن خطة سمتها “غاب”، والتي يمكن أن تؤدي إلى عطش السكان والأراضي الزراعية في بلاد الشام والرافدين، وبالتالي قد يهدد الأمر بحرب مياه بين العرب والأتراك.

 بغداد: يعتمد أفقر أحيائها على الصليب الأحمر للحصول على مياه الشرب
بغداد: يعتمد أفقر أحيائها على الصليب الأحمر للحصول على مياه الشرب

تحقيق شارك فيه من أنقرة بسام رحال، ومن بغداد محمد العمري، ومن دمشق محمد الحلبي

لاحظ خبراء الجيوليوجيا أخيراً بأن حوض نهري دجلة والفرات، الذي يغذّي سوريا والعراق، بدأ يجف بشكل سريع. إن هذه المنطقة الشاسعة تكافح أصلاً لدعم عشرة ملايين شخص على الأقل من النازحين من الصراعات. وقد تزداد الأمور سوءاً في وقت قريب؛ لقد وصل العراق إلى نقطة بالغة الخطورة … إنه في أزمة.
لفهم العواقب، لا ينبغي النظر إلى أبعد من سوريا. على الرغم من أن الإجهاد المائي ليس بالتأكيد السبب الوحيد للصراع هناك، فإنه بلا شك قد ساعد على تأجيج الحرب الأهلية. بحلول العام 2011، أدى فشل المحاصيل الزراعية بسبب الجفاف إلى نزوح ما يصل الى 1.5 مليون مزارع والتخلي عن أراضيهم. وقد أصبح هؤلاء لاحقاً منبعاً للتجنّد والتجنيد في “الجيش السوري الحر” ومجموعات إسلامية متطرفة مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وتنظيم “جبهة النصرة” التابع لتنظيم “القاعدة”. وتشير الشهادات التي جمعها صحافيون وناشطون في مناطق النزاع أن عدم الإهتمام المطلوب من الحكومة وتقديم الدعم والمساعدة خلال فترة الجفاف كانت عاملاً محفّزاً رئيسياً في التمرّد المناهض للنظام في دمشق. وعلاوة على ذلك، أظهرت دراسة 2011 بأن معاقل المتمرّدين اليوم في حلب ودير الزور والرقّة كانت من بين المناطق الأكثر تضرّراً من فشل موسم المحاصيل.
بعبارة أخرى، لقد غيّر الجفاف المشهد الإقتصادي والإجتماعي والسياسي لسوريا. كما أن العراق الذي يعاني فعلياً من تنظيم “داعش” والتوتر الطائفي، يمكن أن يكون البلد المقبل.

العطش في سوريا

قبل إندلاع الإحتجاجات المناهضة للحكومة في سوريا في العام 2011، كان المراقبون على إدراك بالآثار الخطيرة التي يمكن أن يشكلها فشل المحاصيل الزراعية. في العام 2006، توقّعت برقية مسرّبة من وزارة الخارجية الأميركية تلقّتها من سفارتها في دمشق أن “أزمة المياه الناشئة في سوريا تحمل في طياتها إحتمالات تذبذب إقتصادي شديد وحتى إضطرابات إجتماعية وسياسية”. وكانت هذه البرقية بمثابة تحذير واضح لما هو آتٍ.
على الرغم من خسارته 1.6 مليون طن من الحبوب لتنظيم “داعش” وإستهلاك 2.5 مليوني طن أكثر مما يمكن أن ينتج، يخطّط العراق لكي يصبح مصدِّراً للحبوب بحلول العام 2017. ويعكس هذا بشكل وثيق طموح سوريا في برقية 2006 الأميركية. في تلك الفترة، أعربت دمشق عن أملها في زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي كجزء من خطة التنويع الإقتصادي. وكانت سوريا قد ضاعفت بالفعل الأراضي المروية في السنوات ال 15 السابقة، وقد توقّعت خطتها الخمسية في 2006 حدوث زيادات أخرى. في البرقية الأميركية، لاحظ مسؤولو السفارة أن خبراء الزراعة يعتقدون بأن الطلب على المياه المتزايد في بلاد الشام يفوق المياه المتوفّرة.
ربما كان يمكن التحكّم بالتوسع الزراعي في سوريا لو كان قادراً على تطبيق الكفاءة في أساليب الري. لدعم الخطة الخمسية، خططت دمشق لزيادة الري بالتنقيط بسرعة وإتباع طرق أخرى أكثر كفاءة، ولكن ثبت أنها كانت طموحة جداً. وأشارت برقية وزارة الخارجية الأميركية إلى أن الخبراء الزراعيين حذّروا من أن المزارعين سوف يواجهون صعوبات في التكيّف بسرعة مع التكنولوجيا الجديدة. وقد أثبت الأمر أن ذلك كان صحيحاً. والأسوأ من ذلك، أنه بمجرد تم تنفيذ الخطط فقد تعرضت سوريا لجفاف شديد.
بحلول العام 2011، كانت غلّة القمح إنخفضت بنسبة تزيد على 50 في المئة، وكثير من المواشي في البلاد قد نفق، الأمر الذي أثّر في حياة مئات الآلاف من العمال الميدانيين والمزارعين. وكان مخزون القمح للطوارئ قد نفد بدوره، لذا بالنسبة إلى البعض، فإن الخيار الوحيد المتبقي كان الإنضمام إلى المتمرّدين، كما كتب الصحافي الأميركي توم فريدمان في “نيويورك تايمز”.
الواقع أنه إذا كان كل ذلك يبدو مثيراً للقلق، فينبغي النظر في وضع أكثر خطورة؛ فبحلول العام 2025 فإن حوض نهري دجلة والفرات يمكن أن يواجه ثماني مرات أكثر من الضغط مما كان عليه في العام 2011. وبحلول العام 2040، فإن مياه هذين النهرين العظيمين قد لا تصل إلى البحر.
إن الوضع سيكون مقلقاً بما فيه الكفاية لو كان ببساطة نتيجة لتغيّر المناخ الذي لا يمكن عكسه، والذي هو عامل رئيسي. ولكن هذا الواقع لا يروي كل القصة. هنك سبب رئيسي آخر يكمن في إحتكار المياه والحصول عليها من جانب واحد من قبل تركيا، التي تعد موطناً لمنابع نهري دجلة والفرات، على حساب 60 مليون شخص على مجرى النهرين. إن الدور الذي تلعبه أنقرة في ما يتعلق بالأمن المائي في العراق وسوريا مقلق جداً، ولكن خلافاً لتغيّر المناخ، إن الأمر على الاقل يشكّل مشكلة يمكن معالجتها في المدى القريب، ويجب أن تحصل، قبل وقوع الضرر على النسيج الزراعي والإجتماعي في العراق ويصبح في وضع لا يمكن عكسه.

حرب المياه؟

بين عامي 1975 و1991، هددت سوريا والعراق تركيا في ثلاث مناسبات بعمل عسكري (وعند نقطة واحدة هددت إحداها الأخرى) بسبب إنخفاض تدفقات الأنهار جرّاء السدود في تركيا. وقد توقفت المفاوضات فيما بدأت العلاقات بين الدول تتقلّب. ومنذ ذلك الحين، وضع تغير المناخ والنمو السكاني ضغطاً شديداً على المياه العذبة الإقليمية، مما زاد من تأثير بناء السدود في النهرين.
اليوم، قلّل سد أتاتورك الذي أقيم على نهر الفرات التدفقات الإجمالية إلى العراق بمقدار الثلث، ومن المتوقع أن يخفّض مشروعا السدين “إليسو” و”سيزر” على نهر دجلة من تدفق المياه بنسبة 50 في المئة أخرى. وبعد تصاعد الإنتقادات لمشروع “إليسو”، منعت النمسا، وألمانيا، وسويسرا ضمانات قروض التصدير الخارجية التي تمنحها لبناء المشروع، ولكن أنقرة مع ذلك مضت قدماً في تنفيذه.
من ناحية أخرى، إن التنفيذ الكامل لمشروع جنوب شرق الأناضول التركي الطموح المعروف ب”غاب” (GAP)، الذي يهدف إلى إستغلال أنهار تركيا للري وتوليد الكهرباء في جنوب شرق الأناضول، يمكن أن يقلّل من تدفق نهر الفرات إلى العراق بنسبة 80 في المئة. الآن، من المعروف أن العراق يعتمد على نهري دجلة والفرات لأكثر من 90 في المئة من مياهه العذبة، وبناء على ذلك يمكن تخيّل التداعيات المحتملة لمشروع “غاب” على الإنتاج الزراعي في بلاد الرافدين.
في حين كانت المملكة العربية السعودية وروسيا قادرتين على التوسط لتهدئة التوترات بين الدول الثلاث في سبعينات القرن الفائت، فإن التحدي اليوم هو أنه لا توجد قوى دولية أو إقليمية قادرة أو على إستعداد لإجبار هذه الدول على العمل معاً. وفقاً لمبادرة التضامن مع المجتمع المدني العراقي، توجد نحو 40 مذكرة تفاهم عُقدت بين العراق وتركيا حول تقاسم المياه في ذروة الجفاف في العام 2009 والتي لم تؤدِّ إلى أي تقدم ملموس تقريباً.
على الرغم من أن الإتفاقات القائمة بين سوريا وتركيا توفّر 500 متر مكعب في الثانية، حيث تذهب 46٪ منها إلى العراق، فإن التدفقات في الصيف يمكنها أن تكون أقل بكثير. وفقاً لجاسم الأسدي، الهيدرولوجي مع جمعية “طبيعة العراق”، فإنه في الوقت الذي يصل الفرات إلى الناصرية في جنوب العراق، فإن المدينة بحاجة إلى 90 متراً مكعباً في الثانية كحد أدنى للإستخدام البلدي والصناعي والزراعي. في بعض الأحيان، يمكن أن يكون التدفق منخفضاً إلى حد 18 متراً مكعباً في الثانية، لذلك ليس من المستغرب أن نرى الأهوار تنحسر بسرعة. قبل بناء السد الكبير في سبعينات القرن الفائت، كان متوسط تدفق المياه في نهر الفرات حوالي 720 متراً مكعباً في الثانية. الآن هو حوالي 260 متراً مكعباً فيما هو يدخل العراق.
في كربلاء، العراق، أصيب المزارعون باليأس، ويفيد بعض المعلومات بأنهم يفكرون في التخلي عن أراضيهم. أما في بغداد، فتعتمد أفقر الأحياء على الصليب الأحمر للحصول على مياه الشرب. في بعض الأحيان، يقوم الصليب الأحمر بتزويد أكثر من 150،000 ليتر يومياً. جنوباً، إن الأهوار في وسط العراق، التي تعتبر أكبر الأراضي الرطبة في منطقة الشرق الأوسط، تختفي مرة أخرى بعد إعادة غمرها بعد إطاحة صدام حسين. في شبايش، وهي بلدة في الأراضي الرطبة قمنا بزيارتها أخيراً، رأينا الأبقار والأسماك تموت وتنفق ببطء. حالياً، تدعم الزراعة 60،000 شخصاً على الاقل هناك. هؤلاء ومئات الآلاف غيرهم يواجهون صعوبات كبيرة بسبب إستمرار إنخفاض موارد المياه.
شمالاً، إن عدم الإستقرار، الذي يرجع جزئياً إلى الإنهيار الزراعي، يعني أن قطاعات واسعة من الفرات وسدوداً عدة كبيرة هي الآن تحت سيطرة تنظيم”داعش”. كما أن إنخفاض تدفق المياه من السدود ووسائل ري غير كفوءة يعنيان بأن الموارد المائية هي في مستويات كارثية. وإعادة تنشيط الصراع بين حزب العمال الكردستاني وقوات الأمن التركية، الذي تمدد إلى سوريا وكردستان العراق، يعرض مستجمعات المياه في دجلة والفرات إلى مزيد من الخطر. حتى أن حزب العمال الكردستاني هدّد بضرب السدود التركية. لذا إذا إستمر هذا الوضع على ما هو عليه، قد يصبح القرار السياسي المستدام مستحيلاً.

سدود الأنهار

يكافح القطاع الزراعي في تركيا، كما الأمر في العراق وسوريا، مع جفاف مستمر. في موسم الحصاد في 2013 – 2014، أنتجت البلاد 3.35 مليون طن من القمح، والذي إنخفض إلى 2.52 مليوني طن في 2014 – 2015. إن الأمطار التي هطلت هذا العام أكثر غزارة من المتوقع تُرجِمت إلى زيادة متوقعة بنحو 130،000 طن في موسم النمو في 2015 – 2016 إلى ما مجموعه 2.62 مليوني طن. وسيتم تصدير الكثير من ذلك، حيث سيحمل مليار دولار إلى قطاع الزراعة الذي يبلغ حجمه 60 مليار دولار.
مثل المزارعين في كل مكان فإن المنتجين الأتراك يصارعون ويواجهون الجفاف والأمراض والأوبئة وعدم كفاءة الري (الذي تسعى أنقرة إلى تغييره، خصوصا مع مشروع “غاب”)، والحصاد يمكنه أن يختلف بشكل كبير. كما في أماكن أخرى في المنطقة، فقد تخلّى بعض المزارعين عن أراضيهم. ولكن فيما تحوّل بعض أنحاء العراق إلى اللون الرمادي الرملي في صور الأقمار الإصطناعية فإن مناطق في تركيا أصبحت أكثر إخضراراً. في الواقع، على عكس بقية دول المنطقة، فإن تركيا لا تواجه حالة طوارئ بالنسبة إلى الأمن المائي على المستوى الوطني.
السدود التركية، التي يوجد منها أكثر من 140 سداً، لديها سعة تخزين أكثر بكثير من تلك التي في المصب. وعندما يتم الإنتهاء من مشاريع السدود التركية الجديدة في السنوات القليلة المقبلة، سيتم ري مساحة إضافية تقدر ب1.2 مليون هكتار داخل تركيا — أي بزيادة ثماني مرات المساحة المروية الموجودة اليوم. وهذا يعني أن تركيا ستمضي قدماً في خططها لمضاعفة صادراتها الزراعية ثلاثة أضعاف تقريباً.
وفقاً لمؤشر الإجهاد المائي “بفيستر” (Pfister)، فإن بلاد أتاتورك تواجه ضغطاً معتدلاً في مجال المياه، وقد صنفها بمعدل 0.779 من أصل واحد. فيما أفاد بأن العراق وسوريا تواجه ضغطاً هائلاً وصنفهما على التوالي ب0،974، وب0،999. ووفقاً لبيانات العام 2011، فقد صُنِّفت تركيا في المرتبة 46 عالمياً في مجال توافر المياه العذبة – وهي مكانة ليست جيدة، ولكنها أفضل من 76 التي نالها العراق أو 126 التي حظيت بها سوريا. وبالمثل، وفقاً لبيانات البنك الدولي، لدى تركيا ما يقرب من ثلاثة أضعاف نصيب الفرد من توافر المياه في العراق وعشرة أضعاف من نصيب الفرد في سوريا. كما أن تركيا في وضع أفضل للإستثمار في إستخدام أكبر كفاءة للمياه، مع ناتج محلي إجمالي يفوق ثماني مرات تقريباً نظيره في العراق.
نظراً إلى الوضع الصحي الأفضل نسبياً في مجال توافر المياه في تركيا، كان الإعتقاد السائد سابقاً بأن أنقرة ستتوقف عن بناء السدود على حساب مصب جيرانها. بدلاً من ذلك، فقد فعلت العكس، حيث خططت لإنجاز 1700 سد جديد داخل حدودها.
عند الضغط عليهم وتوجيه أسئلة محرجة إليهم، فإن المسؤولين الأتراك يجيبون بأن خطط الحكومة مُبرَّرة، نظراً إلى أن بلادهم أيضاً تعاني الجفاف. ويشيرون بسرعة، علاوة على ذلك، إلى أن عدم كفاءة إستخدام المياه في العراق وسوريا هو جزء من المشكلة. ومن الصحيح القول أن العراق يهدر الكثير من الماء، ولكن هذا في الغالب نتيجة لسوء البنية التحتية وعدم كفاءة الري — إرث عقود من الحرب والديكتاتورية. في الوقت عينه، إن الضرر الذي أوقعه “داعش” في البنية التحتية للنفط وتحلّل محطات معالجة الصرف الصحي التي تلوّث ماء الشرب القليل هناك، والأعداد الكبيرة للآبار الخاصة التي حُفرت خلال العقد الأخير من الحرب أضرّت بجهود الحفاظ على المياه.
بإختصار، يحتاج العراق إلى مساعدة، لا إلى إنتقاد وتوبيخ. ومع ذلك، إذا كان يريد التوصل إلى إتفاق مُنصف مع أنقرة، يجب أن يبرهن على وجود إلتزام مستمر بحلول متكاملة للكفاءة في إستخدام المياه.

ما يجب القيام به

هناك أمل في حل الصراع على المياه بين تركيا والعراق وسوريا. إن مفاوضات سابقة يمكن أن تقدم بعض الدروس. بدأ الأردن وإسرائيل مفاوضات سرية (والآن معلنة) حول نهري الأردن واليرموك منذ خمسينات القرن الفائت. وكانت هذه المحادثات ناجحة نسبياً لثلاثة أسباب:
الأول هو إشراك وسطاء دوليين. في العام 1987 خططت عمان ودمشق بناء سد على نهر اليرموك، ولكن تل أبيب إحتجت على ذلك. وبما أن الأخيرة كانت قامت بمهاجمة موقع البناء السوري للسد في العام 1967، فقد عرف جميع الأطراف أن الأمور قد تتصاعد بسرعة. لذا طلب الأردن وإسرائيل من الولايات المتحدة المساعدة، فأرسلت الأخيرة ريتشارد أرميتاج، الذي كان مساعداً لوزير الدفاع، للتوسط. وقد تم إنشاء الأساس لإجراء مزيد من المحادثات، وفي نهاية المطاف وقّع الجانبان العديد من الإتفاقات، وآخرها كان الترتيب بالنسبة إلى مياه البحر الأحمر والبحر الميت، الذي ينص على تعهد لبناء قناة من شأنها أن توفّر المياه الصالحة للشرب إلى الأردن، وإسرائيل، والاراضي الفلسطينية؛ ويؤدي إلى إستقرار منسوب مياه البحر الميت؛ وتوليد الكهرباء.
الدرس بالنسبة إلى تركيا والعراق وسوريا واضح: ينبغي أن تكون أميركا والإتحاد الأوروبي مستعدين للتدخل للتوسط. على سبيل المثال، وضع الإتحاد الأوروبي جانباً أكثر من مليار دولار سنوياً في شكل مساعدات “ما قبل الإنضمام” لتركيا حتى العام 2020، والولايات المتحدة قد إستخدمت لفترة طويلة التعاون الأمني مع تركيا لكسب النفوذ في السياسة الأوسع. وفي الوقت عينه، أظهرت حكومة حيدر العبادي في العراق مراراً وتكراراً بأنها أكثر إستجابة لطلبات واشنطن حتى الآن مما كانت عليه حكومة نوري المالكي، ونجح كل من تركيا والعراق بالتقارب ديبلوماسياً بسبب الحرب ضد “داعش”. لذا هناك مجال من أجل النفوذ البنّاء.
العامل الثاني هو الكفاءة. كلٌّ من الحكومتين الإسرائيلية والأردنية إستثمرت وشجعت إستخداماً أكثر كفاءة للمياه، حيث حدّ ذلك من التوترات بين البلدين عندما كان يحل الجفاف الشديد، كما كان الأمر في العام 1999. وفي حالة النظام النهري للفرات ودجلة، تتشارك الدول الثلاث الكبرى على طول حوض النهرين في ممارسات زراعية غير فعّالة للغاية، ولا تبذل محاولات كافية لتحسين الأمور. وبالنظر إلى الصراع في سوريا، فمن غير الواقعي أن نتوقع أي تحسينات هناك، ولكن تمكنت تركيا زيادة الري بالتنقيط والعراق يجب أن يفعل الشيء عينه.
إن أي خطة عراقية لزيادة الكفاءة تتطلب الإستثمار المتواصل في أحدث التقنيات، من الري بالتنقيط إلى رسم خرائط التضاريس عالية الدقة وحصاد المياه. وبالنسبة إلى تحلية مياه البحر، في حين أنها نظرياً ستصل إلى 400،000 من سكان البصرة في العام 2017، فهي تعمل حالياً على نطاق واسع في البلدان التي لديها ناتج محلي إجمالي أكبر حجماً من ناتج العراق (أوستراليا، إسرائيل، الإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة). والاستثناء الوحيد هو الأردن، على الرغم من أن مشروع التحلية المقبل هو مشروع إسرائيلي-أردني-دولي مشترك.
ثالثاً، إنشاء لجان مياه مشتركة، مع تمثيل فيها لخبراء من كل البلدان المعنية، أمر ضروري لحسم قضايا تقاسم المياه. في حالة الأردن وإسرائيل، هذه اللجان قاربت التسوية من خلال اللقاء على أرض الواقع في نهر اليرموك في جلسات عرفت ب”محادثات مائدة النزهة” (picnic table talks)، والتي مهدت الطريق لمفاوضات رفيعة المستوى في واشنطن في أوائل تسعينات القرن الفائت. لقد دعت المعاهدة النهائية للسلام بين البلدين في العام 1994 صراحة إلى تعاون دولي للإشراف على تقاسم موارد المياه.
لدى العراق وسوريا لجنة مشتركة. ولدى سوريا وتركيا واحدة أيضاً. ولكنهما لا تتمتعان بقدر كاف من السلطة من قبل الحكومات الوطنية، كما أن الحرب الأهلية السورية وإستيلاء “داعش” على الموارد المائية الواسعة عقّدا مهمتهما. ومع ذلك، فإن لجان مشتركة للمياه هي منصة يمكن أن تكون فعالة للتعاون المحلي والوطني والدولي، وللعمل مع المؤسسات الأكاديمية والبحثية ومجتمع الأعمال، والمنظمات غير الحكومية في عمليات إدارة المياه.
بسبب الوضع في سوريا، فمن الضروري أن تأخذ تركيا والعراق زمام المبادرة في إحياء هيكل لجنة المياه المشتركة. على الرغم من أن تركيا تتحكم في منابع نظام نهري دجلة والفرات كما تتأرجح العراق على حافة أزمة كبرى بسبب المياه، فإن العلاقات السياسية بين البلدين يمكن القول بأنها أقل سوءاً الآن مما كانت عليه خلال العقد الماضي، وأزمة المياه المتفاقمة تخلق دفعة وحاجة إلى إعادة تنشيط الإجتماعات الثلاثية التي كانت تجري في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت. وقد تُوِّجت هذه الاجتماعات في معاهدة أضنة بين سوريا وتركيا في العام 1998، التي تضمن 500 متر مكعب من المياه في الثانية لبلاد الشام.
في جولة جديدة من المفاوضات، يمكن للعراق- ربما بإعانات أجنبية – أن يوافق على شراء بعض من الطاقة الكهرومائية من تركيا، في مقابل المزيد من المياه من الأخيرة. وفي الماضي، تبادل العراق وتركيا الغاز مقابل الكهرباء، لذلك مثل هذه الخطة لديها سابقة. إن مخططاً للتعاون في مجال تبادل المياه مقابل الطاقة يتطلب مستوى عالياً من الوساطة الخارجية والتنسيق الدولي.
يمكن للأمم المتحدة وضع بعض الضغوط على الطرفين. في العام الماضي، دخلت إتفاقية الأمم المتحدة لقانون الإستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية حيِّز التنفيذ مع توقيع 35 دولة عليها. لكن الذي كان مخيباً للآمال هو أن بعض الدول في معظم المناطق المُجهَدة مائياً في العالم لم يوقع عليها، بما في ذلك تركيا. ومع ذلك، فإن بلاد أتاتورك هي من الدول الموقِّعة على إتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، التي تنص على أن الدول يجب ألا تقيِّد حق الطفل في الحصول على الغذاء والماء (المادة 24). كما أنها أيضاً من الدول الموقّعة على الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد منحت هذه المعاهدة حق الإنسان في الماء. ينبغي على المجتمع الدولي تذكير أنقرة بتلك المسؤوليات، حتى وهو يقوم بالضغوط على بغداد لإستخدام المياه بأكبر قدر من الكفاءة. وعلى وجه الخصوص، يستحق الوضع بدفع العراق إلى التخلص التدريجي من الري بالغمر. وهذا يتطلب تركيزاً هائلاً، وحملات واسعة، وإستثماراً في التكنولوجيا الجديدة.

سباق المياه

بالنسبة إلى العراق، هذا هو سباق مع الزمن. إن الجدوى الإقتصادية في المدى الطويل في البلاد تعتمد على الحد من الواردات الزراعية وإحياء الصناعة، ويحتاج إلى الماء في الحالتين. كما إنه بحاجة إلى المياه لشعبه. وفقاً للبنك الدولي، هناك 15 في المئة من الشعب يفتقرون إلى الوصول إلى مصدر حسن للمياه. وأكثر من أي شيء، فإنه يحتاج إلى السلام — شيء يقوّضه الإجهاد المائي. في العام الفائت، تشاجرت محافظة ذي قار مع جارتها البصرة بشأن إستخدام المياه. وفي الآونة الأخيرة، إتُّهِمت الحكومة الإقليمية الكردية بقطع المياه مرة أخرى عن نهر دجلة نتيجة للنزاع على الموازنة مع بغداد.
الآن هو الوقت المناسب للمجتمع الدولي لجلب تركيا والعراق معاً لمساعدتهما على بناء إطار للتعاون بينهما في مجال المياه التي ستمكّن من تطوير الزراعة المستدامة قبل أن تنهار الموارد المائية في العراق تماماً تحت وطأة إكتناز تركيا وعدم الكفاءة في بلاد الرافدين. إن تجاهل أزمة المياه العراقية الوشيكة هو تجاهل لصدع كبير آخر في منطقة الشرق الأوسط ودفع بغداد وجيرانها إلى مزيد من الصراع على مدى عقود مقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى