لماذا يترك “HSBC” البرازيل وتركيا؟

لندن – هيكل شريف

“بنك العالم المحلي” على وشك أن يصبح محلياً أقلّ. يُجري مصرف “أتش أس بي سي” (HSBC) تغييرات لخفض التكاليف، من بينها تقليم وإغلاق الفروع في الأسواق الرئيسية وبيع كافة العمليات في الإقتصادات الناشئة. وتقول قيادة البنك أنها تضيّق أعمالها لتحسين الربحية، ولكن هناك رسالة أكبر من ذلك بكثير – وربما تطور مهم – في النهج الجديد.
لفهم قرار “HSBC”، فقد يساعد التفكير في نموذج أعماله. إن بنوك التجزئة التي تخدم المستهلكين والشركات تكسب المال في المقام الأول من خلال القروض والرسوم. لكي تكون القروض مربحة، فإن الشركات المحلية يجب أن تكون قوية، و…تنمو؛ إذا كان هذا هو الحال، فإن العملاء هم كثيرون، والطلب على الإقراض سيكون قوياً، ومعدلات التخلف عن السداد ستكون منخفضة. ويمكن للرسوم أن تتبخر مع تزايد الطلب على الإقراض، لأن البنوك في حاجة إلى الودائع من أجل تقديم القروض. ولكن بغض النظر عن حجم القروض، فإن الرسوم هي أكثر وفرة عندما يكون لدى البنوك عملاء ذوات قيمة عالية يجرون الكثير من المعاملات مع أنواع مختلفة من الحسابات.
بطبيعة الحال، يمكن للبنوك التي تتمتع بنفقات عامة أن تفرض رسوماً أقل وتضع فائدة أقل على القروض، وهذا هو السبب الذي جعل البنوك عبر الإنترنت تلتقط حصتها في السوق في السنوات القليلة الماضية. وهذا في جزء منه، دفع “HSBC” إلى تقليص حجمه وزيادة التكنولوجيا إستجابة لقوى السوق. مع ذلك، إن إعادة توجيه أعماله لها جذور أعمق من ذلك بكثير.
في العقدين الماضيين، فيما أصبح الإقتصاد العالمي أكثر تكاملاً، عرفت بنوك التجزئة نمواً دولياً. في البرازيل، رفع “HSBC” عملياته من خلال سلسلة من عمليات الإستحواذ. أولا، أقدم على شراء “بانكو باميرندوس” بمليار دولار كجزء من موجة شراء في أميركا اللاتينية في العام 1997. ثم إشترى عمليات “لويدز – تي أس بي” ب815 مليون دولار في العام 2003. وتبع البنك مساراً مماثلاً في تركيا، حيث وسّع حيازاته التي حصل عليها مع بنك ميدلاند في 1992 من خلال إستيعاب مصرف “ديمير بنك” (Demirbank) المتعثر في العام 2001.
الآن قرر “HSBC” ترك السوقين. ذلك أن البلدين اللذين كانا عزيزين على قلوب المستثمرين تراجع إقتصاداهما في الآونة الأخيرة ودخلا في أزمة. في البرازيل، بدأت التدفقات الهائلة من رأس المال التي جاءت تبحث عن ملاذ آمن خلال الأزمة المالية العالمية تجف، مع تعثر الإقتصاد بنسبة كبيرة بسبب الفساد والبيروقراطية. في تركيا، أعقب إرتفاعٌ مماثل في النمو خلال عامي 2010 و2011 سلسلة من خيبات الأمل. هذا العام، يبدو أن الاقتصاد التركي – الذي شعر بالبرد من حملة حزب العدالة والتنمية المستمرة على الحريات الأساسية – قد ينمو بنسبة أقل من 2 في المئة، مع أخذ التضخم في الإعتبار.
بإختصار، وضع “HSBC” رهانات طويلة الأجل على نمو الإقتصادات الناشئة الكبيرة، والآن بعض تلك الرهانات خسرت وبدأ سحبها من على الطاولة.
لكن لم تكن معدلات النمو في البرازيل وتركيا فقط هي التي إقتطعت ربحيتها من الأعمال المصرفية – كانت أيضاً كيفية توزيع هذا النمو.
كان المسار الإقتصادي في البرازيل ملحوظاً، باعتبارها واحدة من عدد قليل من البلدان التي كانت قادرة على العولمة في الآونة الأخيرة من دون زيادة عدم المساواة. على الرغم من أن تصاعد الموج قد يرفع كل القوارب، فإن تصاعد موجة العولمة قد رفعت بعض القوارب أكثر بكثير من الآخرين؛ إنخفض الفقر، ولكن التغيير في ثروة الناس في الجزء العلوي من المجتمع كان أكبر من ذلك بكثير. في البرازيل، إستطاعت إعادة توزيع الثروة الدؤوبة التي أقدمت عليها حكومات لويس إيناسيو لولا دا سيلفا وديلما روسيف، رغم جميع أخطائها، تحقيق تسوية تُعتبر تاريخية لتوزيع الدخل. في تركيا، أصبح عدم المساواة في الدخل أقل أيضاً مما كان عليه الأمر عندما قام “HSBC” بإستحواذاته الكبيرة.
في كلا هذين البلدين، كان هناك عدد كبير من الزبائن المُحتمَلين ل”HSBC” أكثر من أي وقت مضى. المشكلة هي أنهم ليسوا من العملاء المربحين كثيراً. لقد بدأ هؤلاء الناس لتوِّهم تسلق السلم الاقتصادي لذا فهم لا يحتاجون إلى الكثير من الخدمات الخاصة، ومدّخراتهم صغيرة بحيث أن حساباتهم غالية الثمن نسبياً بالنسبة إلى خدمة لبنك للحفاظ عليها؛ إن معظم البنوك تفضّل إدارة حساب واحد بقيمة 100،000 دولار بدلاً من 100 حساب قيمتها 1000 دولار. وعلاوة على ذلك، مع إرتفاع أسعار الفائدة في كلا البلدين، فإن الإقتراض من البنوك صار إقتراحاً صعباً بالنسبة إلى معظم الشركات.
لا شيء من هذه الأمور صحيحة في الإقتصادات ذات الطاقة العالية في شرق آسيا، حيث أعاد “HSBC” الآن تركيز أعماله بعد 150 عاماً على تأسيس شركة هونغ كونغ وشنغهاي المصرفية المحدودة ووضع إسمها لأول مرة على لوحة خشبية هناك. في هونغ كونغ والصين وسنغافورة، وماليزيا، ينتعش النمو بإطراد، ومعدلات الفائدة منخفضة، وعدم المساواة مرتفع – وربما لا يزال يرتفع. الشركات الكبرى تزداد حجماً، وكذلك الخدمات التي تحتاجها والرسوم التي تدفعها – إنها جنة المصرفي.
ولكن للغرابة: قد تكون البنوك الصينية هي التي ستستحوذ على أصول “HSBC” في الإقتصادات الناشئة. وتفيد بعض المعلومات أن البنك الصناعي والتجاري الصيني يتفاوض لشراء عمليات “HSBC” في تركيا، وشركة بنك الصين للتعمير قد تكون مهتمة في الذراع البرازيلية أيضاً.
وهذا لا ينبغي أن يشكّل مفاجأة. البنكان مملوكان من الدولة، والحكومة الصينية لديها باعٌ وأفق زمني أطول بكثير من “HSBC” أو أيّ من منافسيها. قد لا تكون البرازيل وتركيا قد نمتا بسرعة كافية أو متكافئة بما فيه الكفاية ل”HSBC”، ولكن يمكن للصين أن تنتظر حتى يحين الوقت لجني المردود. وهذا ليس مكافأة فقط،– وإنما فرصة أخرى أيضاً للصين لنشر نفوذها من طريق ملء الثغرات التي يتركها لاعبون في الأسواق الرئيسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى