ألقابٌ لبنانية تحت المِجهَر

السفير محمد الحركة*

يُولد الإنسانُ طفلاً باكياً لمُغادرته رحم أمّه الدافئ، وقدومه إلى عالمٍ مليءٍ بالمُفاجآت. سرعان ما يمنحه ذووه، أو من يعتني به، اسماً غالباً ما يُلازمه طوال حياته. غير أن المسألة لا تتوقّف عند هذا الحد. إذ تُضافُ الى الاسمِ في رحلة الحياة، ألقابٌ مُتعدّدة وفق الانتماء العائلي أو المهني أو الاجتماعي: فهو أمير، أو شيخ، أو بيك…  وأحياناً يَحتفظُ باسمه فقط، بدون أيّ لقب، إذا كان أحد عظماء زمانه، تصغر أمام اسمه الألقاب كلّها.

لا يشذّ لبنان عن قاعدة منح الألقاب. علماً أنه قد ورث عدداً منها من العهد العثماني والانتداب الفرنســي. كما تَلازَمَ بعض الألقاب مع أسماءِ عائلاتٍ كان لها دورها في تاريخ لبنان. لم يأتِ التشريع اللبناني في القانون على منح أية ألقابٍ لمَن يتبوّأ المناصب العليا في الدولة. وتضمّنت الألقاب السياسية في معظمها كلمات إجلال مثل “الفخامة” و”الدولة” و”المعالي” و”السعادة”… أما رجال الدين فكانت من نصيبهم ألقابُ “الغبطة” و”السماحة” و”الفضيلة”… تهدف هذه الألقاب كلّها إلى التعبير عن الاحترام، أو التذكير الدائم بأن الشخص المعني باللقب له نفوذه ومكانته. مما يفسر الحرص على التمسّك بها، بدون انتهاء مدّتها مع مرور الزمن.

كثيراً ما تتضخّم الألقاب أو تضمُر وفق قبول المجتمعات بها. تزداد كلمات المديح والتبجيل في المجتمعات التي تُعاني اقتصادياً. وتختصرُ الألقاب إلى أدنى مستوياتها في المجتمعات المُكتفية ذاتياً، باستثناءِ تلك المُتَسَرِّبة من تاريخ الأمم. ويحدث أحياناً أن تجنحَ إلى مُبالغاتٍ لافتة. سوف أعكف في كلمات وجيزة على مراجعة بعض الألقاب في لبنان عبر وضعها تحت مجهر التدقيق بمضمون معانيها.

أُطلِقَ لقب” الشيخ” على مَن تقدّم في العمر، أو توسّعت معرفته الدينية والفقهية، فضلاً عمّن سما بهم الشأن. كما أطلقت التسمية على مجلس الشيوخ “senate” من “Senex” اللاتينية أي الرجل المتقدّم في العمر. لكن في لبنان، توخّياً للاحترام الذي يحظى به عادة كبار السن، شمل اللقب أيضاً من كبرت ثروته ونفوذه، وعائلات تعاطى بعض أفرادها الشأن السياسي، فضلاً عمّن شاء تكريم نفسه بهذا اللقب. وبالتالي، لا بدّ من إيجاد وسيلة لضبط تمدّد معاني هذا اللقب قبل أن يشيخ، ويفقد الغاية منه.

لفت انتباهي لقب ” الرئيس الجبل” الذي أطلق على الرئيس الجنرال ميشال عون. ينطوي اللقب على مزيجٍ من المَديحِ والمُغالاة في الوقت نفسه. في الوجه الإيجابي، المقصود طبعاً أن الرئيس صلب مثل الجبل، وشامخٌ مثل علوّ الجبل، وصامدٌ أمام الأعاصير التي لا يقاومها إلّا الجبل. لكن في الوجه السلبي، غاب عن مطلق التشبيه أن الجبل ليست له أحاسيس الإنسان، ولا نبضات قلبه، وأنه جامدٌ لا يتحرّك… وكما يقول المثل: الجبل لا يلتقي جبلاً آخر، في حين أن الإنسان يلتقي إنساناً آخر. وفاتته أيضاً عبارة من القرن السابع عشر تقول: “تمخّضَ الجبل فولّد فأرا”. علما أن عالم الفيزياء الفلكية “هيوبرت ريفز” (Reeves  Hubert) قد أوضح في كتابٍ صادر في العام ١٩٨١ بعنوان “صبر في اللازوردية” (Patience dans L’azur) أنه لو حدث أن ولد الجبل فأراً، فيكون اجترح إحدى أعظم العجائب، كون الحياة قد تولدت من الجماد . كما ورد في القرآن الكريم في الآية ٣٧ من سورة الإسراء للدلالة على ضعف الإنسان: “ولا تمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبال طولا”. أما السيد المسيح عليه السلام فقد تناول ضعف الجبال أمام الإيمان مهما صغر: “فالحق أقول لكم، لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا الى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم (إنجيل متى ٢٠:١٧).

لو تسنّى لي التعبير عن رأيي لدى الرئيس الجنرال، لاقترحتُ رفض هذا التشبيه غير الواقعي، الذي لم يستعمله أحد عبر التاريخ القديم والمعاصر، وتمنّيتُ بكلِّ احترامٍ ضرورة عدم استعماله.

أما لقب “بيّ الكل” فهو بدوره ينطوي على وهنٍ واضح: إنه يعني بالدرجة الأولى، عدم التمييز بين مُواطنٍ وآخر، تماماً مثل عدم تمييز ألاب بين أبناء العائلة الواحدة. قصد مطلق اللقب التركيز على كون جميع أبناء الوطن يعيشون في كنف “الوالد العادل”. غير أن العمل السياسي لأيِّ شخص أو فريق مهما سما شأنه، له مؤيدوه ومعارضوه، كما له أحزابه وأشخاصه المميّزون. وبالتالي، من شبه المستحيل أن يشعرَ أبناء الوطن جميعا بالمساواة أمام تلك “الأبوّة”. علما أن لقب ” بيّ الكل” أو ما شابهه مثل “بيّ الوطن” (Pater Patriae) استعمله العديد من أباطرة الرومان والرؤساء في ما مضى. وسبق أن منح البرلمان التركي مصطفى كمال لقب اتاتورك “أبو الأتراك”. علماً أن رئيس الجمهورية اللبنانية، وفق المادة ٤٩ من الدستور هو” رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن”. وهل هناك أجمل من هذا الوصف؟

استوقفني لقب “دولة الرئيس” الذي يُطلق على رئيس مجلس الوزراء في لبنان. يوحي هذا اللقب أن الدولة هي ملك الرئيس. كما يمكنه أن يعني أنه رئيس الدولة. لم أجد جوابا مُقنعا لتساؤلاتي بهذا الصدد. تذكّرت قول الملك لويس الرابع عشر المأثور: ” الدولة هي أنا”. وبخاصة أنه حكم فرنسا لمدة ٧٢ عاماً.

يُطلَقُ لقب “دولة الرئيس” أيضاً على رئيس مجلس النواب في لبنان، فضلاً عن نائبه، ونائب رئيس مجلس الوزراء، وكل من تولّى تلك المناصب في السابق. إذن، وفق ما يُوحيه اللقب في وجهٍ من ألأوجه، فإن ملكية الدولة مُوَزّعة بين عدد من الأشخاص. ولا يتآكل اللقب بمرور الزمن. أنا على يقين بأن اعتماد لقب “دولة الرئيس” يهدف الى إسباغ هالة من الهيبة والاحترام، أكثر من الإيحاء بملكية الدولة. وبالتالي، أوَليسَ من المُفضّل تغيير هذا اللقب بما هو أكثر وضوحاً؟

في موقفٍ جريء، تمنى الرئيس الراحل الياس الهراوي على مجلس الوزراء في العام ١٩٩٧إلغاء الألقاب، واعتماد كلمة “السيد” في التخاطب مع جميع الرسميين. وقرّر مجلس الوزراء بموجب القرار رقم ٣٦ تاريخ ١٦تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٩٧ الموافقة على إلغاء الألقاب واعتماد كلمة “السيد” في التخاطب حيث يقال “السيد الرئيس”، “السيد الوزير”، “السيد النائب” “السيد المدير”… لكن السلطة التشريعية لم تتّخذ قراراً مُماثلاً. عاودت الحكومة اعتماد الألقاب مع انتهاء عهد الرئيس الهراوي في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٩٨. مما دفع النائبة النشطة بولا يعقوبيان- قبل استقالتها- لتقديم مشروع قانون في العام ٢٠١٨ تقترح فيه إلغاء الألقاب. وكان سبقها في المسعى النائب السابق محمد قباني في العام ٢٠١٣. بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن، أصدر مجلس الوزراء قراراً آخر رقم ٥ تاريخ ٢٢-٨-٢٠١٩ يؤكد فيه على ضرورة تطبيق القرار رقم ٣٦ تاريخ ١٦ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٩٧بشأن إلغاء الألقاب. فهل يلتزم اللبنانيون تطبيقه، أم يؤثرون البقاء أسرى ألقابٍ يصعب عليهم التخلّي عنها بقدرٍ أكبر من أصحابها؟

من هذا المنطلق، لا بدّ من التساؤل: أَوَ لا يفقد لقب “الفخامة” وهجه إذا كان الوطن مُنهاراً، يستجدي المال من دول العالم؟ وكم يبدو لقب “الدولة” هزيلاً، إذا افتقدت الدولة مُقوّمات وجودها. هل يكون الوزير من أصحاب ال “معالي” إذا هبط بلده الى أسفل لائحة الدول على مستوياتٍ عدة؟ أين السعادة بلقب “سعادة” عند نائب الأمة إذا ساوره القلق من مُحتَجّين على وجوده في مطعمٍ مع عائلته؟ وهل من سرور باق عند “سعادة” السفير إذا لاحقه وطنه، حيثما وُجد، كجرحٍ نازفٍ في قلبه؟ أية “غبطة” سوف يشعر بها البطريرك حين ينقص الإيمان الحقيقي في المجتمع، وتنحسِرُ القيم والأخلاق، ويعمّ الفساد؟ أية سماحة سوف يشعر بها المفتي إذا شاهد الجور والديجور؟ وأية فضيلة سوف ينعم شيخ بلقبها، إذا فتك الجوع بعائلات الوطن؟

لا يوضع أيّ لقب أمام اسم رئيس أقوى دولة في العالم، ويكفي القول “رئيس الولايات المتحدة الأميركية” الذي يشمل منصب رئيس الوزراء في النظام الرئاسي الأميركي. كما أن لقب “معالي وزير الخارجية والمغتربين” في لبنان هو– على سبيل المثال- سكرتير دولة للشؤون الخارجية في الولايات المتحدة الأميركية. أما رئيسة مجلس الممثلين (النواب) في الكونغرس الأميركي فهي “الناطقة” باسمه. وكم هو متواضع وجليل في الوقت نفسه لقب عظيم في المملكة العربية السعودية: خادم الحرمين الشريفين.

ما أجمل الألقاب إذا واكبتها سعادة الإنسان وأمنه في الوطن. وكم تبدو غير مناسبة، إذا عم الخراب أرجاءه، وتألّم أبناؤه سرّاً وجهاراً أمام وطأة المآسي والمحن.

أَوَ ليس ألأحرى بنا أن تتلاءم الألقاب مع التبدّلات التي عصفت بالوطن وأبنائه؟  أَوَ ليس من الأجدى أن يتناغم مضمونها مع الحداثة، حيث المساواة في الحقوق والواجبات؟ آن الأوان لتطبيق قرار مجلس الوزراء بشأن إلغاء الألقاب عمليا، وبشكل فعّال.

يُغادِرُ الإنسان هذه الحياة دامعاً، كما أتاها طفلاً باكياً. لا يحمل معه لقباً ولا مالاً أو نَسَباً. من المفيد لنا جميعاً أن تكون نظرتنا إلى الحياة، أقل بهرجة، وأكثر واقعية.

  • السفير محمد الحركة هو كاتب وديبلوماسي لبناني متقاعد.
  • يصدرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى