السياسةُ الخارجية التي يَنتَهِجُها بايدن تُعاني من ضُعفٍ كبير

كابي طبراني*

في الأسبوع الفائت، ألقى الرئيس الأميركي جو بايدن خطابًا في وقت الذروة للأمة بعد عودته مرة أخرى من منطقة حرب -هذه المرة من إسرائيل، بدلًا من أوكرانيا، التي زارها في شباط (فبراير). افتتح بايدن كلمته بالإشارة إلى أنَّ العالمَ يقف عند “نقطة انعطاف”، وقارن بين حركة “حماس” الفلسطينية، التي تخوض إسرائيل حربًا معها في غزة، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يواصل جيشه غزو أوكرانيا. وقال بايدن إنَّ كُلًّا من “حماس” وبوتين يسعيان إلى “القضاء على ديموقراطيةٍ مجاورة”، وأكد عزم الولايات المتحدة على دَعمِ كلٍّ من إسرائيل وأوكرانيا في كفاحهما، مشيرًا بصراحة إلى أنَّ أميركا “لن تنسحب”.

في اليوم التالي، وضع بايدن كلماته موضع التنفيذ، وطلب مبلغ 100 مليار دولار من الكونغرس، حيث ستذهب الغالبية العظمى من الأموال، البالغة 61 مليار دولار، إلى أوكرانيا. وسيتم تخصيص 14 مليار دولار أخرى لإسرائيل، ومئة مليون دولار للفلسطينيين، مع تقسيم الباقي على مجموعة من الأولويات الأمنية الأخرى، بما في ذلك مراقبة الحدود وموارد لمنطقة المُحيطَين الهندي والهادئ.

على الرُغمِ من أنَّ الولايات المتحدة ليست في حالة حرب، فهي الآن الداعم الأساسي لدولتين تخوضان حربين كبيرتين، ما يجعل بايدن رئيسًا لحَربَين. في الواقع، فهو أول رئيس يزور منطقتين حربيتين نشطتين. وبينما زار كلٌّ من الرئيسين السابقين جورج بوش (الإبن) وباراك أوباما العراق وأفغانستان بينما كانت القوات الأميركية لا تزال تشارك في عمليات مكافحة التمرد، فقد ظلّا داخل البيئات التي تسيطر عليها القوات الأميركية. أما الوضع في كلٍّ من أوكرانيا وإسرائيل فهو أكثر خطورة؛ لقد عرّض بايدن نفسه للخطر، ضمن نطاق الضربات الصاروخية المعادية في كلا البلدين.

في بعض النواحي، قد يكون بايدن الرئيس الأكثر تأهيلًا على الإطلاق لتولي منصبه خلال فترة أزمة عالمية. خبرته في السياسة الخارجية واسعة النطاق. فقد كان عضوًا في مجلس الشيوخ، حيث عمل لمدة 12 عامًا في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ التي ترأسّها مرتين. وأثناء عمله كنائب للرئيس في عهد أوباما، تولى زمام المبادرة في قضايا السياسة الخارجية التي تتراوح من العلاقات مع أوكرانيا، وتركيا إلى الحرب الأميركية في أفغانستان.

من المُرَجَّح أن تكونَ مثل هذه التجربة قد عزّزت ثقته في قدرة الولايات المتحدة على القيام بكل شيء: دعم أوكرانيا وإسرائيل في الحرب، واحتواء الصين، وإحباط إيران، وتنظيم وتأمين حدود أميركا، ومعالجة مجموعة من الأزمات الأمنية الأخرى التي تواجه العالم الآن. وعندما سُئل في برنامج “60 دقيقة” الإخباري الذي بثّته شبكة “سي بي أس” الأميركية في 15 تشرين الأول (أكتوبر) عمّا إذا كان دَعمُ الحربين في أوكرانيا وإسرائيل هو أمرًا أكثر مما تستطيع الولايات المتحدة تحمّله في وقتٍ واحد، أجاب بايدن بقوة: “بالله عليك! نحن الولايات المتحدة الأميركية، أقوى دولة في تاريخ العالم!”.

لكن على الرغم من ثقته هذه، فإنَّ الوضعَ الحالي قد يكون أكثر من أن يتمكّنَ حتى بايدن من التعامل معه. ليس لأنه لا يملك القدرة على فَهمِ الفروق الديبلوماسية الدقيقة واتخاذ القرارات اللازمة للتعامل مع الأزمات الدولية، ولكن بسبب السياسة الداخلية. ويتجلّى هذا بشكل أوضح في ما يتعلق بضمان وتأمين “عصب الحرب” كما يقول المثل: المال.

ببساطة، ليس من الواضح ما إذا كان بايدن قادرًا على تأمين التمويل اللازم لدعم الجهود الحربية. تُقدّمُ الولايات المتحدة أصلًا لإسرائيل مساعدات عسكرية ضخمة، وقد فعلت ذلك منذ فترة طويلة. كما إنها تقدم مساعدات كبيرة أيضًا لأوكرانيا. والآن يطلب بايدن المزيد لكليهما.

من الناحية النسبية، فإن المبالغ تافهة. بالنسبة إلى دولة بلغت موازنتها الفيدرالية 6.3 تريليونات دولار في العام الماضي، ما الذي قد يعنيه مبلغ بضعة مليارات من الدولارات؟ وكما أكدت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يَلِن أخيرًا، فإن الولايات المتحدة “قادرة تمامًا” على دعم أوكرانيا وإسرائيل معًا. لكن تمويل الحرب بالنسبة إلى دولة كبرى لا يتعلق فقط بالمحاسبة والنتيجة النهائية، بل يتعلق الأمر أيضًا –بل في الغالب– بالسياسة. والسياسة في واشنطن في الوقت الحالي لا تبدو جيدة.

لم تتمكن الغالبية الجمهورية في مجلس النواب إلّا منذ أيام من اختيار رئيس جديد للمجلس، النائب مايك جونسون، بعد أسابيع عدة من الفوضى والشلل. وبينما أعلن جونسون عن نيته تقديم حزمة المساعدة التي طلبها بايدن إلى مجلس النواب، فقد اقترح منذ ذلك الحين ضرورة معالجتها والتصويت عليها بشكلٍ منفصل. على أية حال، فمن غير المرجح أن يسعى إلى تسويات بين الحزبين لضمان إقرار التشريع.

وهذا الواقع يُعَرِّضُ التمويل لأوكرانيا للخطر بشكلٍ خاص. باستثناءات قليلة، من المُرجّح أن يستمر دعم إسرائيل في حربها بغض النظر عمّن سيتولى السلطة. في الواقع، يدعم الجمهوريون إسرائيل بشدة، وتمتد المساعدات المقدمة لها إلى عقود مضت وعبر الإدارات الجمهورية والديموقراطية.

لكنَّ المساعدات المُقدَّمة لأوكرانيا هي أحدث وأكثر إثارة للجدل. ولنتذكر أن الرئيس السابق دونالد ترامب هدّد بحجب المساعدات عن كييف أثناء وجوده في منصبه، عندما كانت أوكرانيا تخوض حربًا منخفضة الحدة ضد القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في الشرق. وفي أعقاب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، جعل بايدن من دعم كييف الركيزة الأساسية لسياسته الخارجية. للأفضل أو للأسوَإِ، ترتبط مساعدة أوكرانيا ببايدن.

من ناحية، هذه أخبارٌ جيدة بالنسبة إلى أوكرانيا، راهنًا. حتى لو لم يأذن الكونغرس بتمويلٍ جديد، فيمكن لبايدن الاعتماد على موارد أخرى للوفاء بوعده، تمامًا كما فعل ترامب لبناء جداره على طول الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. ومن ناحيةٍ أخرى، هناك أخبارٌ سيئة مُحتَملة في المدى الطويل بالنسبة إلى أوكرانيا. ولأن الدعم الأميركي لأوكرانيا يرتبط حاليًا بشكل مباشر ببايدن باعتباره إنجازه المميز في السياسة الخارجية حتى الآن، فإنه يجعله قضية حزبية، وهي قضية قد يستخدمها الجمهوريون ضده عندما يسعى إلى إعادة انتخابه في العام المقبل.

للتوضيح أكثر، لن تُصبِحَ أوكرانيا لعبة كرة قدم سياسية إذا واجه بايدن جمهوريًا معتدلًا نسبيًا في العام 2024، مثل مايك بنس ونيكي هايلي. وهما أيضًا يدعمان مساعدة أوكرانيا ضد روسيا. لكن هذا ليس هو الحال مع الجمهوريين اليمينيين المتطرفين. المرشح الأوفر حظًّا حاليًا لترشيح الحزب الجمهوري – زعيم الجمهوريين المتطرفين نفسه، ترامب– يعارض تقديم المزيد من المساعدات لأوكرانيا. وينطبق الشيء نفسه على مرشحين جمهوريين آخرين يميلون أكثر إلى اليمين، مثل حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس. من المرجح أن يؤكد كلٌّ من ترامب وديسانتيس (إذا صار أحدهما المرشح الجمهوري) خلال الحملة الانتخابية على أن دَعمَ بايدن لأوكرانيا يضرُّ بالمصالح الأميركية من خلال تحويل الموارد من أولويات السياسة الخارجية الأخرى، مثل دعم إسرائيل، أو الاحتياجات المحلية، مثل حماية الحدود الأميركية. وكما أكّدَ ترامب في إحدى فعاليات لجنة العمل السياسي التابعة لمنظمة “إيباك” (اللوبي اليهودي) في أيار (مايو) الماضي، فإنَّ “الديموقراطيين يرسلون 40 مليار دولار أخرى إلى أوكرانيا، ومع ذلك فإن الآباء في أميركا يكافحون حتى من أجل إطعام أطفالهم”.

هناكَ قدرٌ كبير من القلق داخل مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية من أنَّ الصراعين الحاليين، إضافة إلى التحدّيات الأخرى مع الصين، قد تُجهدُ الولايات المتحدة إلى ما يتجاوز قدرتها على الاستجابة. وفي الواقع، فإن بعض الذخائر الأوّلية التي تمَّ تسليمها إلى إسرائيل في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي شنته “حماس” جاءت في الواقع من المخزونات المُخَصَّصة أصلًا لأوكرانيا.

ثم هناك العامل البشري. وكما قال وزير الدفاع الأميركي السابق بوب غايتس أخيرًا لموقع “أكسيوس”: “هناك هذا القمع العملاق الموجود فوق الطاولة في “غرفة العمليات” (Situation Room) في البيت الأبيض. وكل المشاكل في العالم تنتهي في النهاية بالوصول عبر هذا القمع إلى الأشخاص الثمانية أو العشرة أنفسهم. هناك حدٌّ للنطاق الترددي الذي يمكن أن يتمتع به هؤلاء الأشخاص الثمانية أو العشرة”.

أحد هؤلاء الأشخاص هو بايدن. ومرة أخرى، إذا كان هناك رئيسٌ قادرٌ ومؤهّل للتعامل مع أزمات دولية متعددة في وقت واحد فإنه هو. لكن حتى بايدن سيجد أن التعامل مع الأمر هو أكثر من قدرته بدون أموال.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى