… والتُهمة: شغَفي بلبنان

هنري زغيب*

مع أَنني في مقالي السابق “هويتي الوحيدة: لبنان اللبناني” (أسواق العرب، السبت 21 تشرين الأول/أكتوبر الحالي) كتبْتُ بوُضُوحٍ أَن “الهوية الثابتة تعني الوطن لكنها لا تتقَوقَع فيه بل تنفتحُ دولتُه وسْعَ آفاق محيطه تَفعَل بها وتتفاعل معها في تراشُح مثمر ومفيد”… نافيًا بذلك ورافضًا كلَّ شوفينية مغْلقة وانعزالية عمياء، بقيَ مَن رأَى في مقالي انطواءً على هوية متقوقعة منعزلة عن جوارها والمحيط.

عجيب أَمرُ مَن يكون، كالجمَل الأَعوَر، لا يرى من الطريق إِلَّا جهةً واحدة دون الأُخرى.. سوى أَنِّـي لا أَني أَمام التشكيك، ولا أَتردَّد من الإِقْدام عند ترسيخ قناعاتي الوطنية.. ومَن يرى أَنني منفصلٌ عمَّا يجري جنوبًا هذه الأَيام، أَرشُقُه بأَني أُواجه الأَحداث برُسُوخ هويتي كي يحترمَني مَن يرى مواقفي من السوى.. فلا قيمةَ لي إِذا أَتيتُ الأَحداث بهوية مَهزُوزة أَو منفلشة يتناولُها السوى فيستثمرها، أَو أُناوله إِياها بضعفٍ وطنيٍّ فيستَثْمرني.. لا.. أَبدًا.. أُريد أَن أُواجه كلَّ حدثٍ، راهنٍ أَو آتٍ، بهوية لبنانية عميقة الجذور كسنديانة عندنا في الجبل تواجه العواصف بجذْع دهري وجذور عميقة، فتنكسر العواصف وتمضي، وتبقى السنديانةُ شامخةَ الهيبة لا إِلى انطواء.. هكذا أَحمل على جبيني تاجَ قناعتي بلبنان اللبناني، بها أُواجه ضعيفي الإِيمان حتى يستردُّوه، وفاقدي الإِيمان حتى يجدوه، ورافضي الإِيمان حتى يرتدُّوا إِليه، فلا تكون لنا جميعًا إِلَّا بوصلة واحدة ذاتُ وُجهة وحيدة: لبنان اللبناني، منها نتشكَّل معًا ثابتي الهوية راسخي الإِيمان، وننطلق إِلى جوارنا ومحيطنا والعالَم، فيحترمنا الجوار، ويقدِّرنا المحيط، ويَعينا العالَم وطنًا موحَّدًا متماسك الهوية والإِيمان والانتماء.

تلك هي هويتي، وذاك هو إِيماني، وذلك هو انتمائي.. أَتقدَّم في الزمن وأَنا واعٍ عطايا التراث اللبناني، والإِرث اللبناني، والفكر اللبناني، والسوسيولوجيا اللبنانية أَهلًا ومجتمعًا، وأَمضي إِلى فضاءَات العالَم أَزور هويات العالَم فنتراشح بكل ما يُغْنيني وأُغْنيه.

هويتي هي ذاتُها هوية الجيش اللبناني، والعلَم اللبناني، والأَسلاك العسكرية اللبنانية، والنشيد الوطني اللبناني، والطبيعة اللبنانية الفريدة الـهِبات، والملامح التي تشكِّل خصوصية الوطن اللبناني إِرثًا خالدًا وأَعلامًا خالدين ينتمي إليهم الوطن.

هويتي مسؤُوليتي وسيادتي لأَستاهل الوطن.. والوطن هو أَبي الذي أَحفظ منه وعنه وأُحافظ عليه، وهو ابني الذي أَحضنه بشغف.

وطني هو الذي حين أَقول “آخ” أَلتجئُ إِليه فيحميني، وحين أَقول “آه” أَعتزُّ به انتماءً فيُنْعشُني.

وطني هو الذي هُنا على ترابه المقدس، وهو الذي في كلِّ هناك مشعٌّ في العالم بأَبنائه لبنانيي الـمَهاجر اللبنانية وسْع الكوكب.

وطني هو الإِرث الذي وصلني من أَجدادي المباركين وأَحضنه تراثًا أُورثه أَبنائي لأَبنائهم.

وطني هو هويتي وجنسيتي وانتمائي ما إِلَّا إِليه، وبهذا الانتماء أَعقد شبكة علاقاتي مع مداه الحيوي العربي والإِقليمي، وبُعده العالَميّ الأَوسع.

وطني هو شغَفي به حتى الولع الساطع في شغاف قلبي، وعلى أَهداب قلمي، وعند جبين فكري، وينبض في كل كلمة أَقولها أَو أَكتُبُها، وفيه يهنأُ مصيري منهلًّا من مصيره القدريّ.

هي هذي تهمتي التي بها أُباهي: شغَفي بلبنان.. وبهذه التهمة أُواجه ما يحدث اليوم وما قد يحدُث في أَيِّ يوم.. أُواجهه بجذور هويتي العميقة، فأُشيحُ عن كلِّ ما أَراه حولي من مظاهرَ تُواجهُ الوضع الأَمني الراهن بأَزجال عنترية عابرة زائلة تملأُ البيانات اللفظية والساحات والميادين والشعارات والاعتصامات ومَطالبَ لو انها فعلًا فاعلة وتبلغ مراكز القرار لغيَّرت تاريخ لبنان الحديث.. لكنها تبقى في مُراوحة لفظية محلية لا تردُّ رصاصة واحدة من سلاح عدُوٍّ وحشٍ همجيٍّ عند جنوبنا الأَقدس، يستهين بوطننا لأَنه يرانا بدون هوية واحدة متماسكة متجذِّرة وعميقة.

بلى: من شغَفي بلبنان أَستمدُّ هويتي وجنسيتي وانتمائي، وبهذا الشغَف أُحسُّني قويًا ثابتًا، لا إِيماني ينكسر، ولا يَضعفُ شغَفي. فمن الشغَف العظيم يقوى الحب العظيم الذي يحفَظ كلَّ وطنٍ من أَيِّ تفَسُّخ، ويُنقذُه من أَيِّ اعتداء.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى