أوروبا، الاستقلالُ الأمني جِسرٌ بَعيدُ المنال
كابي طبراني*
هل يَسيرُ الاتحاد الأوروبي على الطريقِ الصحيح ليُصبِحَ مُزَوِّدًا للأمن؟ اقترَحَت المفوضية الأوروبية يوم الثلاثاء الفائت برنامجَ إنفاقٍ دفاعي مُشتَرَك بقيمة 1.5 مليار يورو. وأصدَرَ الاتحادُ الأوروبي أيضًا أوّلَ استراتيجيةٍ صناعيةٍ دفاعية في تاريخه، تُحَدِّدُ أهداف العام 2030 لزيادة عمليات شراء وتوريد الأسلحة المُشتركة.
في اليوم عينه لهذين الإعلانَين، انتقدَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدول الأوروبية لفشلها في دَعمِ أوكرانيا في حربها ضد العدوان الروسي. ووصف ماكرون أوروبا بأنّها “مُقَسَّمة إلى قسمَين بسبب الخوف والجُبن”، في حين اتَّهَمَ جُزءًا منها بالتخلّي عن الآخَر أمام “الشمولية”. ويأتي هذا في أعقابِ تصريحاتٍ أدلى بها المستشار الألماني أولاف شولتز قبل بضعة أسابيع في مؤتمر ميونيخ للأمن، والذي أعلنَ أنَّ “الأوروبيين بحاجةٍ إلى بذلِ المزيدِ من الجهدِ من أجل أمننا، الآن وفي المستقبل”. وأضاف شولتز بشكلٍ خاص: “إن استعدادنا للقيام بذلك كبير”.
إنَّ مثلَ هذه الكلمات والمقترحات القوية كُلّها جَيّدة ومُمتازة. ولكن هل يُتَرجَمُ “الاستعراضُ” إلى استراتيجيةٍ كُبرى؟ حتى الآن فإنَّ سِجِلَّ الماضي مُختَلَطٌ في أحسنِ الأحوال بالنسبة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لا يعني ذلك أنها لا تفعل شيئًا من أجل أوكرانيا. ولكن كما تُشيرُ التعليقات المذكورة أعلاه من القادة الأوروبيين أنفسهم بوضوح، إنها بحاجة إلى بَذلِ المزيد من الجُهد – خصوصًا في ضوءِ المخاوفِ بشأنِ استمراريةِ المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا حتى لو ظلَّ الرئيس جو بايدن في منصبه بعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر).
وماذا عن الاتحاد الأوروبي، وليس فقط الدول الأعضاء فُرَادَى: هل يستطيع أن يُصبِحَ مُزَوِّدًا للأمن؟ في أوائل أيام الحرب في أوكرانيا، بدا أنَّ بروكسل كانت في طريقها إلى السير على هذا الطريق. ولأوّلِ مرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي، استخدمَ آلية تمويل مشتركة لتعويض الدول الأعضاء عن المُساهَمات المباشرة في المساعدات العسكرية لأوكرانيا، كوسيلةٍ لتسهيل عمليات نقل الأسلحة. لكن هذا الزخم أصابه الركود. ورُغمَ أنَّ اقتراحَ برنامج الإنفاق الدفاعي المشترك يُشكّلُ خطوةً في الاتجاه الصحيح، فإنَّ المبالغ المعنية، رُغم أنها ليست متواضعة من الناحية الموضوعية، إلّا أنها تافهة في مجال الإنفاق الدفاعي. وعلى حد تعبير ماكس بيرغمان من مركز الدراسات الأمنية والدولية بصراحة في تقييمه لاقتراح المفوضية، فإن “1.5 مليار يورو مبلغٌ ضئيل جدًا ولن يكفي”.
فهل يُمكِنُ إحياءُ الجهودِ الرامية إلى جعل الاتحاد الأوروبي مُزَوِّدًا للأمن، بدلًا من كونه ُمستَهلِكًا للأمن يَعتَمِدُ على الولايات المتحدة؟ هناكَ أسبابٌ وجيهة للتشكّك في ذلك.
بالنسبة إلى أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين يُشَكّلونَ جُزءًا من منطقة العملة المشتركة في منطقة اليورو، فإنَّ القيودَ الرئيسة تتلخّصُ في أنَّ العامَ الفائت شهدَ ركودًا اقتصاديًا. ومن الصعبِ إنفاقِ المَزيدِ على الدفاعِ عندما يكونُ اقتصادُ دولةٍ ما راكدًا أو مُتقلِّصًا. وكان هذا هو الحال بشكلٍ خاص في الدول الكبرى في منطقة اليورو مثل ألمانيا، التي سجّلَ اقتصادُها نموًّا ضئيلًا لم يتجاوز 0,3%. ويُصبِحُ من الأصعبِ تمويلُ موازنات الدفاع عندما تقترن الضغوط الاقتصادية بالقيود المالية في الاتحاد الأوروبي التي تَفرُضُ حدودًا على الإنفاقِ بالعجز من قبل الدول الأعضاء. وكما وصف الباحث الأكاديمي الأميركي في القانون والعلوم السياسية روجيه دانيال كيليمين على نحوٍ بارعٍ معضلة الاتحاد الأوروبي، إنَّ “قواعدَ الميزانية المتوازنة والمخاطر الأمنية الوجودية لا تجتمعان”.
لكنَّ التقلّباتَ الاقتصادية تأتي وتذهب. هناكَ مشاكلٌ أكثر جوهرية تمنعُ الاتحاد الأوروبي من التحوّلِ إلى مُزَوِّدٍ مُستَقِلٍّ للأمن، وهي المشاكل التي ابتُلِيَت بها أوروبا لفترة طويلة: الانتفاع المجاني والتنسيق. وبالحديث عن الأوّل، فأنا لا أشيرُ إلى استفادةِ الدول الأوروبية أمنيًا مجّانًا من واشنطن، وهي شكوى شائعة من قبل العديد من رؤساء الولايات المتحدة، أنا أُشيرُ إلى الأوروبيين الذين يستغلّون بعضهم البعض بالمجّان.
لا يعني ذلك أنَّ الدولَ الصغيرة في أوروبا لا تُساهِمُ في الأمن الأوروبي. بل على العكس، إنَّ البعضَ يُساهِمُ بشكلٍ مُبالَغٍ فيه من الناحية النسبية. لكنه لا يستطيع تقديم ما يكفي بشكلٍ ملموس. على سبيل المثال، ساهمت الدانمارك أخيرًا بمخزونها الكامل من قذائف المدفعية إلى أوكرانيا. وهذا أمرٌ يستحقُّ الثناء، لكنه لن يفعلَ ما يكفي لتغيير مجرى الحرب. من ناحيةٍ أُخرى، فإنَّ الدولَ الكُبرى في أوروبا، وعلى وجه التحديد ألمانيا، لا تُساهِمُ بشكلٍ مستمر. وحتى هذه المستويات المُنخَفِضة نسبيًا من المساعدات هي أكثر مما تستطيع الدول الصغيرة تقديمه. لكن “إعطاء المزيد” ليس هو الهدف؛ “إعطاء ما هو ضروري” هو المطلوب. ولهذا السبب لا يُمكِنُ تحقيقُ وضع القوّة الكبرى أو العُظمى بسهولة. إنه يتطلّبُ العملَ على مستوى أعلى بشكلٍ قاطع أكثر من قوى صغرى. إنَّ الدولَ الأعضاء الكبرى في الاتحاد الأوروبي لا تفعل ذلك.
علاوةَ، فإنَّ التنسيقَ بين هذه المجموعة الكبيرة من الدول يتطلّبُ قيادة. من المعترف به جيدًا أنَّ أحدَ الحلول لمشاكل العمل الجماعي هو أن تقوم قوة كبرى بتكثيف جهودها وتقديم الحوافز للآخرين للمساهمة – وبعبارة أخرى، الهَيمَنة، مثل تلك التي تمارسها الولايات المتحدة حاليًا في حلف شمال الأطلسي. ولكن مَن ستكون القوة المُهَيمنة في الاتحاد الأوروبي؟ بوسع فرنسا أن تتولى هذا الدور؛ ويبدو أن هذا هو ما يهدف إليه ماكرون.
لكن هذا يُشيرُ أيضًا إلى المعضلة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي عندما يتعلّقُ الأمرُ بكونه مُزَوِّدًا للأمن. إذا كانت الدول الأعضاء الرئيسة في الاتحاد الأوروبي قادرةً على المساهمة على المستوى الذي يجعلها من مُقَدِّمي الأمن، فلماذا تعمل من خلال الاتحاد الأوروبي؟ لماذا لا تُقدّمُ المساعدات بأنفسها حيث تتمكّن من التحكّم في تدفق واستخدام الأسلحة التي تُقدّمها؟ وفي لغة نظرية العلاقات الدولية، لماذا التضحية بفوائد “الاستقلال الذاتي” المُتمثّلة في كونها مُزَوِّدًا رئيسًا للأمن؟
وهذا بدوره يشير إلى قضيةٍ أخرى طالما ابتُلِيَت بها محاولات الاتحاد الأوروبي ــوقبله المجموعة الأوروبيةــ للعملِ كجهةٍ أمنية مستقلة: السيادة. كانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تشعرُ بالرضا منذ فترةٍ طويلة عن كونِ بروكسل بمثابة الممثّل التجاري المشترك لها. كما إنَّ الغالبيةَ منها سعيدةٌ تمامًا بالاشتراك في عملةٍ مشتركة، اليورو.
ولكن حتى في هذه المناطق أو المجالات، فإنَّ التَوقَ إلى الحكم الذاتي السيادي يُمكنُ أن يُظهِرَ نفسه. لقد أظهرَ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أنَّ الفوائدَ الاقتصادية التي تُوَفِّرها السوق المشتركة ليست دائمًا كافية لمواجهة جاذبية القومية والرغبة في الحُكمِ الذاتي. وإذا كانت القوميّةُ قادرةً على جَعلِ الدولة تغارُ من استقلالها الذاتي على الرُغمِ من الفوائد الواضحة للسيادة الاقتصادية المُجمَعة، فإنه يبدو من قصرِ النظر التوقّع أنّها لن يكونَ لها أبدًا التأثير عينه في ما يتعلّق بالعنصرِ الأساس لسيادة الدولة: السيطرةُ الاحتكارية على أدواتِ العنف في الشؤون الدولية.
الحقيقة أنَّ الدول الأوروبية حاولت مرارًا وتكرارًا صياغةَ هويّة عسكرية مُوَحَّدة، إلّا أنها فشلت مرارًا وتكرارًا. قبل بضع سنوات فقط، باءت دعوة ماكرون لإنشاء “الجيش الأوروبي” بالفشل. وقد انهارت محاولةُ إنشاءِ مُجتمعٍ دفاعي أوروبي في الخمسينيات الفائتة بسببِ مزيجٍ من التعنّت الفرنسي والتصوّرات الأوروبية الأوسع بأنَّ حلف شمال الأطلسي جعل مثل هذا الكيان غير ضروري.
وكما كَتَبَت أستاذة العلاقات الدولية في معهد “هيرتي” ومديرة مركز الأمن الدولي مارينا هينكي هذا الأسبوع: “عندما يتعلّقُ الأمرُ بالتخطيط الاستراتيجي الطويل الأجل، فإنَّ أوروبا كلّها مُخَيِّبة للآمال”. وأنا أشاركُ هذا الشعور. لديَّ شكوكٌ قوية في أننا بعد عام من الآن سوف نسمع مرة أخرى كلمات ومقترحات طموحة بشأن الدفاع الأوروبي المستقل، ولكن القليل من التحرّك لتحقيق ذلك.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani