الغَربُ يُخطِئُ في قراءَةِ الاحتجاجاتِ في إيران

عَدَمَ القدرة الأوّلية للعديد من المراقبين الغربيين على فَهمِ وإدراك حَجمِ ما يَتَكَشّفُ الآن في إيران بشكلٍ كاملٍ هو نتاجُ ديناميكيات تعكسُ مشاكلَ أعمق في كيفيّة تفاعل مؤسّسات صنع السياسات في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع العالم الأوسع.

المرشد الأعلى علي خامنئي: لأول مرة يشعر نظامه بالخطر الداخلي.

ألكسندر كلاركسون*

في عصرٍ حَيثُ الدورات الإخبارية التي تُحَرِّكُها وسائلُ التواصلِ الاجتماعي تَبلُغُ ذَروَتَها ثم تَنحَسِرُ في غضون أيام، يُمكِنُ للتطوّراتِ السياسيّة التي تتصاعَدُ تدريجًا بمرور الوقت أن تتحدّى مدى انتباه وملاحظة واهتمام العديد من مراقبي صانعي السياسات والصحافيين. في كثيرٍ من الأحيان، لا تقود التطوّرات ذات الآثار الهائلة على السياسة العالمية إلى نتائج سريعة، ما يؤدّي إلى الإنحرافِ داخل وخارج الوعي العام. وحتى عندما يُلاحِظُ صانعو السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا مؤشّراتٍ إلى أنَّ النظامَ السياسي يَقتَرِبُ بسرعة من نقطة اللاعودة، فإن تفسيرَهم للأحداثِ يُمكِنُ أن يتشوَّهَ بفعلِ افتراضاتٍ قديمة عفا عليها الزمن والتي لم تُواكِب وَتيرةَ التغييرِ الاجتماعي السريعة.

تجلّت هذه الديناميكية في عدم قدرة المسؤولين الأميركيين والأوروبيين على اكتشافِ السرعة التي تَحوَّلَ بها المجتمع الأوكراني في السنوات التي سبقت تراجع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش -تحت ضغطٍ من روسيا- عن اتفاقية شراكة كييف مع الاتحاد الأوروبي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013. ونتيجة لذلك، أذهلتهم الاحتجاجات الجماهيرية اللاحقة في كييف كما التصعيد الذي أعقبها. قبل بضعِ سنوات، فشلَ العديد من صانعي السياسة الغربيين، الذين استوعبتهم وشَغَلتهُم الحرب في العراق والفوضى الاقتصادية الناجمة عن الأزمة المالية العالمية، في ملاحظة الاستياء المُتزايد في جميع أنحاء الشرق الأوسط  وشمال أفريقيا الذي أدّى إلى الانتفاضات العربية في العام 2011.

مثلما لم تُلاحَظ الإشارات الأولى لتلك التحوّلات الزلزالية الوشيكة إلى أن أربكت آثارُها صانعي السياسة، فقد فاجَأَ تماسُكُ وصلابةُ الاحتجاجات الأخيرة في إيران الكثيرين في الغرب. على الرُغم من أن الجمهورية الإسلامية قد شهدَت موجاتٍ مُتكرِّرة من الاحتجاجات منذ أن سحق النظام الثيوقراطي المظاهرات الجماهيرية التي قامت بها الحركة الخضراء في أعقاب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في العام 2009، إلّا أن هذه الاحتجاجات للمعارضة كان يُسَيطَرُ عليها عادةً بسرعة نسبية حتى هذا العام، من خلال القمع الوحشي الذي تقوم به أجهزة إنفاذ القانون وفيلق الحرس الثوري الإيراني. وبالمثل، فإن الجماعات المُتمرّدة من الأقليات العرقية، الأكراد في الشمال الغربي أو مجتمعات البلوش على الحدود الباكستانية، قد انخرطت بانتظامٍ في هجماتٍ مُسلَّحة ضد الحرس الثوري أو وحدات الجيش الإيراني. لكنها لم تكن تُمثّل أبدًا تهديدًا للنظام السياسي القائم.

على الرُغمِ من كل الإحباط المتزايد من الوضع الراهن بين الشباب الإيرانيين على وجه الخصوص، فإن قدرةَ النظام على إحكامِ قبضته على السلطة بمساعدة مئات الآلاف من عناصر ميليشيات الباسيج المحلّية أقنعت الكثيرين في الغرب بأن الاحتجاجات الجماهيرية لن تُشكّلَ تهديدًا خطيرًا على الدولة الإيرانية. كان الديبلوماسيون الأميركيون والأوروبيون مُتَرَدّدين أيضًا في مواجهة طهران بشأن قضايا حقوق الإنسان الداخلية وسط مفاوضاتٍ كانت جارية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب في العام 2018. كما إن الهزيمة الذي ألحقها الحرس الثوري الإيراني، بالتعاون مع الجيش الروسي ومقاتلي “حزب الله” من لبنان، بالجماعات المتمرّدة في سوريا، برهنت أيضًا على قدرة طهران الدائمة على إظهار قوتها ونفوذها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وأظهر النظام أيضًا مرونة في مواجهة الأزمات، مثل اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني بواسطة طائرة مُسَيَّرة أميركية قرب مطار بغداد في كانون الثاني (يناير) 2020.

نتيجةً لذلك، عندما خرج المتظاهرون الأوائل إلى الشوارع بعد وفاة محساء أميني، وهي شابة كردية إيرانية، خلال حجزها من قبل شرطة الآداب التابعة للنظام في 16 أيلول (سبتمبر)، إفترض العديد من المُحلّلين الغربيين أن النظامَ الإيراني سوف يخرج سالمًا ويقضي على الموجة الأخيرة من الاحتجاجات. للإنصاف، إعتَقَدَ العديد من المراقبين الإيرانيين والأجانب أيضًا أن قوات أمن الدولة ستسحق بسرعة تظاهرات المعارضة هذه كالعادة.

ولكن، على الرُغم من الاستخدام المُتكرّر للقوة المُميتة من قبل الشرطة ووحدات الحرس الثوري الإيراني، توسّعت حركة الاحتجاج إلى أحياء المدن والمناطق التي كانت تُعتَبَرُ في السابق مَعاقِلَ دَعمِ النظام. في حين أن البلدات ذات الغالبية الكردية والأذرية والبلوشية شهدت أعنف أعمال العنف، فقد عرفت المناطق في جميع أنحاء البلاد موجةً من الاحتجاجات، حيث أصبحت أجزاءٌ من طهران مناطق مُعادية للحرس الثوري الإيراني وعناصر الباسيج. إن دورةَ الاحتجاجاتِ والقتل والجنازات التي أدّت إلى مزيدٍ من انتشار المظاهرات وتكرارها كانت حاسمة في إسقاط نظام الشاه في العام 1979. مع تلك الدورة نفسها التي أصبحت راسخة الآن في هذه الأعمال الجماعية ضد الجمهورية الإسلامية التي حلّت مكانه، فإن أجهزة النظام الأمنية تجد نفسها مُجبَرة على اعتمادِ أشكالٍ أكثر وحشية من العنف لمنع فقدان السيطرة بشكلٍ كامل.

إن عَدَمَ القدرة الأوّلية للعديد من المراقبين الغربيين على فَهمِ وإدراك حَجمِ ما يَتَكَشّفُ الآن في إيران بشكلٍ كاملٍ هو نتاجُ ثلاث ديناميكيات تعكسُ مشاكلَ أعمق في كيفيّة تفاعل مؤسّسات صنع السياسات في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع العالم الأوسع. إذا أراد صانعو السياسة الغربيون تجنّبَ الصدمة من الأزمات المستقبلية، فإن إيجاد طرق للتخفيف من مثل هذه التشوّهات في التصوّرات والسياسات سيكون مكانًا جيدًا للبدء.

الأوّل هو التأثير الضار للاقتصاد الذي يُحرّكه الإهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي عندما يتعلّقُ الأمر بالعمليات التي تُشكّلُ أجندات السياسة الخارجية للولايات المتحدة وأوروبا. على الرغم من ادعاءات الديبلوماسيين والسياسيين الغربيين بأنهم فوق النقاش الفوضوي الذي يدور على منصّات وسائل التواصل الاجتماعي، فإنهم مُعَرَّضون مثل أيِّ شخصٍ آخر لكيفية تشكيل هذه المنصّات للتصوّرات. مع احتلال الغزو الروسي لأوكرانيا قدرًا كبيرًا من الإهتمام المؤسّسي بين مسؤولي السياسة الخارجية في الغرب، كانت القدرة على مستوى المسؤولين الكبار للتعامل مع السرعة التي تتكشَّف بها الأحداث في إيران محدودة. يتمثّل أحد الدروس الرئيسة المستفادة من هذه الديناميكيات في الحاجة إلى أن تُحافظ وزارات الخارجية ووكالات الاستخبارات الغربية على مسافة من الخطاب الذي تُحرّكه وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الحفاظ على التركيز على القضايا الإستراتيجية التي لا تحصل بالضرورة على الكثير من الجاذبية الأوّلية من خوارزميات الإنترنت.

الديناميكية الثانية التي ولّدت بعض الاستجابات الإشكالية في الغرب هي المدى الذي أصبحت فيه ادعاءات القوة من قبل الأنظمة الاستبدادية داخلية –ليس فقط من قبل المؤيدين، ولكن أيضًا من قبل النقاد والمراقبين الخارجيين– بحيث يتم التقليل من نقاط ضعفها. لقد أدت قدرة النظام الإيراني على تجاوز الأزمات بشكلٍ مُتكرّر في الماضي إلى تأجيج الرضا داخل النظام عن التحدّيات في الوقت الحاضر، لكنها أدّت أيضًا إلى قبول الكثيرين في الغرب لمزاعم النظام بالحصول على دعمٍ أوسع وسيطرةٍ فعّالة بسهولة بالغة. كما أن حقيقة أن العديد من نشطاء المعارضة في الشتات الإيراني قد سارعوا في إعلان الزوال الوشيك للنظام إلى زيادة تردّد المُحَلّلين في الغرب في الافتراض أنه ربما هذه المرة قد يكون قادة الحرس الثوري الإيراني ورجال الدين في قلب النظام حقًّا قد فقدوا السيطرة. إذا كان هناك درسٌ يُمكن استخلاصه من بعض هذه المفاهيم الخاطئة، فهو أن على المُحَلّلين العامين والديبلوماسيين العاملين في الشؤون الإيرانية إيلاء المزيد من الاهتمام لعمل الخبراء الأكاديميين، مثل “لاله فروغانفر” و”ألان حسنيان”، الذين تصل أبحاثهم إلى السياسة اليومية للمناطق والمدن خارج طهران.

يعكس العامل الأخير الذي يؤثّر في ردود الفعل الغربية على التطوّرات الأخيرة في إيران مشاكل أوسع نطاقًا في كيفية تطوير السياسة تجاه الشرق الأوسط بشكلٍ عام على مدى العقد الماضي وأكثر. في ذلك الوقت، تعرضت المصالح الغربية لضغوطٍ متزايدة بسبب تأثير المنظمات الإسلامية، وصعود الجماعات الجهادية مثل تنظيم “داعش”، وتفاقم التوترات الطائفية بين الحركات السنّية والشيعية، وتزايد القوة الإقليمية للحرس الثوري الإيراني. ونتيجة لذلك، ظلت السياسات الأميركية والأوروبية مُركّزة بشدة على تأثير سياسات الهوية الدينية على حساب التعامل مع العوامل الأخرى التي قد تُشَكِّلُ الأزمات الهيكلية.

وقد استكشف باحثون، مثل “آصف بيات” و”روبرتو روكو” كيف أن تَحَوُّلَ الاقتصادات السياسية وأشكال الهوية الجيلية أو الطبقية يقود التغيير الاجتماعي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لكن بشكلٍ عام، أهمل التحليل الذي تُحرّكه السياسات والذي شكّلته أولويات الحكومات الغربية هذه العوامل الهيكلية الرئيسة، على الرغم من ظهور حركاتٍ مُعارضة قائمة على المفاهيم العلمانية للطبقة والعرق والقومية التي توفر بدائل من الإسلام السياسي الذي تتبنّاه الحركات الشيعية أو السنّية. وتشيرُ الانتفاضة الحالية في إيران إلى أن صانعي السياسة الغربيين يجب أن ينظروا إلى ما وراء الديناميكيات الدينية إذا كانوا يريدون تطويرَ فَهمٍ أفضل للمجتمعات التي يُعَدُّ مسارها حاسمًا لاستقرار النظام العالمي.

ليس هناك ما يضمن أن الانتفاضة الحالية في إيران ستُزيل النظام الإيراني وتجبره على الخروج من السلطة. إن الجمهورية الإسلامية تحتفظ بقدرةٍ قمعية كبيرة، وأي سيناريو تنكسر فيه يحتوي أيضًا على مخاطر الوقوع في دوامة الموت التي تقود إلى حربٍ أهلية. على الرُغمِ من أن قدرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على المساعدة في تحقيقِ نتيجةٍ سلميةٍ ومُستقرّة وديموقراطية في إيران محدودة، فإن الفَهمَ الدقيق للتطوّرات في جميع جوانب المجتمع الإيراني ضروريّ إذا كان أيُّ جهدٍ من هذا القبيل سيحظى بأيِّ فرصةٍ للنجاح. في الوقت الذي يُظهِرُ الكثيرون من الإيرانيين شجاعةً غير عادية في ظروف يائسة، فإن أقلَّ ما يُمكِنُ أن تفعله الحكومات الغربية هو التوقّف عن إسقاط مخاوفها وهواجسها على مسار إيران.

  • ألكسندر كلاركسون هو أستاذ محاضر في الدراسات الأوروبية في جامعة “كينغز كوليدج لندن”. يستكشف بحثه التأثير الذي أحدثته مجتمعات الشتات عبر الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945 وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام الحدود في الاتحاد الأوروبي على علاقاته مع الدول المجاورة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @APHClarkson
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى