إعادةُ التَمَوضُعِ الإماراتي والجغرافيا السياسية الجديدة

تُعطي مراجعة إماراتية واسعة للسياسة الخارجية الأولوية لتوسيع الشراكات التجارية، ومحاولة جني منافع سياسية وأمنية بانتهاج الحوار والتهدئة، والتخفيف من سياسة الانتشار العسكري والمحاور.

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي: دعوة نادرة لزيارة الإمارات

محمد برهومة*

تعكس زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي، الشيخ طحنون بن زايد، قبل أسابيع إلى إيران حسابات الإمارات العربية المتحدة المُتَغيّرة في ما يتّصل بعلاقاتٍ أكثر براغماتية وواقعية مع جارتها الإقليمية لا تخلو أيضًا من الفوائد الأمنية والاقتصادية.

خلال اجتماع طحنون بالقادة الإيرانيين في طهران في 6 كانون الأول 2021، وجّه دعوة للرئيس إبراهيم رئيسي للقيام بزيارة نادرة إلى دولة الإمارات، إذ لم يقم أي رئيس إيراني بزيارة الإمارات منذ2007. ونُقِل عنه قوله إن الزيارة ستكون “نقطة تحوّلٍ” في العلاقات.

الواقع أن الإمارات تُدشّنُ العقد الثالث من هذه الألفية بالانفتاح على خصومها ومنافسيها، إيران وتركيا وقطر، ضمن نهجٍ جديد يقوم على بناء الجسور مع المحيط، وخفض التصعيد وانتهاج سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران والأطراف الإقليمية، وذلك لتجنّب أي مواجهات جديدة في المنطقة بينما تسعى أبوظبي للتركيز على اقتصادها في مرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19.

في هذه المرحلة يبدو جليًّا التركيز على الحلول الديبلوماسية، وعلى توظيف القوّة الناعمة خدمةً لتوسيع المصالح الاقتصادية والشراكات التجارية للدولة، لا سيما في ظل انطلاق دولة الإمارات لحقبة ما بعد يوبيلها الذهبي واستراتيجياتها للخمسين عامًا المقبلة، وسط منافسة قوية من جارتها الكبرى في مجلس التعاون، المملكة العربية السعودية، تلك المنافسة التي تعكس من جانب آخر تبدّل التحالفات داخل المجلس نفسه.

بالنسبة إلى أبوظبي، تتراجع في هذه المرحلة أدوار القوّة الصلبة والانتشار العسكري التي صبغت هامشًا مهمًّا من حراك الإمارات الإقليمي في فترة ما بعد “الربيع العربي”، وتتوسّع أدوار القوّة الناعمة بدون إغفال رغبة الإمارات في تمكين نفسها من أدوات الردع الاستراتيجي، ومن ذلك طائرات “أف-35” المتطورة المُنتَظرة وأسطول طائرات رافال الذي اشترته من باريس لدى جولة الرئيس إيمانويل ماكرون الخليجية في بداية كانون الأول (ديسمبر) 2021. لكنّ ذلك يطرح استفهامات بشأن سباق تسلّح في المنطقة، كما يُثير تساؤلات حول مدى تراجع مقولة “إسبارطة الصُغرى” ومدى تراجع الرغبة لدى أبو ظبي في التدخّلات العسكرية في المنطقة.  أخيرًا، أوردت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الإمارات وتركيا وإيران زوّدت قوات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بأحدث الطائرات المُسَيَّرة المسلحة التي قلبت موازين الحرب في إثيوبيا لصالح القوات الحكومية ضد جبهة التيغراي. هذا يؤكد، إنْ صحَّ (حيث نقلت نيويورك تايمز نفياً إماراتياً لذلك)، أن حسابات التدخل أو الدعم العسكري لم تختفِ كلّيًّا من أجندة السياسة الخارجية الإماراتية.

الحوار بديلًا من المحاور

لطالما نظرت الإمارات إلى الهيمنة الإقليمية الإيرانية على أنها واحدة من أكبر التهديدات لأمنها الوطني. كما أن أبوظبي قلقة بشكل خاص من احتمال وجود إيران مُسَلَّحة نووياً. وبحركتها الديبلوماسية تجاه تركيا وإيران، تشير الإمارات إلى أنها ستكون أكثر براغماتية في علاقاتها الإقليمية لضمان أمنها.

لا تزال الاختلافات بين الإمارات من جهة وإيران أو تركيا أو قطر من جهة أخرى قوية، غير أن الإمارات ترى أن الافتقار إلى حوارٍ ثنائي صحّي مع القوى الإقليمية يجعل الأمور أكثر صعوبة لجهة تخفيف التصعيد، كما أنها بدأت تُدرك بعد عقد من سياسة المحاور والاستقطابات التي خسّرت الجميع، أن التباعد في سياسات اللاعبين في الإقليم ينبغي ألّا يمنع التعاون الديبلوماسي بينهم. هنا تتبدّى ملامح جغرافيا سياسية جديدة.

هذه المعاني حاضرة في زيارة طحنون العلنية إلى طهران. وإذا ما قدّمت إيران تنازلات في المحادثات النووية فسوف تُساعد على تسريع التقارب الإماراتي-الإيراني. ويمكن لعلاقات أكثر براغماتية أن تُعمّق التعاون التجاري بين الإمارات وإيران حيث يتوقع أن تصل التجارة بين الجارتين إلى أعلى مستوى في الفترة المقبلة. خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام الإيراني (21 آذار/مارس – 21 تشرين الثاني/نوفمبر)، كانت الإمارات المصدر الأول لواردات إيران بقيمة 10.1 مليار دولار من البضائع، وفقًا للأرقام الرسمية الإيرانية.  كما تُعَدُّ الدولة الخليجية رابع أكبر وجهة للصادرات الإيرانية غير النفطية البالغة 2.9 ملياري دولار.

العلاقات مع إيران وإسرائيل

وتعمل دولة الإمارات من خلال تحركاتها على أن تُفكّك جُزئياً معضلة ما يبدو تناقضًا في علاقاتها مع كلٍّ من إيران وإسرائيل وتحول دون أن يظهر التقارب بين الإمارات وإسرائيل عقب اتفاق التطبيع الذي عُقِد في العام الماضي كخطوةٍ عدائية ضد طهران. وعلى ما يبدو، فإن زيارة طحنون إلى إيران أسهمت في تخفيف قَدْرٍ من الهواجس الإيرانية حيال التقارب الإماراتي-الإسرائيلي، وهو ما أوحت به تصريحات المسؤولين الإيرانيين، ومن ذلك قول علي باقري كني، نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، كبير المفاوضين النوويين: إن “الجمهورية الإسلامية والإمارات اتفقتا على فتح فصل جديد في العلاقات”. هذا تكيّف إيراني، على مضض، مع فكرة وجود علاقات بين أبو ظبي وتل أبيب. فالعلاقة ليست علاقة عكسية أو معادلة صفرية؛ بمعنى أن علاقة الإمارات مع إسرائيل ليست بالضرورة أن تكون دفعًا للتصعيد أو الجفاء الإماراتي مع إيران، كما أن الحوار الإماراتي مع طهران لا يعني أن أبو ظبي تُفرّط بالمزايا النسبية الاستراتيجية التي تجنيها من التطبيع مع إسرائيل.

الجغرافيا السياسية المُتغيِّرة

هذا مكون مهمٌ من مرحلة جديدة في الجغرافيا السياسية في الإقليم؛ حيث تفرض البراغماتية الجمع بين ما يبدو غير قابل للجمع في علاقات الدول في المنطقة تجاه بعضها بعضًا؛ إذْ تتقدّم مسوّغات التواصل على سياسات وممارسات نحو عشر سنين من انتهاج المحاور الحادة.

وفي ضوء العلاقات الإماراتية-الإسرائيلية قد تجد طهران أنّ من مصلحتها عدم فقدان التواصل مع الإمارات. وهذا التغيّر في الجغرافيا السياسية يبقى مرهونًا بأن تقتنعَ طهران بالتحوّلات الجارية في حركة اللاعبين الإقليميين، وأن تكفّ عن التعويل على اللاعبين الدوليين الكبار فقط في تحديد مستقبلها ومسار علاقاتها بدول الإقليم، وبالتالي وزنها الإقليمي. فما جعل الاتفاق النووي في 2015 يخرج عن مساره ليس فقط انسحاب الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، منه في 2018، بل قبل ذلك عدم رضا اللاعبين الإقليميين عن مخرجاته.

من جانبها، انتقدت إيران زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون الأخيرة إلى الإمارات وما أعقبها من صفقة الرافال. وفي الحادي والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2021، أطلق الحرس الثوري الإيراني صواريخ باليستية وكروز خلال مناورات عسكرية  في الخليج، وسط تصاعد حدّة التوتر مع الولايات المتحدة وإسرائيل وتسريبات حول خطط إسرائيلية مُحتَملة لاستهداف مواقع نووية في إيران. هذا يشير إلى أن محاولة الإمارات فك معضلة علاقاتها مع كلٍّ من إيران من جهة وإسرائيل ومعها الولايات المتحدة من جهة أخرى ليست سهلة.

الخبرة السابقة

على الرغم من ذلك، ومن خلال زيارة طحنون بن زايد تُحاول الإمارات أنْ تُفعّل سياسة قديمة جديدة مع إيران، وهي منع الأمور بين البلدين أن تصل إلى درجة الانسداد أو الخروج عن السيطرة؛ خصوصًا أن سياسة حافة الهاوية الإيرانية، في كثير من المواقف والأزمات، تبقى مصدر قلق بالغ للإمارات، مركز الأعمال والخدمات في الإقليم. وقد كان المسؤول الإماراتي أنور قرقاش واضحًا حين قال متحدّثًا في معهد بروكينغز في شباط (فبراير)2021 أنه “بخلاف الديبلوماسية، نحن [في الإمارات] لا نرى أيّ خيار على الإطلاق مع إيران”. وقال: “حتى مع الضغط الأقصى [في ظل إدارة ترامب]، أرسلنا رسائل [إلى إيران] عبر الأوروبيين حول الحاجة إلى الديبلوماسية ووقف التصعيد”. ورداً على سؤال من المعهد حول تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تطرح خيارًا عسكريًا مع إيران، وصف قرقاش ذلك بأنه “خطيرٌ للغاية”.

عندما استدعت الرياض سفيرها من طهران وقطعت علاقاتها الديبلوماسية مع الأخيرة بعد توتر العلاقات بين البلدين في 2016؛ في أعقاب إعدام السعودية لرجل الدين الشيعي نمر النمر وإحراق محتجين في إيران السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مشهد، اتبعت الإمارات في هذه الحادثة نهجًا أكثر حذرًا؛ فاستدعت سفيرها من طهران وخفّضت وجودها الديبلوماسي إلى مستوى القائم بالأعمال، لكن لم تقطع العلاقات كلياً. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، ندّدت الإمارات باغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده.

إن إعادة التموضع الإماراتي، كما تتجلّى في زيارة طحنون بن زايد لإيران، تبني على خبرة سابقة في التهدئة مع طهران وعدم قطع حبال التواصل معها حتى في الأحداث الإقليمية الصعبة. غير أن التحديات المُرتبطة بصعوبة تفكيك التناقضات المُحيطة بالعلاقة الإماراتية مع إيران من جهة ومع إسرائيل من جهة أخرى تظل قائمة.

  • محمد برهومة، هو باحث أردني في الشؤون الخليجية، من كتّاب صحيفة “الحياة” اللندنية (1994-2018) و”الغد” الأردنية (2007-2018). لديه اهتمامات فكرية وصدر له كتاب “الوعي الأخلاقي ودوره في الإصلاح الديني”(2014). يمكن متابعته عبر تويتر على: @MBarhouma

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى