طَفرَةُ المال المُستَدام في الخليج
علي الشعلان*
يتحوّل الخليج العربي اليوم إلى واحدٍ من أكثر مختبرات العالم إثارةً في مجالِ التمويل المُستدام، لا لأنَّ المنطقة قرّرت اللحاق باتجاهٍ عالميٍّ رائج، بل لأنها باتت تُدرِكُ أنَّ مستقبلَ اقتصاداتها وطموحاتها التنموية لا يُمكِنُ أن ينفصلا عن معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة. وفي هذا السياق، يبدو تقرير بنك الكويت الوطني حول تسريع التمويل المستدام في دول مجلس التعاون الخليجي الذي صدر أخيرًا أشبهُ بخارطة طريق تُظهِرُ المسارَ الذي يتقدّمُ فيه الخليج بثقة، وبوتيرةٍ أسرع مما يعتقدُ كثيرون.
ما يُميِّزُ التحوُّلُ الجاري ليس حَجمَ الالتزامات وحده —على رُغمِ أهمِّيتها— بل الطريقة التي باتت فيها مؤسّساتٌ مالية راسخة، مثل بنك الكويت الوطني، تُعيدُ تعريفَ وظيفتها في النظام المالي وتتحوَّلُ من “مُمَوِّل” إلى “شريك” في التحوُّل الاقتصادي. فمن خلال إصدار أول سنداتٍ خضراء في الكويت بقيمة 500 مليون دولار في العام 2024، لم يكتفِ البنك بفَتحِ بابٍ غير مسبوق في السوق المحلية، بل أعلن عمليًا أنَّ التمويلَ التقليدي لم يَعُد كافيًا في مرحلةٍ تتطلّبُ أدواتٍ مالية جديدة، وقدرةً على قياس الأثر، ومُساءلة بيئية واجتماعية واضحة.
لكنَّ الصورة الأكبر تكشفُ معطى أكثر أهمية: دول الخليج، التي لطالما عُرِفَت باعتمادها على الطاقة التقليدية، باتت اليوم تستقطبُ استثماراتٍ متزايدة في الطاقة المتجددة والبنية التحتية منخفضة الكربون. السعودية تصدرُ سنداتٍ خضراء بمليارات الدولارات، قطر تدخل سوق السندات الخضراء لأول مرة، الإمارات تُعزّزُ الإطار التنظيمي للتمويل المستدام، وسلطنة عُمان تضعُ أولَ إطارٍ وطني للسندات والصكوك الخضراء. هذا الزخم، كما يُبيّنُ التقرير، لا يُفهَمُ إلّا باعتباره انعكاسًا لمرحلةٍ جديدة ترى فيها دول الخليج أنَّ الهوية الاقتصادية المقبلة لا يمكن أن تُبنى على الوقود الأحفوري وحده، مهما طال أمده.
ومع أنَّ جُزءًا من هذا التحوُّل مدفوعٌ بضغوطِ الأسواق العالمية والمستثمرين، إلّا أنَّ الجُزءَ الأكبر نابعٌ من إدراكٍ سياسي واستراتيجي أنَّ المنطقة تُواجهُ تحدّياتٍ بيئية واقتصادية حقيقية. فدولُ الخليج من بين أكثر المناطق تعرُّضًا لتغيُّرِ المناخ، ومع ذلك تُعَدُّ من الأكثر قدرة على الاستثمار في حلولٍ مبتكرة للطاقة النظيفة والبنى التحتية الذكية. ولهذا، ليس من المُستغرَب أنَّ التقرير يشيرُ إلى أنَّ دول الخليج تحتاج إلى مئات المليارات من الاستثمارات حتى منتصف القرن لدعم التحوُّل إلى اقتصاداتٍ منخفضة الكربون — وهي أرقامٌ تعكسُ الحجمَ الفعلي للرهان المطروح أمام صنّاعِ القرار، ومقدار الفُرَصِ التي تنتظر المؤسّسات القادرة على قيادة هذا التنفيذ.
على مستوى المؤسسات المالية، يبرز ما قام به بنك الكويت الوطني باعتباره نموذجًا مثيرًا للاهتمام. فالبنك لم يكتفِ بتعزيز استراتيجية قياس البيئة والمجتمع والحوكمة في تقاريره وممارساته، بل أدخل إدارة المخاطر المناخية ضمن عملية التقييم الرأسمالي الداخلي، وأصبح يقيس الانبعاثات المُمَوَّلة ضمنَ التزامات مبادرة “شراكة المحاسبة المالية للكربون” في القطاع المالي. هذا التحوُّل، الذي يبدو تقنيًا للوهلة الأولى، يعكس انتقالًا جوهريًا في طريقة تقييم البنوك لمخاطرها وفُرَصها، إذ لم يعد التمويل التقليدي بمنأى عن الضغوط المناخية والتنظيمية، ولا يُمكِنُ لأيِّ بنك الحفاظ على تنافسيته من دون هذا النوع من البنية الحاكمة الصارمة.
التحوُّل ذاته يَظهَرُ جليًا في التزام البنك بالوصول إلى محفظةِ أصولٍ مستدامة بقيمة 10 مليارات دولار بحلول 2030، بعدما بلغ نصف هذا الهدف بالفعل بنهاية 2024. والأهم من الأرقام هو طبيعة هذه الأصول: تمويل نقل نظيف، دعم مشاريع البناء الأخضر، قروض مُيَسّرة للسيارات الكهربائية والهجينة، وتوسيع قروض الإسكان منخفض الانبعاثات. هذا النوع من التمويل لا يُغيِّرُ فقط شكل السوق، بل يُغَيِّرُ أنماط الاستهلاك والسلوك المجتمعي، ويفتح الباب أمام قطاعاتٍ اقتصادية جديدة لم تكن قائمة قبل سنواتٍ قليلة فقط.
ومن المهم أن نلحظَ البُعدَ الاجتماعي في هذا التحوُّل. فالتقرير يُبيِّنُ أنَّ تمكينَ الشباب والنساء وتحسين الشمول المالي ليسا من القضايا الجانبية أو ال”تجميلية”، بل جُزءٌ أساسي من منظومة الاستدامة. ارتفاع بطالة الشباب في الكويت والمنطقة، والفجوات الواضحة بين الجنسين، والضعف في الثقافة المالية لدى شرائح واسعة، كلها عوامل تُهدّدُ أيَّ استراتيجية تنمية طويلة الأمد. وهنا، تُظهر مبادرات مثل “بنكي” للتثقيف المالي، وبرامج بنك الكويت الوطني لتمكين النساء والقيادات الشابة، أنَّ الاستدامة لا يمكن أن تُختَزَل في الطاقة المُتجدّدة، بل يجب أن تشملَ تمكين الإنسان وإعادة بناء رأس المال الاجتماعي.
غير أنَّ السؤال الجوهري هو ما إذا كان هذا التحوُّل كافيًا لتغيير المشهد الاقتصادي في المدى البعيد. الواقع أنَّ ما يجري اليوم هو بدايةُ مسارٍ طويل ومعقَّد، فالتحدّيات التنظيمية والفنية والاقتصادية لا تزال كبيرة. ومع ذلك، فإنَّ الخطوات الحالية —من تعزيز الإفصاح وفق معايير فرقة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ، ومعايير المبادرة العالمية للتقارير، ومعايير مجلس معايير محاسبة الاستدامة، مرورًا بالتزام البنوك بحَوكمة شراكة المحاسبة المالية للكربون أكثر صرامة، وصولًا إلى توسُّع أدوات التمويل الأخضر — ترسم ملامح بيئة مالية أكثر نضجًا، وأكثر قدرة على استيعاب التحوُّلات العالمية المقبلة في الاقتصاد الأخضر.
من منظورٍ استراتيجي، يبدو أنَّ دول الخليج، بقيادة مؤسسات مالية مثل بنك الكويت الوطني، لا تريد فقط اللحاق بسباق التمويل المستدام، بل تسعى إلى أن تكونَ جُزءًا من طليعته. ومع أنَّ الطريقَ لا يخلو من التحدّيات، إلّا أَّن المؤشِّرات الواردة في التقرير تُظهرُ بوضوح أنَّ هذه المنطقة تمتلكُ ما يكفي من الإرادة والموارد والمعرفة لتكون لاعبًا محوريًا في الاقتصاد المُستدام العالمي.
التحوُّلُ الجاري اليوم ليس رفاهية ولا مجرّد استجابة لموضةٍ عالمية، بل ضرورةٌ وجودية واقتصادية. وفي عالمٍ يتغيّرُ بسرعة، يبدو أنَّ الخليج —ربما للمرة الأولى— يتحرّكُ بالسرعة نفسها.
- علي الشعلان هو مراسل “أسواق العرب” في الكويت.



