في حديث الشعر (21)

هنري زغيب*
في الحلقة السابقة (رقم 20 – “أَسواق العرب”، 13 أَيلول/سبتمبر 2025)، كتبتُ أَنَّ طريقةَ الكتابة (شكلًا) لا تعطي هوية النص، بل تقْنيةُ النَصّ هي التي تُحدِّد هويَّتَه: شعرًا أَو نثرًا. ذلك أَنَّ للشعر تقْنيةً خاصةً يعرفُها قارئُ الشعرِ المتنوِّرُ المتمرِّسُ العارفُ (هنا يتساوى القارئُ العارف مع الناقد العارف).
وإِذا كان الناثرُ غيرَ مُلِمٍّ بتقْنية الشعر (وليس بالضرورة أَن يكون كذلك) فالمفترَضُ أَن يُلِمَّ الشاعرُ بتقْنية التوأَمين معًا، سواءٌ كاتبًا شِعرَه أَو “قارئًا” شِعرَ سواه.
بعدما كتبْتُ في الحلقة السابقة كيف يكون الناثر قارئًا الشعرَ وناقدًا إِياه، أُقارب في هذه الحلقة كيف الشاعرُ يكون قارئًا النثر وناقدًا إِياه.

الشاعر ناثرًا
عن خليل رامز سركيس قَولتُه: “كان أَبي، إِذا قرأَ قصيدةً معجِبة أَو نثْرَةً رائعة، طرِبَ وقال: “الله، الله! لا شِعر هذا، ولا نثر. هذا قَصْر“. وعن المنفلوطي قَولتُه: “بدأْتُ حياتي الأَدبية بقرض الشعر فجُلْتُ فيه حينًا. وكأَنَّ روحًا خفيّةً طافت بي، وأَوحَت إِليَّ، فنبَذْتُ الشعرَ مكانًا قصيًّا، وانقطعتُ إِلى صياغة النثر. هكذا كنتُ شاعرًا لا يَكتب فِقْرة، فأَصبحتُ كاتبًا لا ينظم شَطْرة“.
مع كثير إِعجابي بنثر خليل رامز سركيس المشغول فنيًّا بالنحت الجماليّ، وضئيل إِعجابي بنثر المنفلوطي السرديّ التقريريّ، يبقى شاهدي: الفصل بين هذَين الفنَّين العاليَين، من دون المزج بينهما بـ”شعر منثور” ولا بـ”نثر شعري”. ويبقى أَنَّ كلًّا منهما فنٌّ عظيمٌ قائمٌ في ذاته، ويا طوبى لِمن يُعطى نعمة الإِبداع في الفنَّين معًا، كما حال الكبيرَيْن: أَمين نخلة وأَنطُون قازان (مقالي السابق رقم 20 – “أَسواق العرب”، 13 أَيلول/سبتمبر 2025).

التوأَمان
الشاعر المتمكِّن يقول عن نثره: “هذا تَوأَمُ شعري الجميلُ، فَلْتُلغَ مقولة ابن ستّ وابن جارية بين الشعر والنثر“. وبـ”المتمكُّن” هنا، أَقصد الشاعر الشاعر الذي يقول ما يريد قولَه من ضمن الأُصول والقواعد، كلاسيكيِّها (العمودي التقليدي) أَو نيوكلاسيكيِّها (قصيدة التفعيلة)، فتخرُجُ قصيدتُه لابسةً حلَّتها الأَجمل، مضمونًا قويًّا شاعريًّا عاليًا يوشِّحُهُ شكلٌ أَنيق بارع. وحين هذا الشاعرُ ذاتُه يكتب نثرًا، يَصوغ نثره بالدقة ذاتها والشغل ذاته والنحت ذاته الذي به يصوغ قصيدتَه قطعةً متماسكة على جمال، فيجيْءُ نصُّهُ نثرًا متماسكًا على جمال.. الفن العالي هو ابن الجمال.
العلامة
هذه القاعدة ليست عامَّة: لا يُعطى لكلِّ شاعر متمكِّن أَن يكتب نثره بالتمكُّن ذاته، ولا لكلِّ ناثر متمكِّن أَن يُبدع في الشعر إِبداعَه في النثر. وفي تاريخ الأَدب العربي شعراءُ مُجيدون، حين خرجوا من حالة “القصيدة” كتبوا نثرًا عاديًّا تقريريًّا لا لَمعة فيه، كما فيه ناثرون مُجيدون قارَبوا الشعر فظلُّوا نثريين في قصائدَ لهم لم ترتفع لَمعةً واحدةً عن النَظْم.
علامةُ الشاعر الشاعر أَن يُنسيك النظْم في قصيدته. وعلامةُ الناثر المبدع أَن يُهَدهِدَك نثرُهُ برعشة الصياغة. من هنا هيبةُ الإِبداع التي تفرضها القصيدة (في الشعر) والنضيدة (في النثر). ومن هنا نُدرة مَن يتمتَّعون بنعمة أَن تَفْتنك قصيدتهم الشعريةُ بقدْرما تَفْتنك نضيدتهم النثرية.
الشاعر فارس اللغة
الشاعرُ الشاعرُ مفتونٌ بالكلمة. تُوجعُه الكلمة. تؤرِّقُه الكلمة. يَحترم بها شِعرَه ونثرَه. لا يُساوم على شاعريته في نثره، ولا يَعتبر أَنه، شاعرًا، يتفوَّق على ذاته ناثرًا. ومن يطمحُ أَن يصوغَ نثرَه صياغتَه شِعرَه (بدقَّة الجَواهري الصَناع، ودقَّة تركيب الضَوع في جونة العطار) عليه أَن يكون فارسَ لُغَة. ومن كان فارسَها، أَطاعتْه اللغةُ لقصيدته ونضيدته معًا، ليقينها أَنه سيُطلع منها، شاعرًا أَو ناثرًا، تُحفةً فنيةً مشغولةً بِمخاضِ ولادةٍ يتطلَّبه كلُّ نصٍّ إِبداعيّ.
اللغة، قلت؟ ولكنّ اللغةَ كلماتٌ، والكلمات حروف.
وهذا ما سأُعالجه في الحلقة التالية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.