من مياهٍ بلا تلوُّث إلى حافلةٍ بلا فرامل: الدولةُ التي تُديرُ نفسَها بالغياب

البروفِسور بيار الخوري*

من مياهٍ أُعلِنَت مُلوَّثة ثم بُرِّئت، إلى حافلةٍ فقدت فراملها ونجا ركّابها بالمصادفة، يتكرّرُ في يومين، المشهد المُمِل في لبنان: حادثةٌ تقع، مؤسساتٌ تتحرّك بعد فوات الأوان، والرأي العام ينتقل سريعًا من القلق إلى النسيان. المشكلة لا تكمُنُ في الحدث نفسه بل في شكل الإدارة التي جعلت الغياب قاعدة عمل. فالدولةُ لا تُدارُ عبر الحضور والتنظيم بل عبر غيابٍ مُنَظَّم يمنحها حرية الحركة خارج القواعد.

الغياب في لبنان ليس فراغًا بقدر ما هو أداة. حين تغيبُ القاعدة، يتّسِعُ هامش القرار، ويتحوّلُ القانون إلى مساحةِ تفاوُض. هذا الغياب لا يُنتِجُ الفوضى فحسب، بل يُعيدُ ضبطها ضمن حدودٍ تسمح باستمرار النظام من دون التزامٍ واضح. القرارُ الإداري لا يصدر وفق معايير، بل وفق توازنات، والمُساءلة لا تعملُ وفق جدولٍ زمني، بل وفق مصلحة ظرفية. الإدارة لا تسعى إلى منع الخطَإِ، بل إلى احتوائه عند الحاجة.

الدولة تعمل بآليةٍ تُتيحُ لها إدارة الخطر بدل منعه. كلُّ جهازٍ يحتفظُ بقدرٍ من التضارب في صلاحياته، لأنَّ الغموضَ يمنحُ مرونةً في التعامل مع الأزمات. هذا النمطُ يجعلُ كلَّ أزمة فرصة لتأكيد الوجود الرسمي من خلال البيانات والاجتماعات، فيتحوّل الحادث إلى مشهدٍ لإظهار السيطرة الرمزية، لا إلى مناسبة لبناء نظام يمنع تكراره. هكذا يتكرّر الفعل نفسه في دوائر مختلفة: القرار يُؤخذ استجابةً لا تخطيطًا، والمؤسسة تظهر بوصفها ردَّ فعلٍ دائم.

ما يُسمّى في الدول الأخرى معادلات العمل: الإنذار المبكر، الثقة العامة، الفعالية المؤسّسية، تحديد الأهداف، المساءلة التلقائية، غائب في لبنان بوصفه بنية متعمّدة. فغياب الإنذار يسمح بتجاهل المؤشرات المقلقة، وغياب الثقة يمنح الدولة حق الإنكار، وغياب الفعالية يُبقي كل مبادرة قابلة للتجميد، وغياب الهدف يتيح تبديل الاتجاه في أيِّ لحظة، وغياب المساءلة يمنح الجميع الحصانة. الغيابُ المتكرر لهذه العناصر لا يشكّل ضعفًا في الإدارة بل أسلوبًا لضمان استمرارية القرار من دون مسؤولية.

تعملُ الإدارة اللبنانية على إنتاجِ الاستقرار عبر تعطيل النظام نفسه. حين يتعذّرُ التطبيق، يُستبدَلُ التنفيذ بالإعلان، والمراجعة بالمصالحة، والتخطيط بالارتجال. كلُّ وزارةٍ تعملُ ضمن نطاقها الخاص كجزيرةٍ مستقلة، وكلُّ مسؤول يملك تفسيره الخاص للقانون. النجاح يُقاس بالقدرة على النجاة من الأزمة لا بالقدرة على منعها.

استعادةُ الدولة تبدأ حين يتوقّفُ الغياب عن كونه أداةَ تشغيل. لا يُمكنُ لأيِّ مؤسّسة أن تعمل من دون معرفة دقيقة وحدود واضحة وتبعات معلنة. حين تُربَطُ المعلومة بالقرار، ويُفصل التنفيذ عن المزاج، ويُعاد ترتيب المسؤوليات وفق قاعدة السبب والنتيجة، يتحوّل العمل العام من مجالٍ لتبادل الأعذار إلى مجالٍ لقياس الأداء. عندها فقط يصبح الحضور شرطًا للإدارة، وتستعيدُ الدولة وظيفتها الأساسية: تنظيم الحياة لا تفسير الفشل.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى