من بيت الطين إِلى عنَّايا
هنري زغيب*
ما كنتُ قرأْتُ نصًّا كاملًا للروائيِّ اللبنانيِّ عُمَر سَعيد (ابن الصُوَيري، البقاع الغربي – 1965) حتى قدَّم لي روايتَه الأَخيرةَ “من بيت الطين إِلى عنَّايا” ناشرُها الصديق أَنطوان سعد (“دار سائر المشرق”).
لَفَتَني عُمَر منذ العبارة الأُولى في روايته: “أَيامَ كانت تلّ أَبيب في إِسرائيل لا في فلسطين، كان أَهلي يُعلِّمونني أَنَّ قتْلَ الوطنِ انتصار”. تَنَبَّهْتُ إِلى أَنني أَمام نصٍّ مُغايرِ شكلًا وأُسلوبًا قبْل بلوغ المضمون: “أَذكُر أَنني حملْتُ السلاح، ووضعْتُ عيني على زحلة وسيِّدتها، أُريد اقتلاعَها من قلب الوطن. يومَها كان المسيحيون من كُفَّار قريش، وكنتُ وأَهلي من الأَنصار”.
نمضي في الرواية؟ نمضي.
“تكفَّلَت البندقية بتحويلنا من رُعاة ماشية وفلَّاحين إِلى قتَلَة”. نحن إِذًا في جَوِّ الشحن الطائفي المذهبي الديني الذي هجَمَ على عُنق لبنان لِـخَنقه طيلة أَيام الحرب التي طحنَت صورةَ لبنان: “كان علينا أَن نَكْرهَ المسيحيين والدروز والشيعة”. لكنه لا ينصاع: “أُمّي كانت تلك الـمريم، وكنتُ مسيحَها الذي صُلِبَ على خشَبة الغربة”. ويخرج عن الحظيرة الطائفية: “… غفوتُ ليلتَها، والكتابُ المقدَّس على صدري”، مع أَنه وعى ما في بيته من ظَلامية: “تبيَّن لي أَنَّ موالاتَنا النصارى أَخطرُ معصيةٍ تُطيل طريقَنا إِلى القدس”. ويعترف وهو في فجْر وعيه: “كنتُ أُحسُّ أَنَّ الله في ورطة مع أَهلي، وأَنهم متورِّطون معه”. وهو من بيئةٍ على بدائية بسيطة: “انتقَلَ بنا أَبي من بيتنا الطينيِّ إِلى غرفة إِسمنتية بناها بجانبه”. تتَّسع الغُربة المحلية: “بدأَت بعلبك تصير مدينة شيعية، وظهرَت في حارات قريتنا بيوتٌ سِـنِّـيَّـةٌ وأُخرى شيعية، وكانت قبلذاك قريةً مُسْلمةً تسعى إِلى تحرير فلسطين”. سوى أَنه ينتفض: “إِلى اليوم، لا أَفهم ما حاجةُ المجتمعات إِلى المشايخ ورجال الدين”.
يبدأُ التحوُّل: “لاحقًا، بعدما تزوَّجتُ، أَقسمْتُ ألَّا أَضعَ في بيتي قطعةَ سلاح، وأَنْ أُفتِّش عن الله على طريقتي”. ينتقل إِلى بغداد، وهناك “غنَّيتُ إِلى وطني الذي غلَّفتُ به قلبي ورُوحي ووَجهي، وما تعرَّف عليَّ بين الوجوه”. ومن البعيد هناك، إِلى خيالات عنَّايا: “لم تكُن الطريقُ إِلى عنَّايا تمرُّ عبْر الجغرافيا. كانت تَبْعُدُ عني قرابةَ أَلْف وأَربعمئة سنةً، وكان يلْزَمني لأَبْلُغَها أَنْ أُفكِّكَ على الطريق كلَّ موروث وتحريم وتكفير وتهديد واتِّهام بالزندقة والإِلحاد”.
يتناسل التشرُّد بين بغداد وعمَّان والرياض. يَتيه المشرَّدُ عن ذاته. إِلى أَن يبلُغَ جبيل استعدادًا للإِبحار إِلى قبرص: “نمتُ في بيئةِ أَعدائنا المسيحيين وفي بيتٍ نَصراني، كما يسمِّيه خطيبُ الجمعة في قريتي”.
في محبسة عنَّايا، كأَنَّ كونًا آخرَ دار به: “تقدَّم مني حارسُ المحبسة. قلتُ له: ودِدْتُ لو أَعرف صلاةً واحدةً من المسيحية لأُصلِّيها في الكنيسة”. ويغلِّفه الشِعر ولو لم يَقْصِدْهُ: “لكي أَبلُغَ عنَّايا، كان لا بدَّ أَن أَغتسل بالضباب والثلج والتراب والحزن والخوف والدمع والبكاء وعرَق العُزلة والغُربة… لم أُقِمْ في المحبسة كالراهب شربل، لكنني أَقمْتُ في الغُربة أَربعين عامًا”.
وتكونُ صلاةُ الـمُسْلم النقيِّ في حضرة القدِّيس: “في عنَّايا اكتشفتُ أَنَّ الله فيها هو ذاتُه الله الذي عَرفْتُهُ في بيت الطين، وأَنَّ الطين الذي آمنتُ به، هو الذي أَوصلني من بيت الطين إِلى عنَّايا”.
ودِدْتُ لو أَستشهد أَكثر بعدُ بمواقفَ ساطعةٍ جريئةٍ صادمةٍ من هذه الروايةِ الْــكَتَبَها عُمَر سَعيد لا بكلمات القاموس بل بِنَحْتِ أُسلوبٍ من جماليا، وضَّاحِ الجديدِ في صُوَرٍ عبَّر عنها بما تخْلُقه القصيدة من جمال المباغتة حيالَ غير المأْلوف، يكتبُها شاعرٌ مُكرَّس.
روايةُ عُمَر سَعيد تُقرأُ أَكثرَ من مرة، كما لا يُقطَفُ شَقْعُ المرجان من غَطسَةٍ واحدة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).