في حديث الشعر (20)

أَنطُون غطَّاس كرم: نثرُهُ مشغول بدقّة جواهريّ

هنري زغيب*

في الحلقة السابقة (رقم 19 – “أَسواق العرب” 9 أَيلول/سبتمبر 2025)، وفي حديثي عن أَنَّ طريقةَ الكتابة (شكلًا) لا تعطي هوية النص، بل تقْنيةُ النَصّ هي التي تُحدِّد هويَّتَه: شعرًا أَو نثرًا، ذكرتُ أَنَّ للشعر تقْنيةً خاصةً يعرفُها قارئُ الشعرِ المتنوِّرُ المتمرِّسُ العارفُ (هنا يتساوى القارئُ العارف مع الناقد العارف). وإِذا كان الناثرُ غيرَ مُلِمٍّ بتقْنية الشعر (وليس بالضرورة أَن يكون كذلك) فالمفترَضُ أَن يُلِمَّ الشاعرُ بتقْنية التوأَمين معًا، سواءٌ كاتبًا شِعرَه أَو “قارئًا” شِعر سواه.

بعد ذِكْري كيف يكون الشاعرُ قارئًا ناقدًا، هنا كيف يكون الناثر كذلك؟

الناثرُ قارئًا (أَنطُون قازان، نَموذجًا)

الأَنيقُ حتى دِقّة الرهافة، الشفيفُ حتّى رقَّة الفراشةِ وزنًا وحضورًا، الثقيفُ “قارئًا” و”ناقدًا” مُحاورًا ومنتدِيًا لَمَّاعَ جمال، نَموذجٌ – بأَدبه العالي- لاحترام أَهمية النثر فنًّا عظيمًا في ذاته، مكتفيًا بِذَاته، راقيًا وعاليًا في ذاته. وهو لا يستعينُ بتَقَرُّبِه من مفردات قاموس الشعر لإِعلاء شأْنه، أَو بتَمرير ضعفٍ فيه ليس يستقيمُ إِلَّا إِذا استعار إِضافاتٍ من فنّ الشعر. وليس يُنقذُ من هذه الهرطقات النثرية المتحجِّجة بـ”الشعر الحديث” إِلَّا فارسٌ من طراز أَنطُون قازان يتلمَّظ نثرهُ بِمتعة الخلْق الإِبداعي، يَصوغُه نسيجًا “سهلًا مُمتنِعًا” على أَعلى مستوًى من النَحت الجماليّ والموسيقى الميلودية ونقاوةِ لفظةٍ وعبارةٍ وتعبيرٍ لا تُعطى إِلَّا لنُخبة المبدعين (هل “كتاب عبدالله” لأَنطُون غطَّاس كرم أَقلُّ من مدرسة في الأَدب؟).

جورج غانم: في نثره دومًا فضاءُ شعر

“الجماليا” غيرُ الجمال

أَنطُون قازان سيِّدُ الجماليا في الأَدب (الجماليا = “الإِستيتيك”، غيرُ الجمال). فهو جماليائيٌّ بامتياز، خيميائيٌّ يُحوِّل الكلمةَ القاموسيةَ إِلى رنينِ ذهب، حتَّى إِذا تَجانَبَتْ كلماتُهُ مِرْنانةً في عبارةٍ إبداعيةٍ، شَعَّت من الكلمات أَنوارٌ سعيدةٌ تَجعل النصَّ الأَدبيَّ تُحفةً من صَوغٍ وعباراتٍ وتعابيرَ وتراكيبَ لا يُتْقنُها إِلَّا مَن كان مِن عبقرية أَنطُون قازان الذي، على إِيقاع نبضه، يَصقُل الصائغُ جواهرَه، ويُهندسُ العطَّارُ مقاديرَ الرحيق في تركيب العطر (هل إِيقاعٌ أَجملُ من ميلوديا أَنطُون غطاس كرم في نثره السهل الممتنِع؟ وهل سَلْخٌ من القلب أَوجعُ من نثر فؤَاد سليمان؟ وهل طِيبُ أَناقةٍ أَبلغُ من نثر جورج غانم شاعرًا؟).

فؤَاد سليمان: إِبداع النثر الجمالي

نَـحْتُ النثر لا  كتابته

مُذهلٌ هذا الأَنطُون قازان في امتشاقه القلمَ ونَحْتِ نثرٍ به، أَصعبَ أَحيانًا من إِبداع قصيدةٍ موغلةٍ في جذور الكلاسيكية المتينة. فالأَدب (بشِعره ونثره) فنٌّ مكرَّسٌ لا يؤْتى إِلَّا للأَصفياء. والفنُّ بطبيعته الأَسمى جمال. ولا يبلُغ صوغَ الجمال إِلَّا قليلون أَصفياءُ متنوِّرون تُسْلِسُ الصعوبةُ أَمرَها إِليهم ليَقينِها أَنَّها على مَشافِر أَقلامهم تُصبحُ صعوبةً ذائقةً ذوّاقةً مُمتعةَ المذاق. وقياسًا على قول أَمين نخلة (هل “المفكِّرة الريفية” نثْرٌ عاديّ؟) إِنّ “الفنَّ يَحيا بالصعوبة، ويَموت بالسُهُولة والاستسْهال”، يكون أَنطُون قازان سيِّدًا من أَسيادِ نثر قلائلَ يُضاهون، بنثرهم العالي الراقي الصعب الجماليائيّ، عشراتِ القصائد وكُتُب الشعر، غيرَ شاعرينَ بأَنَّ نثرَهم أَدنى من الشعر.

فلنبحثْ إِذَنْ في ذاتنا عن ذاتٍ جماليائيّةٍ لصياغةِ نثرٍ فنيٍّ عالٍ، طوبى لنا حين نُعطى أَن نَكتُبه إِبداعيًا بِمسحةِ نصائعَ مباركةٍ من زيت أَنطُون قازان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى