قراءَةٌ في الوَضعِ الدولي صيف 2025

في صيف 2025، تتشكل ملامح نظام دولي جديد يتأرجح بين صعود الشرق وتراجع الغرب، وسط صراعات اقتصادية وسياسية محتدمة. ومن قلب هذه التحوّلات، يبرز دور الولايات المتحدة والصين وروسيا كقوى ترسم خرائط النفوذ العالمي وتُعيدُ تعريفَ موازين القوة. وتلقي هذه الحلقة الثالثة الضوءَ على سعي الصين إلى تثبيت نفسها كقوة عظمى بديلة، وكيف تجد أوروبا نفسها مدفوعةبشكل متناقضإلى وحدةٍ لم تعرفها منذ الحرب الباردة بفعل سياسات دونالد ترامب.

الرئيس دونالد ترامب: أغاظه ما جرى في إجتماع منظمة شنغهاي للتعاون.

(3)

الصين تَستَعرِضُ قوّتها: شي جين بينغ يَرسُمُ ملامِحَ نظامٍ عالميٍّ جديد!

 

الدكتور سعود المولى*

قدّم شي جين بينغ عرضًا مُذهلًا للقوة العسكرية الصينية يوم الأربعاء 3 أيلول (سبتمبر) 2025 أمام بعضٍ من أقوى القادة في العالم، حاشدًا إياهم وراء رؤيته لنظامٍ عالمي جديد. فقد ترأس شي، في بكين، عرضًا عسكريًا استمر 70 دقيقة لإحياء ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، مُحاطًا بفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون. الصورة المميزة لهذا العرض العسكري لم تكن في عرض الطائرات المقاتلة الشبحية، أو الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، أو القوات التي تسير في ترتيب وتزامن تامَين، بل مشهد الزعماء الثلاثة وهم يقفون جنبًا إلى جنب، في عرضٍ غير مسبوق للتضامن ضد الولايات المتحدة وحلفائها. لقد شكلوا الوجه المتحدّي لكتلة متنامية من الزعماء العازمين على مقاومة القواعد الغربية وترجيح ميزان القوى العالمي لصالحهم.

قال شي لقادة 26 دولة وآلاف الجنود وأكثر من 50 ألف متفرّج تجمّعوا في قلب بكين: “الأمة الصينية هي الأمة العظيمة التي لا يخيفها أي مُتنمّر”، في إشارة إلى الشعار الصيني الشهير بأنَّ الإمبريالية الأميركية نمرٌ من ورق. يُعدّ هذا العرض المتعمَّد للوحدة بين الدول الثلاث، ومعها حشد من الدول الأخرى خصوصًا الهند وإيران، أول تحدٍّ صريح لتراجع القيادة العالمية لأميركا في عهد الرئيس ترامب.

يبدو أنَّ ترامب قد استوعب هذه الرسالة، فكتب على موقع “تروث سوشال” (Truth Social) أثناء انطلاق العرض العسكري: “أتمنى للرئيس شي وللشعب الصيني الرائع يوم احتفال عظيم ودائم. أرجو أن تبلّغوا أطيب تحياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، لأنكما تتآمران ضد الولايات المتحدة الأميركية”. وردّ بوتين خلال مؤتمر صحافي في بكين، قائلًا: “إن الرئيس الأميركي لا يفتقر إلى حسِّ الفكاهة”، مضيفًا أنَّ أيًا من قادة العالم الذين انضموا إلى القمة في الصين “لم يُبدِ أحكامًا سلبية على الإدارة الأميركية الحالية”.
توَّجَ العرض أيامًا من الديبلوماسية والاستعراض في مدينة تيانجين الساحلية القريبة، حيث استغلَّ الزعيم الصيني قمة منظمة شنغهاي للتعاون لتوجيه انتقادات مبطَّنة لواشنطن وتصوير الصين كزعيم عالمي بديل. وفي ختام هذا التجمع لقادةٍ من مختلف أنحاء آسيا، طرح شي رؤية جديدة لكيفية إدارة الشؤون الدولية، في الوقت الذي تقلب سياسة ترامب “أميركا أولًا” العالم رأسًا على عقب.  كما وفر العرض الضخم للقوة لشي منصة ليُظهر لضيوفه أنَّ الصين لا تمتلك الطموح فحسب -بل تمتلك أيضًا القوة العسكرية- لدعم رؤيته.

لكن هذه الوحدة المُتَخيّلة والمُستَعرَضة في تيانجين وبكين تحتاج إلى تدقيق. فعلى العكس من الولايات المتحدة، ليس لدى الصين تحالف عسكري رسمي مع أيِّ دولة، باستثناء كوريا الشمالية؛ وهي دأبت على اتهام حلف “الناتو” بالسعي إلى الأمن على حساب الآخرين والتسبّب في فوضى حول العالم.

بالإضافة إلى بوتين وكيم، وقف بين ضيوف شي الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، في أول ظهور لهما معًا في فعالية واحدة. ومثل كوريا الشمالية، أرسلت إيران كميات هائلة من الأسلحة إلى روسيا لدعم حربها على أوكرانيا، من طائرات مسيرة وقذائف مدفعية إلى صواريخ قصيرة المدى، وفقًا لمسؤولين أميركيين وأوروبيين. كان الحضور المشترك للقادة الأربعة للعرض “مُقلقًا” وسمح لهم بتقديم “واجهة للشراكة”. ومع ذلك، فمن المرجح أن يكون هذا الحدث رمزيًا لبلوغ ذروة شراكتهم، وليس نذيرًا لتعاونٍ رباعي أعمق في ما بينهم، ناهيك عن التحوُّل نحو نظام عالمي جديد بديل. ذلك أنَّ “كوريا الشمالية وإيران هما اللاعبان الأقل تأثيرًا هنا، ولا يملكان سوى نفوذ ضئيل أو معدوم”. وقد برز هذا القيد هذا الصيف عندما شنت الولايات المتحدة غارات جوية على إيران، حيث لم تقدم الصين وروسيا وكوريا سوى القليل من المساعدة باستثناء الإدانة اللفظية للهجمات. وكان الكثيرون من المحللين يرون أن الرئيس الإيراني لن يقوم بهذه الرحلة بعد تلك اللحظة، لأن مصداقية الصين تضررت عندما لم تفعل شيئًا يُذكر لمساعدة إيران. ولكن هل لدى إيران خيارات أفضل من الظهور في هذا الاستعراض؟  على مدار الأيام الثلاثة للقمة التي استضافها شي جين بينغ في تيانجين، وأمام أكثر من عشرين زعيمًا عالميًا، عرض شي أمامهم رؤيته لنظام عالمي جديد، لكي يقول لهم إنَّ الصين قوة تُريد إعادة ضبط القواعد العالمية وهي لا تخشى تحدي قواعد الغرب. وما حاول شي إيصاله هو التأكيد على دور الصين في الشؤون الدولية، وبأن الصين قد وصلت إلى مصاف القوى العظمى، وأنها لن تزول. وقد بدا شي مدركًا تمامًا لهذه الانفراجة التي أتاحها له التغيير في السياسة الخارجية الأميركية.

في خطاباته واجتماعاته مع قادة الدول المجتمعة في تيانجين وبكين، شدد شي على رسالة مفادها أن العالم في حالة من التغير والفوضى، وأن الصين هي القوة المسؤولة والمستقرة لتوجيهه نحو المستقبل. وأعلن شي أنَّ المطلوب من هذه الدول معارضة عقلية الحرب الباردة، كما تعهد بتقديم مئات الملايين من الدولارات كمنح للدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون هذا العام – وإطلاق حملة لإصلاح النظام الدولي.

الرسالة ليست جديدة، لكن بكين تراهن على أن الأمور ستسير على نحوٍ مختلف بعد أن قطعت القوة العظمى العالمية الرائدة شبكتها الواسعة من المساعدات الخارجية، وفرضت تعريفات جمركية مُرهقة على الدول النامية، وأثارت تساؤلات بين حلفائها وشركائها حول ما إذا كانت تدعمهم حقًا.

غير أن الشيء الجديد هذه المرة يتعلق بالخصم التاريخي للصين. فقد شوهد رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي مبتسمًا وضاحكًا أثناء حديثه مع شي إلى جانب بوتين في ذلك الاجتماع – وهو إظهار واضح للدفء من زعيم طالما استقطبته الولايات المتحدة كثقل آسيوي موازن للصين. في الشهر الماضي فقط، فُرضت على الهند تعريفات جمركية بنسبة 50% على صادراتها إلى الولايات المتحدة، نصفها مستحق كعقوبة على مشترياتها من النفط الروسي، الذي ترى الولايات المتحدة أنه يُسهم في تمويل حرب بوتين.

ولكن بقدر ما استخدم شي جدول أعماله المُرتب بدقة لهذا الأسبوع الحافل، لاستعراض دوره القيادي على مجموعة واسعة من الدول، فإنه استخدمه أيضًا للرد على الانتقادات الغربية لعلاقاته طويلة الأمد مع شركاء مثل كوريا الشمالية وروسيا وإيران – والتي يعتبرها الغرب جميعها جهات فاعلة مارقة.

في أعقاب حرب بوتين في أوكرانيا، حذرت أصوات في واشنطن من تنسيق ناشئ بين ما صار يُطلق عليه عنوان “محور الاضطرابات” أو “محور الشراكات الخبيثة المتنامية”، على الرغم من أن الخبراء يقولون إنه حتى الآن لا توجد سوى دلائل قليلة على وجود تنسيق رباعي، على الأقل حتى الآن.

لكن رسالة شي جُزءٌ من رؤية أكثر شمولًا للزعيم الصيني، الذي قد لا يرى لحظة أكثر ملاءمة للإشارة إلى تحالفاته من العرض العسكري، الذي يحيي الذكرى الثمانين لاستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية ودور الصين في محاربة القوة الإمبريالية التي شنت غزوًا وحشيًا استمر لسنوات لأراضيها.

ومثل بوتين، سعى شي إلى الاستفادة من هذا التاريخ لإعادة تشكيل سردية تضع الصين وروسيا، اللتين قاتلتا في الحرب العالمية الثانية، كحارستين لنظام دولي “ما بعد الحرب”، منفصل عن الولايات المتحدة. وفي نظر شي وبوتين، فإن السبب الرئيس للحرب في أوكرانيا اليوم -أو حتى مساعي كوريا الشمالية لتطوير أسلحة نووية- ليس اعتداءات تلك الدول، بل تجاهل الولايات المتحدة وحلفائها “لمخاوفهم الأمنية المشروعة”. ويُلقي خطاب شي وبوتين باللوم على الولايات المتحدة وعلى تحالفاتها وأنظمة القيم التي شكلتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لحلول للأزمات العالمية والمجابهات والتفاوتات في العالم اليوم.

دافع شي من دون أي اعتذار عن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يراه يتعرض لهجوم من قبل القوى الغربية المصممة على عرقلة صعود الصين. وبينما كان يستعرض المشهد العالمي فإنه كان يدعو القادة من كل حدب وصوب إلى جانبه، ليمضي قدمًا في حملة نزع الشرعية عن القيادة الأميركية، وإضعاف التضامن الغربي، ورفع مكانة الصين كبديل موثوق.

أين أوروبا من هذا كله؟

على خلفية اجتماع القادة الأوروبيين مع ترامب في البيت الأبيض في 18 آب (أغسطس) أبرزت صحيفة الغارديان البريطانية في 20 آب (أغسطس) 2025 تساؤلًا لافتَا: هل يمكن أن يصبح دونالد ترامب أعظم موحّد لأوروبا منذ نهاية الحرب الباردة؟ وقد وصف كاتب المقال فابريزيو تاسيناري هذا الاجتماع بأنه “سابقة ديبلوماسية”، حيث اجتمعت أوروبا ممثلة في كل من “الناتو”، والمفوضية الأوروبية، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وفنلندا، لتتحدث “بصوت واحد” في قضية أوكرانيا، بالرغم من التباينات السابقة، بل “الانقسامات المريرة أحيانًا”، كما وصفها. ويُذكّر تاسيناري هنا بموقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بدايات الحرب، حين دعا إلى عدم “إذلال بوتين”. لكن المفارقة، كما يشير الكاتب، أنَّ هذا التماسك الأوروبي جاء بفضل أزمة أشعلها ترامب نفسه. إذ يصف لقاء ترامب مع بوتين في ألاسكا بأنه “قمة مُشينة”، ويؤكد أن الرئيس الأمريكي قد “تراجع عن التهديدات السابقة لروسيا، وفرش السجادة الحمراء للطاغية الروسي، لأسباب قد لا نفهمها أبدًا”. بهذا المنطق، يرى تاسيناري أن ترامب، رُغم أنه يُفكك ما تبقى من “الغرب”، إلا أنه، إلى جانب بوتين، “يثبت من دون قصد أنه يشكل القوة الخارجية التي تعيد تشكيل الهوية الجماعية لأوروبا، وبالتالي يصبح أعظم موحّد لها منذ نهاية الحرب الباردة”. وقد أبرز الكاتب ما وصفه بتجانس نادر في الموقف الأوروبي، بالرغم من بعض التباينات، إذ اتفق القادة على ضرورة تقديم ضمانات أمنية قوية لأوكرانيا، والحفاظ على وحدة الجبهة الغربية، والسعي نحو سلام عادل ودائم.

أوروبا ستبدأ رحلة بحث جديدة

ما إن تخلّص الإعلام الأوروبي من صدمته حتى بدأ ينتقد طريقة التعامل مع بلدانه. فالدول الأوروبية، التي دفعت وما تزال تدفع ثمن الحرب، تُعامل بوصفها لاعبًا من الدرجة الثانية في محادثات السلام، وهذا سيشعل في داخلها نقاشات معمقة وجادة.

غير أنَّ الأوروبيين لا يملكون ترف الغضب أو رفع الصوت في وجه ترامب، فهم يدركون جيدًا أنهم يعيشون منذ قرابة ثمانين عامًا تحت مظلة الحماية الأميركية. إذ تبقى الولايات المتحدة هي الممول الأكبر للناتو، وصاحبة أعلى ميزانية دفاع.

في المقابل، اختارت أوروبا طوال هذه العقود عدم بناء جيوشها، ولا الاستثمار في صناعاتها الدفاعية، منصرفة إلى ترف التجميل والانشغال بقضايا “رفاهية”. ولكن حين اقتربت روسيا من أبوابها، اكتشفت فجأة أنها لا تملك صواريخ، ولا طائرات، ولا أنظمة دفاع جوي. وتبين أن كل تلك الوسائل تأتي من أميركا، وأن لا سبيل لها لمواجهة روسيا من دونها. الآن بدأ الأوروبيون يُدركون خطورة الموقف. ولكن لتتمكن أوروبا من بناء دفاع ذاتي حقيقي، فهي تحتاج إلى مئات المليارات من اليوروهات، وإلى ما لا يقل عن 15 عامًا.

لكن خلال هذا الزمن الطويل، من يعلم كيف سيكون شكل العالم؟ وأين ستكون الدول الأخرى؟

(الحلقة الأخيرة: الاتحاد الأوروبي، صحوة مؤلمة).

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى