دروز سوريا: الأقلِّيةٌ العالقةُ بَينَ مَطرَقَةِ الجهاديين وسندانِ التَهميش
كابي طبراني*
في خِضمِّ مَشهَدٍ سوريٍّ مُتَصَدِّعٍ بعدَ أكثر من عقدٍ من الحرب، يطلُّ الدروز كأقلّيةٍ صغيرة لكنّها تاريخية، تُحاولُ النجاةَ وَسطَ انهيارِ الدولة وصعودِ قوى متشدّدة. هم ليسوا مجرّدَ طائفةٍ عابرة، بل جماعةٌ مُتجذّرة في جبل العرب، حملت السلاح في وجه الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي، وشاركت في صنع الدولة السورية الحديثة، لكنها اليوم تُواجِهُ خَطرَ التهميش والإبادة. قصَتُهُم ليست مجرّدَ قصّة ضحية، بل هي قصةُ مُجتمعٍ عالقٍ بينَ مطرقةِ السلطة المركزية وسندانِ التطرُّفِ الإسلامي، يبحثُ بيأسٍ عن موطئِ قدمٍ في سوريا التي لم تَعُد موجودة.
تاريخيًا، نجا الدروز من خلالِ مزيجٍ من العزلة الجغرافية، والتماسُك العشائري، والواقعية السياسية. اختاروا الجبال عمدًا، مُتَّخذين من عزلتهم درعًا يحميهم من الاضطهاد، ومساحةً لتنمية استقلاليتهم. على عَكسِ المسيحيين أو الشيعة، لم يَبنِ الدروز قط مراكزَ حضرية خاصة بهم، مُفَضِّلين ترسيخ وجودهم في مجتمعاتٍ ريفية متماسكة تربطها أواصر القرابة والدين. خلقت تقاليدهم -الزواج من الأقارب، والإيمان بالتقمُّص، وتبجيل شيوخهم العقلاء، والشعور العميق بالأخوّة- تضامنًا داخليًا ملحوظًا. وقد مكّنهم هذا التضامن من تحمّل الاضطهاد، والحفاظ على هويتهم، ولعب أدوار بارزة في السياسة الإقليمية رُغمَ قلّة عددهم.
في سوريا، بلغ نفوذهم ذروته خلال منتصف القرن العشرين. رسّخت قيادة سلطان باشا الأطرش للثورة الكبرى (1925-1927) مكانة الدروز كرموزٍ للقومية السورية، بينما أتاحت لهم مشاركتهم اللاحقة في الدولة البعثية الوصولَ إلى السلطة مؤقتًا. إلّا أنَّ التاريخ انقلب عليهم في العام 1966، عندما أدّى انقلابٌ فاشل قادهُ ضباطٌ دروز إلى تطهيرٍ وحشيّ. ومنذ ذلك الحين، صعدَ العلويون وتدهوَرَ وَضعُ الدروز. ومع ذلك، تكيّفوا: داعمين نظام حافظ الأسد العلماني مقابل فُرَصٍ اقتصادية وحمايةٍ من الهيمنة السنّية. ومرّةً أخرى، كانت البراغماتية سبيلهم للبقاء.
لكنَّ انتفاضةَ العام 2011 أطاحت هذا الترتيب الهَشّ. تردّدَ الدروز في الانضمام إلى ثورةٍ قادها إسلاميون سُنّة متشدّدون نظروا إلى الأقليات، وخصوصًا غير التقليدية منها، برَيبةٍ في أحسن الأحوال وكُفّارٍ في أسوَئِها. إنَّ ذكرياتَ التهميش الذي تعرَّضَ له الدروز من قبل الطائفة السنّية ما زالت عالقة في الأذهان، كما أدّى صعودُ الفصائل الجهادية، مثل “جبهة النصرة” وتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، إلى تحويل الحذر لدى الدروز إلى خوفٍ صريح. عندما أقدمَ الجهاديون على ذبح الدروز في إدلب في العام 2015 ولاحقًا في السويداء في العام 2018، كان اختيارُ المجتمع للانحيازِ إلى نظام بشار الأسد مُبَرَّرًا في نظرهم. ومع ذلك، جاء الولاءُ بتكلفةٍ باهظة. أهملَ النظام المناطق الدرزية، واستخدَمَ عمليات الخطف والحصار كإكراه، بل وقضى على القادة المعارضين مثل الشيخ وحيد البلعوس. لقد ثبتَ أنَّ الحياد، أو حتى المعارضة الهادئة، شيئان مُستحيلان.
بحلول الوقت الذي انهارَ فيه نظام بشار الأسد أواخر العام 2024، كانَ الدروز مُنهَكين للغاية ومُنقَسِمين بشدّة. استقبلوا سقوط النظام بارتياح، لكنهم قابلوا صعودَ حكومة أحمد الشرع المدعومة من الجهاديين بقلق. لم يَكُن تشكّكهم نابعًا من “بارانويا” أو جنون الارتياب، بل كانَ نابعًا من تجربةٍ قاسية. وقد أكّدَت مجازر العلويين في الساحل السوري مطلع العام 2025، ومذبحة المدنيين الدروز في ضواحي دمشق بعد بضعة أشهر، أسوأ مخاوفهم. بالنسبة إلى الدروز، بدت “سوريا الجديدة” أشبه، بشكلٍ مخيف، بالشرق الأوسط القديم، الذي عانوا فيه من الاضطهاد والإقصاء.
كانَ رَدُّ فعلهم براغماتيًا بطبعه، وإن كان مُتشَظّيًا. طالبَ مُعسكرٌ، بقيادة الشيخ حكمت الهجري، ببقاءِ السلاح في أيدي الدروز، ورَفَضَ التعاوُنَ مع نظامٍ يُهيمنُ عليه قادةٌ جهاديون. واتجهَ مُعسكرٌ آخر نحو التفاوض، ساعيًا إلى الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من استقلالية من خلال التنازلات. يشتركُ المعسكران في قناعةٍ واحدة: البقاءُ يعتمد على الدفاع عن النفس، لا على حُسنِ نيّة دمشق. لكن على عكس الأكراد، يفتقرُ الدروز إلى العدد والأرض والرعاية الدولية اللازمة للسعي إلى استقلاليةٍ كاملة. لقد تُرِكوا في حالةٍ من الغموض – أقوياءٌ بحيثُ لا يمكن القضاء عليهم تمامًا، وأصغر من أن يَفرضوا مشروعهم السياسي الخاص.
هذا الوَضعُ المُتأرجِِحُ ازدادَ خطورةً بفعل الظلِّ الإسرائيلي. لعقودٍ، راوَدت الاستراتيجياتُ الإسرائيلية فكرةَ إقامةِ دولةٍ درزية عازلة في جنوب سوريا، وهي خطة مُتجذّرة في مخيَّلة إسرائيل الأمنية أكثر منها في تطلُّعات الدروز. وبينما يخدمُ الدروز الإسرائيليون بإخلاص في الجيش الإسرائيلي وأصبحوا جُزءًا لا يتجزّأ من نسيج الدولة العبرية، لا يزالُ أقاربهم عبر الحدود حذرين من وصمهم بالعملاء. ومع ذلك، بينما تحاصرهم الميليشيات الجهادية، وفيما تسعى دمشق إلى إخضاعهم من خلال الحصار والمجازر، تصبح الحماية الإسرائيلية إغراءً ووصمة عار. قدّمَ تموز (يوليو) 2025 مثالًا صارخًا: عندما قتلت القوات المدعومة من النظام والقبائل البدوية أكثر من ألف درزي في السويداء، تدخّلت الغارات الجوية الإسرائيلية لصدِّ القوات الحكومية. ولأوّلِ مرة منذ سبعينيات القرن الماضي، نصّبت إسرائيل نفسها علنًا كدرعٍ خارجي لحماية الدروز. لكن هذه الحماية يُمكنُ أن تتحوّلَ بسرعة إلى تَبَعِيّة، والتبعية إلى فقدان القدرة على التصرُّف.
ما يُطالبُ به الدروز ليس امتيازات، بل الأمن والتمثيل والكرامة. شروطُ الشيخ الهجري للتطبيع مع النظام الجديد -السيطرة المحلية على أمن الدروز، والتمثيل السياسي العادل، وجيش وطني حقيقي- ليست مطالب جذرية، بل شروطٌ أساسية للتعايش في سوريا التعددية. إلّا أنَّ الطابعَ الجهادي للقيادة الحالية يجعلُ حتى هذه الشروط المتواضعة غير مؤكّدة. بالنسبة إلى الأقليات، نادرًا ما كان الخط الفاصل بين الإدماج (الشمول) والإبادة أرقّ من هذا.
المشهد السوري الأوسع لا يزيد الأمر إلّا قتامة. فالدولة تحوَّلت إلى فسيفساء من الميليشيات الطائفية. كلُّ جماعةٍ تحتمي بسلاحها، فيما يختفي مفهوم المواطنة الجامعة. مصيرُ الدروز هنا ليس حالةً معزولة، بل صورةٌ مصغّرة عن مأساة بلد بأكمله. إن لم يحصلوا على ضماناتٍ حقيقية، فقد ينتهي بهم الحال مثل الأرمن والآشوريين من قبلهم: شعبٌ مُشرّدٌ يروي قصةَ وطنٍ ضاع.
اليوم، يقف الدروز أمام مفترق طرق حاسم. إما أن ينجحوا في حمايةِ أنفسهم عبر البراغماتية والشجاعة التي عُرِفوا بها تاريخيًا، أو ينزلقوا نحو التهجير والتلاشي. لكن بقاءهم لن يُحدَّدَ بشجاعتهم وحدها، بل أيضًا بقدرة سوريا على التعلّم من مأساتها، وباستعدادِ المجتمع الدولي للاعتراف بأنَّ بقاءَ الأقليات ليس رفاهية، بل شرطٌ أساسي لبقاءِ أيِّ وطن.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani