على الولايات المتحدة أن تَتَوَقَّفَ عن تَقويضِ مِصداقِيَّة لبنان
مايكل يونغ*
لا يزالُ نهجُ إدارة دونالد ترامب تجاه لبنان غامضًا. ليس الأمرُ أنَّ المسؤولين الأميركيين لم يُفَصّلوا أو يُوَضِّحوا النتائج التي يرغبون رؤيتها في البلاد، بل يبدو أنهم لا يبذلون جهدًا يُذكَرُ لتحقيقها. والأسوأُ من ذلك، أنَّ أفعالهم تُشَوِّهُ سمعة رئيس حمهورية وحكومة حريصَين على التعاون مع واشنطن.
ما هي الأهداف الرئيسة للمبعوث الأميركي آموس هوكستين، الذي جاء إلى بيروت في العام الفائت لإتمام اتفاق وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل؟ كان الهدفُ الأول هو تطبيق نسخةٍ مُوَسَّعة من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي فَرَضَ، من بين أمورٍ أخرى، نزعَ سلاح “حزب الله” جنوب نهر الليطاني (بالإضافة إلى نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان، بما يتماشى مع القرار 1559).
عزّز هوكستين آلية تنفيذ القرار 1701 بمَنحِ إسرائيل خطابًا جانبيًا يسمح لها باستهدافِ أسلحة “حزب الله” حتى بعد تطبيق وقف إطلاق النار في حال فشل اللبنانيين في وَضعِ حدٍّ لأيِّ انتهاكات. ومن الناحية السياسية، كان هدفه رعاية المحادثات بين لبنان وإسرائيل في ما بعد بشأن ترسيم الحدود البرية بينهما، وحل الخلافات العالقة حول النقاط الحدودية، وبالتالي إزالة أي مبرّر ل”حزب الله” للاحتفاظ بأسلحته.
الأهم من ذلك، أنَّ اتفاقَ وقف إطلاق النار وَضَعَ آليةً لإنهاءِ احتلال إسرائيل للأراضي اللبنانية خلال فترةٍ “لا تتجاوز 60 يومًا”. انتهى هذا الموعد النهائي في كانون الثاني (يناير) الفائت. مع ذلك، أصرّ الإسرائيليون على البقاء في خمسِ تلالٍ لبنانية على طول الحدود، خشية أن يرفعَ “حزب الله” أعلامه هناك ويُثني سكان الشمال الإسرائيليين عن العودة إلى ديارهم.
وافقت إدارة ترامب بدورها على ذلك، ولا تُوجَدُ أيُّ مؤشّرات إلى موعدِ انسحاب الإسرائيليين الكامل من لبنان، أو حتى ما إذا كانوا سيسحبون قواتهم. منذ ذلك الحين، واصل الجيش اللبناني سحب وإزالة أسلحة “حزب الله” في جنوب الليطاني، لكن بالمقابل لم يُحرَز أيُّ تقدُّمٍ في مطالب لبنان: الانسحاب الإسرائيلي الكامل؛ وإعادة الأسرى اللبنانيين المحتجزين لدى إسرائيل؛ وترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل.
في آذار (مارس)، وردت أنباءٌ تُفيدُ بأنَّ لبنان وإسرائيل اتفقتا على تشكيلِ مجموعات عمل لمعالجة القضايا الثلاث العالقة. إلّا أنَّ هذا لم يكن صحيحًا. ذلك أنَّ اللبنانيين لا يرغبون في تشكيلِ مجموعات عمل، إذ قد يُوحي ذلك بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو ما يسعون إلى تجنّبه. كما إنَّ لبنان لا يحتجزُ أسرى إسرائيليين ولا يحتلُّ أراضٍ إسرائيلية، مما يجعل تشكيل لجان لهذه المسائل غير ضروري.
بدلًا من ذلك، يُفضّلُ اللبنانيون العملَ في إطارِ لجنةٍ فنّية عسكرية، على غرار تلك التي شاركت في ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل في العام 2022. ويبدو موقف إدارة ترامب في هذا الصدد غير واضح. وبينما يرغب الأميركيون في أن يتحدث اللبنانيون مع الإسرائيليين، لم تُثِر المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، في زيارتها الأخيرة لبيروت في نيسان (أبريل)، مسألة اللجان الثلاث، بل اكتفت بالمفاوضات بشكلٍ عام.
بحسب تقارير إخبارية، اقترح رئيس الوزراء اللبناني نوّاف سلام على أورتاغوس استئناف الديبلوماسية المكّوكية التي كان يقودها سلفها، هوكستين. وبينما أشارت التقارير إلى أنها تفاعلت بإيجابية مع الاقتراح، لم يُشِر أيُّ شيءٍ منذ ذلك الحين إلى نيّتها اتخاذ إجراء بشأنه. وهذا ما يُشعِرُ اللبنانيين بحالةٍ من عدم اليقين.
وما يُثير قلقهم أيضًا هو أنَّ لجنة المراقبة المُنشَأة بموجب اتفاق وقف إطلاق النار لم تُحرِّك ساكنًا للحدِّ من الانتهاكات الإسرائيلية المتكرّرة للاتفاق. في الواقع، شعر اللبنانيون بالإحباط من الغياب الطويل للجنرال الأميركي، جاسبر جيفرز، الذي يرأس اللجنة. وعندما وصل أخيرًا إلى بيروت في نيسان (أبريل)، لم يكن ذلك إلّا لتقديم خليفته، الجنرال مايكل ليني، الذي سيكون، وفقًا للسفارة الأميركية في بيروت، “قائدًا عسكريًا أميركيًا رفيع المستوى متفرِّغًا في بيروت”.
وإذا اعتُبِرَ هذا تنازُلًا أميركيًا للبنانيين، فهو بالكاد أن يكون كافيًا. فالاحتلالُ الإسرائيلي يُضرُّ بمصداقية الرئيس اللبناني جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، اللذين أكّدا على ضرورة تسليم “حزب الله” سلاحه والسماح للجيش اللبناني بالدفاع عن حدود لبنان. بدلًا من ذلك، اشترط مسؤولو “حزب الله” الآن انسحاب إسرائيل لمناقشة أسلحة الحزب.
ولا يُوجَدُ ما يشيرُ إلى أنَّ أورتاغوس بذلت جهودًا كبيرة لدفع الأمور قُدُمًا خلال وجودها في بيروت. نشرت السفارة الأميركية على منصّة التواصل الاجتماعي “إكس” (X) أنَّ مناقشاتها كانت “صريحة”، مما يوحي على ما يبدو بأنَّ الأميركيين ضغطوا على اللبنانيين لتسريع نزع سلاح “حزب الله”. يبدو هنا أننا في مأزق، حيث لا يمكن للبنانيين التقدُّم بشأن أسلحة الحزب حتى تسحب إسرائيل قواتها من الجنوب، بينما لن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل للانسحاب حتى يوافق “حزب الله” على تسليم سلاحه.
الأمرُ الأكثر عبثية وغرابة هو أنَّ الإسرائيليين انتهكوا اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوضت عليه الولايات المتحدة، وذلك بفضل الرسالة الأميركية الجانبية التي سمحت لهم بذلك. بمعنى آخر، طرحت واشنطن اتفاقيتَين مُتعارِضَتَين. إذا كانت هذه هي استراتيجيتها، فهي غير منطقية.
يُزعم أنَّ هدفَ الولايات المتحدة هو دعمُ الدولة اللبنانية كقوّة موازِنة ل”حزب الله”، حتى تتمكّن من التفاوض على تسليم سلاحه. ومع ذلك، من السخافة الاعتقاد بإمكانية تحقيق ذلك من خلال إظهار مدى عجز الدولة في مواجهة إسرائيل. ما لم يُغيِّر الأميركيون توجُّههم، فإنهم سيُضعِفونَ مَن يسعون إلى دعمهم ضد “حزب الله”، الذي لا يمكنه في هذه الحالة إلّا أن يستفيدَ من هذا الوضع الشاذ.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.