خطّة “فون دِير لاين” الدفاعية بين الواقعية والدون كيشوتية

السفير يوسف صدقه*

تُعَدّ “أورسولا فون دير لاين” (Ursula von der Leyen) من الشخصيات السياسية البارزة في السياسة الأوروبية، وهي أول امرأة تتولّى رئاسة المفوضية الأوروبية حيث تبوّأت المنصب في العام 2019.

ولدت أورسولا فون دير لاين في العام 1958 في عائلة سياسية من النبلاء الالمان. وقد نشأت في بيئة منفتحة، مما ساهم في تشكيل رؤيتها ومهاراتها اللغوية وسعة أفقها الثقافي.

شغلت مواقع وزارية عدة في الحكومة الألمانية قبل انتقالها الى الساحة الاوروبية، ومن بينها وزيرة الأسرة والعمل، وقد تولت وزارة الدفاع من العام 2013 حتى العام 2019 ، وقد ركزت في عملها على تحديث القوات المسلحة، وتطويرها في ظل التغييرات الجيوسياسية. وقد مثلت دورًا مهمًّا في صياغة السياسات الوطنية التي تهدف إلى تعزيز الدفاع الاجتماعي والاقتصادي، مما أكسبها سمعة طيبة على المستوى السياسي في ألمانيا والاتحاد الأوروبي.

1- رئاسة المفوضية الاوروبية أمام التحديات:

تولت فون دير لاين في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 رئاسة المفوضية، بناءً على دعم وترشيح رئيسة الوزراء الألمانية السابقة أنغيلا ميركل. وكانت أول امرأة تتقلّد هذا المنصب في تاريخ الاتحاد الاوروبي.

ركّزت في برنامج عملها على الأولويات الاستراتيجية التالية:

التحوُّل الرقمي: يتضمّن برنامجها دعم مبادراتٍ تهدف إلى تعزيز التحوّل الرقمي في أوروبا، وبالتالي تطوير البنية التحتية الرقمية، والابتكار في الذكاء الاصطناعي.

المناخ والبيئة: لعبت دورًا فعّالًا في تعزيز السياسات البيئية ومواجهة تحديات التغيّر المناخي، من خلال الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتطبيق معايير بيئية صارمة.

التكامل الاوروبي: عملت على تعزيز التكامل الاوروبي وتوحيد الجهود بمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية بعد جائحة كوفيد 19، مع التركيز على تعزيز التماسك والتضامن بين دول الاتحاد.

2- التحديات امام مستقبل الاتحاد الأوروبي

تعتبر فون دير لاين رمزًا للتجديد والتحديث في أوروبا، فهي تقود المفوضية خلال فترة عصيبة، تتسم بالتحوّلات الجيوسياسية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. ومن المتوقع أن يواجه الاتحاد الاوروبي تحديات تشمل مواجهة التطورات على السياسة الدولية والتوصل الى توازن بين المصالح الوطنية والدولية للدول الاعضاء داخل الاتحاد الأوروبي.

تعمل فون دير لاين ، على إعادة تشكيل مفهوم الأمن الأوروبي ضمن زاويةٍ أوسع تعتمد على التكامل الاوروبي والاستقلالية الاستراتيجية، إلّا أنَّ هذا المشروع تعرّض لانتقادات واسعة.

نعرض في هذا السياق مشروع فون دير لاين الدفاعي:

أ- مشروع الامن الاوروبي

تسعى فون دير لاين إلى تعزيز القدرات الدفاعية للأوروبيين من خلال تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية التي تتمثل في التقليل من الاعتماد الأوروبي علي الولايات المتحدة، من طريق تشجيع الابتكار في مجالات الدفاع والتكنولوجيا العسكرية، بحيث يتمكن الاتحاد من اتخاذ قرارات مستقلة إزاء التحديات الاستراتيجية.

وبذلك تسعى المفوضية الأوروبية إلى تحقيق تنسيق متكامل بين الدول الاعضاء في مجال الإتفاق العسكري وتطوير تقنيات الدفاع. وقد شمل المشروع إطلاق مبادرات مثل “الصندوق الأوروبي للدفاع” الذي يهدف إلى دعم مشروعات شراء وتطوير صناعات دفاعية أوروبية. كما يقوم المشروع أيضًا على تطوير آلياتٍ للتصدّي للهجمات السيبرانية ومواجهة الهجومات الرقمية المتزايدة التي تستهدف البنى التحتية للدول الأعضاء في الاتحاد.

ب- مشروع الموازنة الدفاعية البالغ 700 مليار دولار

عرضت فون دير لاين مشروع موازنة دفاعية تبلغ 700 مليار دولار يهدف لتحديث وتعزيز القدرات العسكرية في مواجهة التحديات المتزايدة سواء كانت تقليدية أو جديدة (الهجمات السيبرانية). يعتبر المشروع بالنسبة إلى المفوضية ركيزةً استراتيجية لضمان الردع، والاستعداد لمواجهة السيناريوهات العسكرية المحتملة في ظل تغيير ميزان القوى على الساحة الدولية ولا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

يرى بعض الدول الأوروبية أنَّ اتخاذَ موقفٍ حازم من روسيا وزيادة الإنفاق الدفاعي، قد يعزز قدرة دول الاتحاد على الردع العسكري ويقلل من احتمال نشوب صراعات مباشرة.

ويُعَدُّ هذا الإنفاق العسكري الكبير في مجال الدفاع استراتيجية شاملة لحماية الأمن القومي للاتحاد الاوروبي، ومن جهة أُخرى يرى بعض الدول الاوروبية المعارضة للمشروع أنَّ مواقف الاتحاد الاوروبي المعارضة والمتطرفة إزاء روسيا، والإنفاق العسكري قد يؤديان إلى تصعيد الأوضاع وزيادة احتمالات نشوب نزاعات إقليمية ودولية نتيجة التأزم وتصاعد لغة التهويل والحرب. كما إنَّ ضَخَّ مبلغٍ ضخم في القطاع الدفاعي، في ظل تراجع الاقتصادات الأوروبية وأزمة الطاقة، سيؤدي الى النقص في الاستثمارات الاجتماعية الأخرى مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، مما قد يؤدي إلى ضرب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لدول الاتحاد.

يتمثل موقف الاتحاد الاوروبي المتطرف من روسيا ومشروع الموازنة الدفاعية البالغ 700 مليار دولار استراتيجية متوسطة الأمد تهدف الى تعزيز الردع العسكري في مواجهة التحديات الجيوسياسية الحديثة.

3- تقييم لرئاسة فان دير لاين

أبدت رئيسة المفوضية الاوروبية صراحة وشجاعة في إدارة المفوضية، ولم تسمح للمفوَّضين المساعدين التصرّف بتصريحات وممارسات مخالفة لسياستها، وقد تصرّفت كإمرأة حديدية تُمسِك بكل أوراق القوة في المفوضية، ما أدّى إلى استقالة بعض المفوضين الأوروبيين المساعدين لها. وقد تدخلت وحاولت إبراز استراتيجيتها في مجال الدفاع المشترك باعتبارها عملت سابقًا وزيرة للدفاع في الحكومة الألمانية خلال فترة أنغيلا ميركل.

وكان على فون دير لاين ان تؤمّن التوازن بين مشروعها للدفاع الباهظ التكاليف والالتزام بمبادرات ديبلوماسية تتيح الفرص للحلول السلمية وخصوصًا بين روسيا وأوكرانيا، بدل التمسك بالحرب عبر دعم الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا بدون أفق وبدون محاولة فرض الحلّ الديبلوماسي على روسيا.

إنّ توفير موازنه 700 مليار دولار للدفاع الأوروبي هي مبادرة إيجابية لتعزيز الأمن الاوروبي من الناحية النظرية. والسؤال المطروح هل إنَّ الدول الأوروبية إزاء الأوضاع الاقتصادية الصعبة والعجز الكبير في الموازنات، قادرة على توفير هذا المبلغ الضخم، والذي سيؤثر في الموازنات والتقديمات الاجتماعية في دول الاتحاد؟

إنَّ المبالغة من الرهاب الروسي والخوف المرضي من اجتياح روسيا لأوروبا يشكل وهمًا تتذرع به معظم الدول الأوروبية و”الناتو”.

كيف يمكن لجيش روسي مرهق ومنهك، يضطرُّ إلى استقدام قوات من كوريا الشمالية ومرتزقة من الصين للدفاع عن أرضه، على اجتياح اوروبا ؟

والسؤال المطروح أيضًا: هل أنَّ الرئيس دونالد ترامب هو باق إلى الأبد، لتُنجز فان داير لاين استراتيجية دفاعية لا تأخذ بعين الاعتبار التغيير الذي قد يحصل بعد ترامب، وإمكانيات إنجاز الحلول السلمية بين روسيا وأوكرانيا في محادثات السعودية؟

من المعروف أنه لا ثوابت جامدة في التاريخ السياسي لأيِّ دولة، أو في علاقاتها مع الدول الأخرى. فيمكن أن يدفع تغيير الأوضاع بأي رئيس دولة، أن يغيّر قناعاته وخياراته السياسية.

كما إنه في الأنظمة الديموقراطية حيث الشعب هو مصدر السلطة، فلا يتمتع أيُّ مسؤول سياسي بولايةٍ أبدية، وغالباً ما يؤدي تداول السلطة بالانتخاب إلى تغيير التوجهات والخيارات السياسية. وهذا ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية، حيث انتقل الحكم من الحزب الديموقراطي إلى الحزب الجمهوري بعد انتخاب ترامب. ويبدو أنَّ السياسة الدفاعية لأوروبا التي تفتقر إلى البراغمائية، والتي تدعو إليها فون دير لاين، تأخذ بعين الاعتبار إمكانية التبدّل والتحوّل في السياسة الأميركية. والمطلوب من فون دير لاين أيضًا التخلي مؤقتًا عن عصا الماريشالية ودعم الحلول السلمية.

فهل تتذكر فون دير لاين قول المؤرخ والشاعر الاسكتلندي والتر سكوت (Walter Scott) عن أهوال الحرب: لماذا الظمأ للقتال؟ ماذا يبقى لكم وتفوزون منه بعد كل الدم الذي سال، والآلام التي عاينتموها وكل الدموع التي تسببت بها أعمالكم؟ ماذا يبقى لكم بعدما يحطّم الموت حراب الرجال الأقوياء؟ المجد وأسفاه ما هو المجد؟ درعٌ واهٍ يسمّونه إكليلًا يعلّقونه فوق قبر الجندي المعتم والمتفسّخ، والكتابة فوق لوحة لا يستطيع قراءتها الأمّيون.

  • السفير يوسف صدقه هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى