البابا فرنسيس: قائدٌ مُجَدّدٌ سعى إلى تصحيح أخطاء الكنيسة

هاني مكارم*

توفي البابا فرنسيس، زعيم الكنيسة الكاثوليكية منذ العام 2013، عن عمرٍ يناهز 88 عامًا في مقر إقامته بروما. وقد استوحى خورخي ماريو بيرغوليو اسمه البابوي من القديس فرنسيس الأسيزي، نظرًا لتأييده للعفة والفقر كأساسٍ للحياة.

وبصفته البابا، غرس فرنسيس إيديولوجيته الخاصة في الكنيسة، ساعيًا إلى تعزيز الالتزام الديني الفردي، ومساعدة الفقراء، ورعاية مبادئ الإنجيل الأساسية كالصَدَقة والتواضُع والمحبة. وقد دفعه نهجه الزهدي إلى تجنّب الإقامة الفاخرة وزخارف الفاتيكان، مُفضِّلًا أسلوب حياةٍ أبسط وأكثر تواضعًا.

وكان من دواعي سروره أن ينضمَّ الفاتيكان إلى القادة المسلمين لصياغة وثيقة الأخوة الإنسانية لعام 2019 -التي وُقّعت في أبوظبي- لتعزيز الحوار والتعايش والتفاهم والاحترام المتبادل في حوارٍ مسيحي-إسلاميٍّ راقٍ. كانت زيارته للإمارات العربية المتحدة أول زيارة من نوعها لبابا كاثوليكي إلى شبه الجزيرة العربية. وقد مثّلت هذه الرحلة التاريخية توطيدًا للعلاقات مع العالمين الإسلامي والعربي.

كان حريصًا على نشر رسالته إلى أقاصي الأرض، وخصوصًاً إلى الشرق الأوسط، وقد تجسّد ذلك في أولى زياراته البابوية إلى الإمارات والبحرين والعراق. قام البابا فرنسيس بجولة في مناطق العراق، بعد فترة وجيزة من سيطرة “داعش” عليها، على مدى أربعة أيام في العام 2021، في أول زيارة خارجية له منذ تفشي فيروس كورونا في العام الذي سبق.

مُحاطًا بمجتمعٍ مُحطّم وكنائس الموصل المُدمّرة، قاد البابا فرنسيس صلواتٍ عامة وأقام قداسًا في ملعب فرانسوا الحريري في أربيل، حضره عشرة آلاف مؤمن. وفي تأمله للنزوح والقتل الذي ارتكبه الإرهابيون في ما أسماه “مهد الحضارة”، وجّه البابا فرنسيس رسالة أمل: “اليوم، نُؤكّد قناعتنا بأنّ الأخوّة أقوى من قتل الأخوة، وأنّ الأمل أقوى من الكراهية، وأنّ السلام أقوى من الحرب”. وفي طريقه إلى العراق، وجّه رسائل إلى إسرائيل وفلسطين والأردن أثناء تحليقه فوقها.

وُلِدَ ونشأ في حي فلوريس المترامي الأطراف بضواحي بوينس آيرس في 17 كانون الأول (ديسمبر) 1936، وتلقى تعليمًا متواضعًا في بيئةٍ من الطبقة المتوسطة. ترك المدرسة حاملًا ديبلومًا في الكيمياء وعمل في مختبر أغذية. انضمَّ إلى اليسوعيين في سن العشرين، ودرس العلوم الإنسانية، ودرّس علم النفس والأدب في ستينيات القرن الماضي. وتُوِّج ذلك العقد برسامته كاهنًا، ثم أعقبته فترة عصيبة قضاها أستاذًا للاهوت خلال معظم سبعينيات القرن الفائت في ظل المجلس العسكري الأرجنتيني. على الرُغم من تجاهله كبديل للبابا يوحنا بولس الثاني لصالح الكاردينال راتزينغر -الذي أصبح البابا بنديكت في العام 2005- وتنحّيه عن منصبه كرئيس أساقفة بوينس آيرس في العام 2011 بموجب قانون الكنيسة لبلوغه الخامسة والسبعين من عمره، فقد انتُخِب بابا في 13 آذار (مارس) 2013، بعد أن صدمت استقالة بنديكت المفاجئة العالم.

رحّب قادة مسلمون في موطنه الأرجنتين بتعيينه، قائلين إنه “أثبت دائمًا أنه صديقٌ للمجتمع المسلم”. وطوال هذه الفترة، اشتهر بإخلاصه، وتبنى في كثير من الأحيان فضائل التفاني الأسري، والصلاة، والكرم، والاعتدال، والسكينة، واحترام الطبيعة، والموقف الإيجابي، وبالطبع، السلام.

بدون أن يُحدِثَ تغييرًا جذريًا في الكنيسة الكاثوليكية -وحتى مع الحفاظ على الكثير من تقاليدها الراسخة، مثل دعم حظر انضمام النساء إلى الكهنوت- إلّا أنَّ قيادته انحرفت عن تحفُّظ سلفه، الذي شابت فترة ولايته فضائح وشوّهت سمعته مزاعم التستر على الاعتداءات.

ولمقاومة التطرُّف والتعصُّب، جعل البابا فرنسيس من الأخوّة التاريخية إحدى السمات المميزة لبابويته. اتّخذ القرار خلال غداء مفاجئ مع الإمام الأكبر للأزهر، الدكتور أحمد الطيب، وختم زيارته إلى الإمارات العربية المتحدة، التي زار خلالها جامع الشيخ زايد الكبير واحتفل بالقداس البابوي في ملعب مدينة زايد الرياضية، بحضور آلاف الكاثوليك المقيمين في الإمارات والزائرين من دول الخليج الأخرى.

أوضحت الوثيقة التهديد الذي يشكله التعصب والعنصرية والتمييز على الاستقرار والأمن العالميين. بعد توقيعها، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بإقامة يوم عالمي للأخوة الإنسانية.

كما أُنشئت اللجنة العليا للأخوة الإنسانية -التي تعمل بشكل مستقل على تعزيز قيم الأخوة الإنسانية- ومقرها أبوظبي، وتضم علماء دين وشخصيات دولية بارزة في مجالات الثقافة والتعليم. كما أُنشئت جائزة زايد للأخوة الإنسانية في العام 2019، ومُنحت للبابا فرانسيس والإمام الأكبر.

وتحدث البابا فرانسيس بانتظام ضد الصراعات حول العالم، وفي كانون الأول (ديسمبر) 2024، استخدم خطابه بمناسبة عيد الميلاد لتسليط الضوء على المحنة المروعة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر، واصفًا الوضع الإنساني بأنه “خطير للغاية”. وطوال فترة الحرب بين إسرائيل و”حماس”، كان يُجري مكالمات هاتفية متكررة مع كنيسة العائلة المقدسة في مدينة غزة للاطمئنان على أحوال المسيحيين الذين لجَؤوا إليها. قال الأب كارلوس فيريرو، كاهن الرعية الكاثوليكية الوحيدة في غزة: “يحثّنا البابا على الإيمان، ويقول إنَّ الكنيسة بأكملها تصلّي من أجل السلام. إنه يشجعنا دائمًا”.

لم تكن بابوية البابا فرنسيس خالية من المشاكل، إذ كانت مشبعة بنوع من الليبرالية نابعة من وعي عميق بما اعتبره عيوبًا سابقة في الكنيسة. فشلت مساعيه لإلغاء شرط العزوبة داخل الكهنوت بعد صدام مع التقليديين، لكنه استمرَّ في التحدث علنًا ضد الفساد المتأصّل والراسخ داخل المؤسسة، مُجبِرًا على تصحيح الأخطاء السابقة. في كانون الثاني (يناير) 2018 في سانتياغو، تشيلي، التقى بناجين من اعتداءاتٍ جنسية على أيدي كهنة كاثوليك واعتذر عن “الضرر الذي لا يمكن إصلاحه” الذي لحق بهم بينما كانوا يذرفون الدموع معًا. قال آنذاك: “أنا واحدٌ مع إخوتي الأساقفة، لأنه من الصواب طلب المغفرة وبذل كل جهد ممكن لدعم الضحايا، حتى مع التزامنا بضمان عدم تكرار مثل هذه الأمور”.

كما طالب بإنهاء اضطهاد الأقليات الدينية والأصلية والإثنية. وفي زيارة رسمية في تموز (يوليو) 2022، اعتذر البابا للمجتمعات الأصلية في كندا عن دور الكنيسة الكاثوليكية في إساءة معاملة الأطفال الأصليين في المدارس الداخلية، واصفًا الاستيعاب الثقافي القسري بأنه “شر” و”خطأ كارثي”.

كان البابا، وهو محبٌّ للطبيعة، مؤيدًا صريحًا للبيئة، وكثيرًا ما استخدم المنصّات العامة لنشر رغبته في معالجة تغيُّر المناخ. في الفترة التي سبقت مؤتمر “كوب 26” في غلاسكو في العام 2021، دعا البابا فرنسيس إلى استجابة عاجلة لـ “التهديد غير المسبوق” لتغير المناخ، بينما أثار غضب الرئيس البرازيلي آنذاك جايير بولسونارو بعد حثه الكاثوليك على الغضب إزاء تدمير غابات الأمازون المطرية ودعوته إلى حماية الموائل. قال للقادة الدينيين في العام 2021: “لن تغفر لنا الأجيال المقبلة أبدًا إن فوَّتنا فرصة حماية وطننا المشترك”.

ولفت الانتباه إلى محنة اللاجئين، وأصرّ على أن يكون العالم مكانًا “يعيش فيه الجميع بسلام ورخاء”. وفي نهاية المطاف، كان شغفه بالتواصل مع الناس، أيًا كانوا، ونشر الدفء بين البشرية جليًا، سمةً سيُذكر بها. وكما قال في العام 2016: “أرى بوضوح إنَّ ما تحتاجه الكنيسة اليوم أكثر من أيِّ شيء آخر هو القدرة على مداواة الجراح وتدفئة قلوب المؤمنين؛ إنها بحاجة إلى القرب والتواصُل”.

  • هاني مكارم هو مدير تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى