كيفَ انفصلْتُ عن جسَدي… وعُدتُ إِليه
هنري زغيب*
إِنه يومُ القيامة! يومُ الذي وطِئَ الموتَ بالموت، وعلَّقَ الأَرض على المياه!
إِنه يومُ عودةِ الروح إِلى الجسد بعد انفصالها عنه على جبل الجُلجُلة.
أَيُّ سرٍّ هذا: أَن تنفصلَ الروحُ عن الجسد، وأَن تعودَ إِليه!
حين قرَّر الجرَّاحُ العَلَم الدكتور شاهين شاهين عاصي أَلَّا أُعطى البَنْج العموميَّ لعملية استبدال وَرِكي الطبيعيةِ بِوَرِكٍ صناعيةٍ، وأَمَرَ بأَن أُعطى البَنْج الموضِعيّ لتخدير الجُزء الأَسفل فقط من جسدي، لم يكُن يدري ما سيكون لي مع هذه التجربة التي عشتُها هذا الأُسبوع في “مركز الجامعة اللبنانية الأَميركية الطبي-مستشفى رزق” (LAUMCRH)، ولم يكن لي أَن أَعيشَها لَو خدَّرني كليًّا.
ذلك أَنني بقيتُ صاحيًا، في كامل وعيي، رأْسي مغطًّى بحِرام واسع، أَسمع ولا أَرى. كان يتناهى إِليَّ الحوارُ بين الجرَّاح ومساعديه، وأَسمع أَوامرُه لِمَدِّه بالآلات الطبية المطلوبة للجراحة. هكذا رحت أَسمع طلبَه المبضع، ثم طلبَه المنشار، ثم طلبَه مطرقةً راح يضرب بها مكان غرْزِه الوَرِكَ الصناعيةَ في جسدي، وأَنا لا ينتابني أَيُّ أَلَـمٍ بفضل البَنْج المخدِّر.
أَحسستُني انفصلْتُ عن جسدي… مطرقةٌ تضرب جسدي، أَسمع صوتها تنهال على أَعلى فخذي، ولا أَشعرُ بأَيِّ أَلَم.
رحتُ في إِغراقٍ من التفكير بَعيد: أَيكون هذا هو انفصالَ الروح عن الجسد عند لحظة النَزْع الأَخير حين يتوقَّف النفَس نهائيًّا بتوقُّف آخر نبضة في القلب؟ أَيكون هذا هو المسَمَّى الموت: تلك اللحظةَ الأَخيرةَ السريعةَ القاصمةَ آخرَ نبضةٍ تُطفِئُ سنواتٍ من العمر ممتَلئاتٍ نشاطًا ونتاجًا وحبًّا وسعادة؟
والروح؟ ما الروح؟ هل هي النبضةُ في القلب، والومضةُ في الدماغ، واكتمالُ وظائف الجسد؟
وهل تعود الروح إِلى الجسد؟ أَو إِلى جسد آخر؟ أَم تنطفئُ بموت الجسد؟ وهل عودةُ الروح هي القيامة التي نحتفل اليوم بها؟
هل الروحُ تلبَس الجسد؟ أَم هو الجسدُ يلبَس الروح، فيعيشان معًا متعاونَين سنواتٍ تنقصف عند النَزْع الأَخير؟
والعقْل؟ أَين العقْلُ الـمُحْـيـي الـمُنَظِّم؟
أَسئلةٌ… أَسئلةٌ وجوديةٌ راحت تجول في أَفكاري، تدور في تطلُّعاتي، فيما أُحسُّني منفصلًا عن جسدي بين يَدَي طبيب مُدهش الدقة، أَعرف أَنْ سيُعيدُ ليَ النبْض في جسدي بعد زوال البَنْج.
فكَّرتُ بمن ماتوا ولم يَدْروا لماذا وكيف. فكَّرتُ بمن يُواجهون بدون بَنْجٍ موتًا بطيئًا يعرفون أَنه آتٍ إِليهم في لحظة لا تَرحم.
غريبٌ هذا التفكير… غريبةٌ هذه الهواجسُ انتابتْني طيلةَ ساعةٍ متلاطمة المشاعر، عشتُها في غرفة العمليات الجراحية.
حين استعدتُ سريري في غرفة المستشفى، وزال مفعولُ البَنج، واستعدتُ جسَدي، تساءَلتُ: هل سيبلُغ العلْم يومًا أَن يتخطَّى لحظة النَزْع الأَخير؟ أَعياني التفكير فانطوَيْتُ عليه، لكنَّ إِيماني كبيرٌ بالعلْم واكتشافاته.
المجدُ للعلْم وأَعلامه. والمجدُ للطب وتطوُّراته.
والتحيةُ الأَعلى لِمايسترو جراحة العظم: الدكتور شاهين شاهين عاصي الذي، بتخديره إِياي نصفيًّا، منحَني فرصةَ أَن أَتأَمَّلَ كيف انفصلتُ عن جسدي، وكيف عُدتُ إِليه.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib