هل هناك “حربٌ صليبية” من نوعٍ جديد على الشرقِ الأوسط؟
يعتقد بعض المراقبين وخبراء الشرق الأوسط بأنَّ هناك حربًا صليبية من نوعٍ جديد هبت منذ فترة على منطقة الشرق الأوسط وهي الآن في طورها الأخير منذ هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أمتوبر) 2023.

الدكتور داوود البلوشي*
منذ أن دوّت صرخات الحملة الصليبية الأولى في أوروبا في نهاية القرن الحادي عشر، لم تهدأ نار الصراع بين الشرق والغرب، بين العالم الإسلامي والمشروع الغربي ذي الجذور الدينية والسياسية العميقة. صحيح أنَّ الجيوش الصليبية القديمة قد هُزمت، وأن صلاح الدين الأيوبي استعاد القدس، لكن الروح التي أطلقت تلك الحملات لم تمُت، بل أُعيدَ إنتاجها في صور جديدة، أكثر دهاءً وعمقًا وتأثيرًا.
لقد عادت “الحرب الصليبية” في القرن العشرين بثوبٍ ديبلوماسي استعماري، وذلك في اجتماع البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو في العام 1916، اللذين وقّعا إتفاقية “سايكس-بيكو” التي قسّمت المشرق العربي لمناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا، وفي الوقت نفسه وعدت المملكة المتحدة بدعمِ “إقامةِ وطنٍ قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين” من خلال وعدٍ تعهدَّ به في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 وزير الحارجية آنذاك آرثر بلفور باسم الحكومة البريطانية إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا من طريق اللورد ليونيل دي روتشيلد. فكانَ “وَعدُ بلفور” بدايةَ تأسيسِ كيانٍ استيطاني غريب عن نسيج المنطقة. ثم جاءت موجات الحروب، والانقلابات، والغزوات تحت شعارات “نشر الديموقراطية”، و”حقوق الإنسان”، بينما الهدف الحقيقي ظل ثابتًا: السيطرة على قلب الأمة الإسلامية، وتفكيك كل ما يشكّل تهديدًا لمشروع الهيمنة الغربية-الصهيونية.
اليوم، وبعد قرن كامل من إعادة رسم المنطقة، تقف غزة في واجهة الحرب، تواجه وحدها المشروع في مرحلته النهائية، في ظل تواطؤ دولي، وصمت عربي، وانكشاف الأقنعة عن الوجه الحقيقي لما نسمّيه “الحرب الصليبية الحديثة”.
أولًا: الجذور التاريخية – الحروب الصليبية وإرثها السياسي والديني
الحروب الصليبية لم تكن مجرّد حملات عسكرية ذات طابع ديني، بل كانت مشروعًا متكاملاً يحمل خلفه أطماعًا اقتصادية واستراتيجية وثقافية. أطلقت الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا دعوة لتحرير “أرض المقدس” من المسلمين، ولبّت ممالك أوروبا النداء، مدفوعة بطموحات النبلاء، وأزمات أوروبا الاقتصادية، والحاجة إلى فتح أسواق ومجالات توسُّع جديدة.
لكن هذه الحروب، رغم وحشيتها، كشفت عن جوهر الصراع: هيمنة الغرب المسيحي على قلب العالم الإسلامي، والسيطرة على مراكزه الدينية، والاقتصادية، والحضارية. ومع نهاية الحروب الصليبية العسكرية في أواخر القرن الثالث عشر، بدأت مرحلة جديدة من “الغزو الناعم”، من خلال البعثات التبشيرية، والاختراق الثقافي، ثم جاءت المرحلة الاستعمارية الحديثة.
بمعنى أدق: الحرب الصليبية لم تُهزم، بل غيّرت أدواتها وأسلحتها.
ثانيًا: إعادة إنتاج المشروع – من سايكس-بيكو إلى وعد بلفور
مع سقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وجدت القوى الاستعمارية الأوروبية نفسها أمام فرصة ذهبية لتحقيق ما عجزت عنه الحملات الصليبية بالسيف، عبر أدوات الديبلوماسية والخداع السياسي. فجاءت اتفاقية سايكس-بيكو لترسم حدودًا مصطنعة بين بلاد المشرق العربي ومصر وشبه الجزيرة العربية، ويحوّل وحدة الأمة إلى كانتونات متنازعة، تُحكَمُ كل منها بوصاية غربية مباشرة أو غير مباشرة.
وفي هذا السياق، جاء وعد بلفور بمثابة “الوعد المقدس” للمشروع الصهيوني: بريطانيا، الدولة المنتصرة، تتعهّد لليهود بإنشاء وطن قومي في فلسطين، بدون أيِّ اعتبارٍ للسكان الأصليين أو الحقوق التاريخية. لكن ما يجب التوقف عنده هنا، هو البُعدُ الديني العميق في هذا الوعد. لم يكن وعدًا سياسيًا فقط، بل كان مُحَمَّلًا برمزية العودة إلى “أرض الميعاد”. وبذلك بدأت الحرب الصليبية الحديثة، لكن هذه المرة بأدواتٍ استعمارية، تحت شعارات الحضارة، التنوير، وتحرير الشعوب من الاستبداد، بينما الهدف الحقيقي كان واحدًا، زرع كيان غريب في قلب الأمة الإسلامية، لضمان تفتيتها ومنع نهوضها. وهذا يثبت تكرارًا واضحًا للخطاب الصليبي القديم.
ثالثًا: المشروع الصهيوني كأداة مركزية للحرب الصليبية الجديدة
الكيان الصهيوني لم يُؤسَّس كدولةٍ طبيعية تسعى إلى التعايش مع جيرانها، بل كـ”قاعدة عسكرية-دينية” متقدِّمة للغرب في قلب المنطقة العربية. منذ نشأته، وهو يتلقّى دعمًا مفتوحًا من أوروبا وأميركا: عسكريًا، اقتصاديًا، سياسيًا، وحتى لاهوتيًا. والسبب ببساطة أنَّ إسرائيل ليست فقط حليفًا استراتيجيًا، بل تمثل في نظر الغرب امتدادًا لروحه الدينية والتاريخية في المنطقة. ومن التداعيات المؤكّدة بأنَّ التيار المسيحي-الصهيوني في الولايات المتحدة، يؤمن بأنَّ قيام إسرائيل هو شرط ل“نزول المسيح”، وأن دعمها واجب ديني قبل أن يكون سياسيًا. ولذلك، نرى هذا الدعم الثابت رُغم كل المجازر التي تُرتَكب، بل يُبرَّر دينيًا بأنها “حرب بين شعب الله وأعدائه”.
وكما إن المشروع الصهيوني تحوّل إلى أداة لتفتيت المنطقة وتفجير تناقضاتها الداخلية: دعم الأقليات، إذكاء الصراعات الطائفية، إشغال الدول العربية بحروب داخلية، ليبقى الكيان في مأمن. ومن هنا نفهم لماذا تكون كل دولة أو حركة مقاومة –سواء في فلسطين، لبنان، إيران، العراق، اليمن– هدفًا مباشرًا لهذا المشروع. لأن وجودها يتناقض مع الفلسفة الإسرائيلية بانه يجب أن تكون المنطقة ضعيفة ومنقسمة وتحت السيطرة وإبقاء حلم الأمة في الوحدة والنهضة معطَّلًا.
رابعًا: محطات الحرب الصليبية الحديثة في الوطن العربي
غزو العراق في العام 2003 باسم الحرية لم يكن مجرد حرب على “أسلحة دمار شامل” لم توجد أصلًا، حيث تم إسقاط الدولة وحلّ الجيش وإنشاء نظام سياسي طائفي ممزق وخُلق فراغ سُمح لتتحول أرض الرافدين إلى ساحة دموية مستمرة. بل كان عملية صليبية بكل المعايير الحديثة، كما وصفها الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بنفسه في تصريح شهير ولم تكن زلة لسان، بل انعكاس لحقيقة أن الحرب كانت تستبطن بُعدًا دينيًا والذي قال فيه في العام 2001 : “هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب، سوف تستغرق وقتًا طويلًا”.
تدخل الناتو في ليبيا في العام 2011، بحجة “حماية المدنيين”، لم يكن إلّا أداة من أدوات إعادة تشكيل المنطقة. قُتل العقيد معمر القذافي في مشهد صادم، وانهارت الدولة بالكامل. ونتيجة ذلك، اصبحت الدولة ممزقة تحكمها الميليشيات ونشآ صراع دولي على ثرواتها الهائلة، والأسوأ وجود فراغ أمني يستفيد منه الغرب في منع أيِّ مشروعٍ نهضوي.
سوريا كانت -ولا تزال- عقدة في حلق المشروع الصهيوني حيث انَّ نظام الأسد، رُغم ما كان فيه من استبداد، ظل حليفًا للمقاومة في لبنان وفلسطين، ورفض السير في مسار التطبيع. والحرب عليه جاءت تحت شعار “الثورة”، لكنها تحوّلت بسرعة إلى حرب عالمية ولمصالح خارجية على الأرض السورية. وتم تدمير بنية الدولة وتهجير ملايين السوريين وتحييد سوريا عن معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي لسنوات.
السودان المفصل الجنوبي تم اغراقها في الفوضى منذ انفصال الجنوب في العام 2011. فُرضت عليه العقوبات لعقود، ثم أُغرِي بالوعود بعد التطبيع مع إسرائيل، فانهار النظام، وتنازعت المليشيات على السلطة اخرجها من معادلة التأثير في الصراع مع الغرب وإسرائيل وكما إنَّ الموقع الجغرافي للسودان القريب من البحر الأحمر يجعله هدفًا حيويًا للمشروع الصهيوني الذي يسعى إلى السيطرة على الموانئ والممرات.
اليمن منذ 2015 يتعرّض لعدوان ممنهج والهدف المعلن هو “استعادة الشرعية”، لكن الواقع كشف عن محاولة السيطرة على موانئ ومضائق استراتيجية كـ باب المندب وتحييد أحد معاقل القوة العربية المقاومة. واللافت أن الضربات الإسرائيلية بدأت تطال العمق اليمني، خصوصًا بعد دعم “أنصار الله” لفلسطين وشنّهم عمليات على إسرائيل. مما يعزز نظرية أنَّ الحرب على اليمن جُزءٌ من المشروع الصهيوني-الصليبي الجديد.
الربيع العربي حلم الشعوب المختطف والذي بدأ كحراك شعبي نقي، ينادي بالحرية والكرامة، لكنه اختُطف عبر تدخلات خارجية ودعم قوى الثورة المضادة وتشويه الحراك وربطه بالتطرف. حيث اكد المحلل البريطاني “روبرت فِسك” والذي كتب مبكرًا في صحيفة “الإندبندت” (The Independent) اللندنية عن أنَّ “ما يحدث في العالم العربي يشبه كثيرًا إعادة إنتاجٍ ل”سايكس-بيكو” ولكن من الداخل هذه المرة”. وأنَّ فشل “الربيع العربي” لم يكن فقط بسبب ضعف الشعوب، بل بسبب تقاطع مصالح غربية وإقليمية لإجهاض أي فرصة لولادة مشروع عربي مستقل.
خامسًا: فلسطين – جوهر المعركة وصليب القرن
فلسطين لم تكن يومًا قضية حدود، بل كانت ولا تزال قضية وجود. ومنذ اللحظة التي وُعدت فيها أرضها لـ” شعب آخر”، بدأت الحرب الصليبية الحديثة تأخذ شكلها الأكثر وقاحة ووضوحًا. وذلك من وعد بلفور إلى إعلان دولة الاحتلال (1948)، تم زرع كيان صهيوني في أرض مأهولة بشعب عريق، في خرق فاضح لكل القوانين الإنسانية. وكما بدأت عمليات التهجير القسري، والتطهير العرقي، وارتكبت عصابات “الهاغاناه” و”شتيرن” و”الأرغون” مجازر لا تُحصى، مثل دير ياسين وطنطوره. ورفضت الدول الغربية عودة اللاجئين، بل دفعت الأنظمة العربية لإجهاض أي مقاومة جادة. والقدس ليست فقط مدينة، بل رمز ديني وروحي لكل أديان التوحيد، وخصوصًا الإسلام. وقد أدرك الغرب، منذ الحروب الصليبية، أنَّ السيطرة عليها تعني السيطرة على قلب العالم الإسلامي. والسابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بعملية “طوفان الأقصى” يعتبر نقطة تحوّل تاريخية ولم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كسرًا استراتيجيًا للهيبة الصهيونية ولأسطورة الجيش الذي لا يُقهر. والرد الإسرائيلي والغربي كشف اوجههما الحقيقية من هذه الحرب وهو الإبادة الجماعية العلنية واستخدام المجاعة كسلاح. كما اتضح التواطؤ الغربي في الدعم العسكري والتغطية الإعلامية والفيتو المتكرر ضد أي قرار أممي. وكما إنَّ التصريحات من بعض قادة الاحتلال الإسرائيلي والرئيس الاميركي دونالد ترمب تعكس ما يبدو أنه خطة ترحيل جماعي للفلسطينيين إلى مصر والأردن من غزة وجعلها منتجعًا سياحيًا وهذه بلا مبالغة المرحلة الأخيرة من الحرب الصليبية على فلسطين.
سادسًا: البُعد الديني والاستراتيجي للصراع
الصراع في جوهره ليس فقط على الأرض، أو الموارد، أو النفوذ، بل هو صراع رؤى كونية ومشاريع حضارية. ولهذا يحمل طابعًا دينيًا عميقًا، وإن تنكَّرَ في بعض مراحله خلف شعارات الحداثة والحرية والديموقراطية. وهنالك تيارات دينينة واسعة في أميركا – تؤمن بأن “عودة اليهود إلى الأرض المقدسة” شرط لنزول المسيح، وقيام “معركة هرمجدون”، التي ستنتهي بانتصار المسيح على قوى الشر، ومن ثم يبدأ العصر الألفي السعيد. وهذا ما يفسر تصريح الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان بانَّ “جيلنا هو الجيل الذي سيرى نهاية التاريخ وعودة المسيح، والمعركة الكبرى ستبدأ في الشرق الأوسط”.
كما إنه ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرة “الديانة الإبراهيمية” لإعادة صياغة الدين لخدمة المشروع كمحاولة لدمج الأديان الثلاثة (الإسلام، المسيحية، اليهودية) في إطار دين كوني موحد يُقدّم كرسالة “سلام عالمي”. لكن في حقيقتها تمثل محاولة لتفريغ الإسلام من جوهره التحرري والمقاوم، وتحويله إلى دين طقوسي منزوع الدافع الحضاري وشرعنة وجود إسرائيل ككيان طبيعي لتطبيع الوعي العربي مع الاحتلال الصهيوني، باعتباره شريكًا دينيًا لا عدوًا وجوديًا ولإعادة صياغة العقيدة السياسية للشعوب المسلمة، وفق منطق التبعية والسلام بالإكراه. والخطورة أن هذا المشروع لا ينطلق من أرضية الحوار، بل من موقع الهيمنة، وهو نسخة دينية محدثة من سايكس-بيكو العقائدي، هدفه الأساسي تثبيت إسرائيل كـ”مركز ديني وسياسي” في المنطقة.
- الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعةالسوربون. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.