لا… لبنان ليس وطنًا مستحيلًا
هنري زغيب*
قبل اثنَتَي عشْرة سنةً، وكنتُ أَزور الصديق الشاعر اللبناني جوزف صايغ، فاتَحَني بأَنه يَجمع في كتابٍ باقةً من مقالاته المنشورة في صحفٍ معظمُها احتجبَ اليوم، وقال إِنه سيعنونه “لبنان الوطن المستحيل”. حاولت ثَنْيَهُ عن هذا العنوان السلبي، وهو الشاعر المكرَّس، والكاتب اللبناني المولَّه بلبنان وحضارة لبنان، فوعَدَ بتغييره. وحين صدر الكتاب سنة 2013 بالعنوان ذاته، كتبتُ لـزاويتي الأُسبوعية “أَزرار” في جريدة “النهار” أَلومه على العنوان، فعاتبَني يومَ زُرتُه بعدها وعاتبتُه، وانتهى الحوار بما فهمت منه أَنْ كان يشكو مما آلت إِليه الحال في لبنان. وعندما مات جوزف صايغ سنة 2020، كتبتُ أَنه غاب عن لبنان الوطن الذي كان يحبُّه حتى الوله، متشرِّبًا حبَّه من صديقه ومعلِّمه سعيد عقل.
حيال هذا الواقع، وحيال ما أَسمع حولي، اليوم وكل يوم، بأَنَّ لبنان وطن مستحيل، أَجِدُني مضطرًا إِلى تأْكيد مقولتي الدائمة أَن نميِّز بين لبنان الوطن ولبنان الدولة. وجوزف صايغ، حين كان يزور لبنان شهرًا كلَّ صيف، ويتصومع داخل منزله في زحلة، كان يشكو من اهتراء متمادٍ في لبنان، يُتابعه من مسكنه في باريس، ويُعاينُه كلَّما جاء صيفًا إلى لبنان ولا يجد فيه أَيَّ تَقَدُّم أَو تطوُّر.
أَيضًا وأَيضًا أُعيد: الوطن هو السجل الحضاري لشعبٍ بنى ويبني تاريخًا مجيدًا ناصعًا يَترك بصمته في ذاكرة العالم. وهو لا علاقة له بالدولة التي هي مجموعة هيئات معنوية يملأُها رجال سلطة يتولَّون حكْم هذا الشعب. فإِذا كانوا أَهل سلطة صالحين، ملأُوا الدولة بجدارة وصلاح، ومعهم تغدو الدولة في خدمة الوطن. وإِن كانوا فاسدين، فسُدَت معهم وبهم الدولة فيَشيع في الناس، قريبيهم والبعيدين، محليِّيهم والغرباء، أَنَّ لبنان وطن فاسد. وتروح شركات الإِحصاء تتبارى بجعل لبنان في أَسفل سلَّم الدول الفاسدة أَو الفاشلة أَو التاعسة، ويكون ذلك التشويه بسبب أهل السلطة الذين يتعاقبون على حكْمه وتشويه صورته، ويكونون هم الذين أَوصلوا لبنان إِلى هذه الدرجة السفلى من التشويه.
أَما لبنان الوطن، لبنان الحضارة والتاريخ والسياحة والطبيعة والإِلفة والأَعلام الخالدين، فلا يؤَثِّر بهم تشويهُ الدولة، ولا فسادُ الحكم. العالم يعرف أَمين الريحاني، ولا يذكُر مَن كان في الحكْم على أَيامه. والعالم يعرف مصطفى فروخ، ولا يذْكُر مَن كان في السلطة على أَيامه. هكذا جميع المبدعين اللبنانيين هنا ولدى الـمَهاجر اللبنانية في العالم، باقون مناراتٍ خالدةً أَيًّا مَن هو عابرٌ في السلطة أَو زائل في الدولة. للوطن الخلود الدائم السائر في الزمان، ولأَهل السلطة المتغيِّرين حضورُهم الموَقَّت في دولةٍ تتغير وجوهها بتغيُّر المسؤُولين فيها.
ولأَنَّ الوطن الخالدَ خالدٌ بإِرثه المادي وغير المادي، ولأَنَّ الدولة متغيرة زائلة بزوال أَهل السلطة وخروجهم من الحكم وتاليًا من أَجهزة الدولة، نقول بثقةٍ إِن لبنان الوطن ليس مُستحيلًا، ولا حتى ممكنًا، بل هو كائنٌ منذ فجر التاريخ، وسيبقى خالدًا طالما في شعبه طاقات ومواهب. وليكن أَن المستحيل الوجود هو لبنان الدولة إِنِ استحالت على أرَكانها نهضتها، والممكن هو لبنان السلطة التي عليها إِمكان إنهاض لبنان من كبواته المتتالية. أَما لبنان الوطن، كما وصفتُه في هذا النص، فليس المستحيل بل الموجود بقوَّةٍ في ذاكرة التاريخ، وإِن كان يُزْهقُهُ قدَر الجغرافيا. لكن لبنان الوطن سائر في الزمن الساطع، وعلى السلطة في دولته أَن تتعالى حتى تصبح في مستوى خُلُوده… لبنان وطن مستحيل؟ لا. أَبدًا، مش صحيح. لبنان وطن خالد في الزمان، فلْنعملْ بجدية ومسؤُولية وانتماء، كي نستاهل أَن نكون حقًّا أَبناء هذا اللبنان الخالد.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib